|
التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 12:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة يُعتَبَرُ مفهوم التراث (أي إرث الماضي الثقافي والديني والفكري) من أكثر القضايا إثارةً للجدل في الفكر العربي الحديث. فبعد عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، برزت إشكالية كيفية التعامل مع التراث: هل نتبنّاه بوصفه مصدرًا لهويتنا وجوهرًا ثابتًا يجب إحياؤه والدفاع عنه؟ أم ننقده ونتجاوز ما عفا عليه الزمن فيه لنلحق بركب الحداثة؟ أم نحاول قراءته قراءةً جديدة نقدية بغية تفعيله في حياتنا المعاصرة؟ لقد تباينت مواقف المفكرين العرب تجاه هذه الأسئلة التباينَ كلّه؛ فمثلاً رأى طه حسين أن المنهج العلمي العقلي هو السبيل لفهم التراث ونقده، بينما اجتهد حسين مروة لتطبيق المنهج المادي التاريخي على دراسة التراث مبرزًا صراعاته الداخلية، في حين سعى غالي شكري لربط التراث بثورةٍ ثقافية شاملة، وحاول محمد أركون تجديد قراءة التراث الإسلامي بأدوات النقد الحديثة، ودعا محمد عاطف العراقي إلى إحياء نزعة العقلانية النقدية الكامنة في التراث.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة نقدية منهجية ماركسية لمواقف عددٍ من هؤلاء المفكرين من قضية التراث وسبل تجديد قراءته. سنحاول تحديد الأسس المنهجية والفلسفية لكل موقف، ثم نقوّمها من منظور ماركسي يرتكز إلى المنهج المادي التاريخي وفكرة ارتباط الثقافة والفكر بالصراع الاجتماعي والطبقي. المنهج الماركسي لا ينظر إلى التراث كمجموعة نصوص معزولة أو أفكار خالدة فوق التاريخ، بل بوصفه نتاجًا تاريخيًا نشأ في سياق تطور المجتمع وانعكاسًا لصراعاته . ومن ثم ففهم أهميته وتحديد ما فيه من عناصر تقدمية أو رجعية يقتضي تحليل ظروف نشأته الاجتماعية وتوظيفه الأيديولوجي عبر العصور. سنركز على إبراز البعد الأيديولوجي في التعامل مع التراث: كيف تعكس كل قراءة للتراث موقعًا اجتماعيًا أو موقفًا أيديولوجيًا معينًا (سواء كان ليبراليًا علمانيًا أم ماركسيًا اشتراكيًا أم إسلاميًا تجديديًا)، وكيف يرتبط ذلك بالواقع العربي المعاصر وصراعاته الفكرية والاجتماعية. وبذلك، نطمح أن تسهم هذه الدراسة في توضيح أن معركة التراث في جوهرها هي جزء من معركة الحاضر، وأن تجديد قراءة تراثنا لا ينفصل عن مشروع النهضة المجتمعية والتحرر الفكري الشامل.
المنهج المادي التاريخي وترابط التراث بالصراع الطبقي
قبل الخوض في مواقف المفكرين، يجدر بنا توضيح الإطار النظري الماركسي الذي نتبناه في هذه القراءة النقدية. ينطلق المنهج الماركسي من أن الأفكار والثقافة - بما في ذلك ما نرثه من الماضي - ليست كيانات منفصلة عن واقعها المادي، بل هي نتاج تاريخي تطوري يعكس البنية الاقتصادية والاجتماعية لصيرورة المجتمع. فالتراث بمعناه الفكري ليس مجموعة حقائق أزلية ثابتة، بل ظاهرة تاريخية متغيرة ومتعددة المستويات . وقد شدّد المفكر الماركسي اللبناني حسين مروة على هذه النظرة بقوله إن تراثنا الفكري العربي-الإسلامي شأنه شأن أي نتاج حضاري آخر “ظاهرة تاريخية، متناقضة، متصارعة” ؛ أي أنه ليس كيانًا صلبًا واحدًا، بل ميدانٌ تحتوي جنباته على تيارات واتجاهات متنوعة تعكس تناقضات المجتمع الذي أبدعها وصراعات طبقاته. ومن هنا، فكل قراءةٍ للتراث تغفل طابعه الصراعي التاريخي محكومةٌ بأن تكون قراءةً ناقصة أو مشوّهة.
وفق المنهج المادي التاريخي، لا يمكن فهم أي إنتاج فكري (كالفلسفة أو الأدب أو اللاهوت) إلا بردّه إلى الظروف المادية التي ولدته وإلى الموقع الاجتماعي لمن أنتجه. وعليه، فإن التراث الفكري يحمل دائمًا بصمات الصراع الاجتماعي لعصره: فهو يتضمن عناصر تقدّمية ثورية عكست مصالح قوى اجتماعية مناهضة للاستبداد والجمود، وفي المقابل يحتوي على عناصر رجعية محافظة خدمت القوى المهيمنة أو تعبّر عن وعي زائف ساد في حقبة ما. ومن هنا دعا الماركسيون العرب إلى إعادة قراءة التراث قراءةً علمية موضوعية تستهدف كشف هذه الطبيعة الحركية المتناقضة للتراث. يقول حسين مروة بهذا الصدد: “إن المنهج الماديّ التاريخيّ وحده القادر على كشف تلك العلاقة (أي العلاقة الجدلية بين الفكر وزمنه) ورؤية التراث في حركيّته التاريخيّة” ؛ فهو القادر على استيعاب التراث بكامل أبعاده ورؤية قيمته بصورة نسبية مرتبطة بزمانها، وعلى تمييز ما لا يزال حيًا وضروريًا منه في حاضرنا . وبذلك، يصبح التراث امتدادًا للماضي في الحاضر يمكن توظيفه نقديًا في معركة الحداثة والتقدم، بدل أن يُترَك إمّا جامدًا يحنّط الماضي أو مُشوَّهًا بأوهام أيديولوجية. وقد حذّر المفكر الماركسي مهدي عامل من النزعتين السائدتين الخاطئتين في التعامل مع التراث: نزعة تدعو إلى القطيعة المطلقة مع التراث باعتباره عائقًا أمام النهضة، ونزعة تدعو إلى إحيائه والعودة إليه بوصفه الحلّ السحري لمشكلات الحاضر. ويرى مهدي أن كلتا النزعتين تتسمان باللاتاريخية؛ إذ تغفلان أن الإشكال الحقيقي ليس في ذات التراث بل في كيفية إنتاج المعرفة العلمية بهذا التراث وفهمه في سياقه . يقول: “فمشكلة التراث ليست إحياؤه أو العودة إليه – وفي الحالتين استحالة – بل هي في إنتاج المعرفة العلمية بهذا التراث الذي هو موضوع معرفة” . من هنا، فإن الواجب هو دراسة التراث كموضوع تاريخي لفهم واقعنا وتحدياته، لا اتخاذه ذريعة أيديولوجية للتغطية على أزمة الحاضر أو تبرير تخلف البنية الاجتماعية. وقد انتقد مهدي عامل بشدّة أطروحات ما سُمّي بـ”الأصالة والمعاصرة” عند بعض المفكرين العرب، معتبرًا أنها بقيت أسيرة نظرة مثالية تفصل التراث عن تاريخه وعن صراعاته الحقيقية . بدلًا من ذلك، يقدّم المنهج الماركسي أفقًا يتجاوز ثنائية التغريب والتأصيل عبر تحليل شروط نشأة التراث التاريخية وربط تطوره جدليًا بتطور المجتمع.
إن تطبيق هذا المنهج على التراث العربي-الإسلامي يعني، باختصار، نزع القداسة عن التراث وفهمه بوصفه نتاجًا اجتماعيًا تاريخيًا، دون إنكار قيمته أو أهميته. فالتراث ليس مجموعة من المسلّمات أو البدهيات، كما يذكر غالي شكري، بل هو “مجموعة من الإجابات على أسئلةٍ طرحها الوجود على السلف” . وبالتالي، فكل جيلٍ يتعامل مع تراث من سبقه انطلاقًا من مشاكله الراهنة وأسئلته الجديدة. من هنا ننطلق لدراسة مواقف المفكرين العرب المحدثين من التراث، آخذين بالاعتبار خلفيتهم الاجتماعية والتاريخية، بهدف تبيان كيف تشكلت قراءاتهم ضمن صراع القديم والجديد في مجتمعاتهم. وتجدر الإشارة أيضًا إلى ما أكّد عليه الاقتصادي المصري سمير أمين في تشخيصه لإخفاق مشروع النهضة العربية في القرن العشرين، إذ يرى أن تلك النهضة بقيت منقوصة لأنها لم تُنجز القطيعة الضرورية مع التصورات التراثية التقليدية ولم تستوعب ضرورة العلمانية الشاملة لتحرير المجال السياسي والفكري . فقد ظلت مفاهيم مثل الدولة والمجتمع والعلم حبيسة تأويلات ماضوية تحول دون انطلاق التجديد الحقيقي. هذه الملاحظة تقيم الدليل على أن التجديد الحقيقي للتراث مرتبطٌ بشرط تاريخي هو الثورة الفكرية الشاملة التي تقطع مع العوائق الإقطاعية والما قبل حديثة في البنية الثقافية. في ضوء هذه الرؤية، سنحلل فيما يلي نماذج مختارة لمقاربات التراث عند بعض رواد الفكر العربي الحديث، لنرى إلى أي مدى اقتربت أو ابتعدت عن هذا الأفق المادي التاريخي.
طه حسين وتراث العقلانية النقدية يمثّل طه حسين (1889–1973) نموذجًا مبكرًا للمثقف العربي الذي اصطدم بالتراث مستخدمًا أدوات النقد العقلاني الحديثة. فعميد الأدب العربي قاد في عشرينيات القرن العشرين واحدةً من أشهر المعارك الفكرية حول قراءة التراث، عندما أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي» (1926) الذي شكّك فيه بنسبة كثير من الشعر العربي القديم إلى عصر ما قبل الإسلام، داعيًا إلى إخضاع هذا الشعر ومن ثم مجمل التراث العربي لمنهج الشكّ الديكارتي والبحث العلمي الحديث. وقد أعلن طه حسين بجرأة منهجه منذ مقدمة كتابه، حيث قال بصراحة إنه سوف “يسلك في هذا البحث مسلك المحدَثين من أصحاب العلم والفلسفة” ، وإنه يريد أن يطبّق المنهج الفلسفي الديكارتي في دراسة الأدب العربي القديم. القاعدة الأساسية عنده هي أن “يتجرّد الباحثُ من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًّا تامًّا” ، فلا يسمح لعواطفه القومية أو الدينية بالتأثير على حكمه العلمي. ولشدّة ما كان حسين مُصِرًّا على هذا التجرد، نراه يؤكد: “نعم، يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به… يجب أن لا نتقيَّد بشيء، ولا نُذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح” . هذه الكلمات التي أطلقها في سياق حديثه عن منهجه أحدثت صدمةً لدى التيار المحافظ؛ إذ اعتُبرت تعديًا على قدسية الدين والقومية. والحقيقة أن طه حسين لم يكن يسعى لهدم التراث لمجرّد الهدم، وإنما كان يهدف إلى إحياء روح النقد التاريخي في دراسة تراثنا، بحيث ننظر إلى نصوصه (كالشعر الجاهلي مثلاً) نظرة علمية موضوعية للتثبت من صحتها التاريخية ومن قيمتها الأدبية، بعيدًا عن التسليم الأعمي بأقوال القدماء. وقد اعتبر أن القدماء – على علمهم وفضلهم – كانوا أسرى لعقيدتهم وتحزبهم، حيث “أخضعوا كل شيء للإسلام وحبّهم إيّاه” ففسّروا الأدب والفن تفسيرًا نابعًا من رغبتهم في تمجيد الدين لا من منطق البحث الحر. لذا دعا إلى عدم لوم القدماء على ما وقعوا فيه بحكم تأثرهم بزمانهم، بل أن نجتهد نحن ألا نتأثر بالميل إلى المحاباة وألا نُفسد العلمَ كما أفسدوه هم . كان طه حسين بهذا الطرح يتبنّى رؤيةً علمانيةً ليبرالية تعتبر أن تحديث المجتمع يستلزم نقد التراث والتخلص مما يعتبره خرافات أو مسلّمات بالية لا يقبلها العقل الحديث. وقد طبّق هذا المنهج ليس فقط في مجال الأدب الجاهلي، بل أيضًا في دراساته عن الشعر الأموي والعباسي، وفي قراءاته لشخصيات تراثية مثل المعري في كتابه «تجديد ذكرى أبي العلاء». بل إن مشروعه الأشمل تجلى في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» (1938) حيث دعا صراحةً إلى الأخذ بالنموذج الحضاري الأوروبي والأفكار الحديثة في التربية والمجتمع، مؤكدًا ضرورة الانفكاك من أسر التقليد والجمود. وبرغم ما أثاره من نقمة لدى التيارات الأزهرية والتقليدية – التي اتهمته بالإلحاد والتغريب – فإن موجة طه حسين النقدية كانت جزءًا أساسيًا من فجر النهضة العربية . يشير غالي شكري إلى أن جيل روّاد النهضة تصدّى بشجاعة لكثير من المشكلات الأساسية التي واجهت مجتمعنا مع الحضارة الأوروبية الوافدة، “وفي مقدمتها مشكلة العلمانية التي عالجها رفاعة الطهطاوي… ومشكلة الشعر الجاهلي التي عالجها طه حسين” . هكذا مثّلت أعمال طه حسين تحديًا جريئًا للتراث وقيم المجتمع التقليدي آنذاك، وأسهمت في فتح باب المناقشة حول قضايا كانت تعدّ من المحرّمات (كالتشكيك في منقولات التراث الديني والأدبي) .
من منظور ماركسي نقدي، يمكن القول إن طه حسين أدّى دورًا تاريخيًا مهمًا في علمنة الوعي العربي وفي بث روح النقد العقلي، وهو بذلك اصطف – موضوعيًا – مع القوى الاجتماعية الصاعدة (الأفندية المتعلمين والبرجوازية الوطنية الناشئة) التي كانت تطمح إلى بناء دولة حديثة على النمط الأوروبي. بيد أن مشروعه ظلّ نخبويًا إصلاحيًا أكثر منه ثوريًا جذريًا؛ فقد ركّز على إصلاح الفكر والثقافة عبر النخبة المتعلمة والاستفادة من النموذج الغربي، دون أن يتبنّى منظورًا صريحًا لتحليل البنى الاقتصادية أو علاقات القوى الطبقية في المجتمع. لذلك، ورغم نزوعه التقدمي، يلاحظ الماركسيون أن خطاب طه حسين اتسم ببعض المحدودية الطبقية: فهو خطاب ليبرالي برجوازي يدعو إلى القطيعة الفكرية مع معوّقات التراث، لكنه لم يطرح مثلاً مشروعًا لتعبئة الطبقات الكادحة في عملية التغيير الاجتماعي. كما أن إعجابه الكبير بالحضارة الأوروبية جعله أحيانًا يستهين ببعض عناصر التراث الشعبي والديني التي قد تكون حاملة لقيم مقاومة (مثلاً، لم يهتم كثيرًا بالتراث الصوفي أو التراث الفلاحي الشعبي). ومع ذلك، تبقى إسهاماته النقدية الرائدة أساسًا مهّد الطريق لمن أتى بعده من مفكري القرن العشرين كي يعالجوا إشكالية التراث بجرأة أكبر. فبعد طه حسين، أصبح التشكيك العلمي في الموروث والإلحاح على قراءته بمنهج حديث أمرًا مشروعًا في الفكر العربي – رغم استمرار المعارضة الشرسة من المحافظين. وخير دليل أن قضايا كتلك التي أثارها طه حسين (أصالة الشعر الجاهلي، منهجية نقد النصوص الدينية، فصل الدين عن التربية إلخ) ما زالت حتى اليوم تتردد أصداؤها في نقاشاتنا الفكرية، مما يبرز عمق البعد الأيديولوجي لصراعنا حول التراث.
حسين مروة وقراءة التراث بالمادية التاريخية على الضفة الأخرى من الفكر العربي، برز اتجاه اشتراكي ماركسي تناول مسألة التراث من زاوية مغايرة لتوجه طه حسين الليبرالي. ويُعتَبَر حسين مروة (1910–1987) من أهم أعلام هذا الاتجاه، حيث قدّم قراءة تاريخية جدلية للتراث العربي-الإسلامي ساعيًا إلى اكتشاف ما أسماه النزعات المادية فيه. في موسوعته الضخمة «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» (صدرت أجزاؤها بين أواخر السبعينيات والثمانينيات)، انطلق مروة من فرضية منهجية مفادها أن الفكر العربي الإسلامي الوسيطي لم يكن فكراً روحانياً خالصاً أو أحادياً كما يصوّره البعض، بل كان مسرحًا لصراع بين تيارين: تيار مادي عقلاني تقدمي من جهة، وتيار مثالي غيبي رجعي من جهة أخرى . وقد رأى أن الفلاسفة والعلماء الكبار (مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد) حملوا داخل أفكارهم بذورًا مادية علمية تعكس نضال العقل ضد هيمنة الفكر الغيبي اللاهوتي المدعوم من السلطات الإقطاعية والدينية في زمانهم. من هنا، فإن مهمة الباحث الماركسي هي استخراج تلك النزعات العقلانية التقدمية الكامنة في التراث وإبرازها، بوصفها تشكّل الجذور الفكرية العميقة لأي مشروع نهضوي علمي في حاضرنا .
اعتمد حسين مروة بشكل صريح على المنهج المادي التاريخي في قراءته للتراث. وقد بدأ جهده النقدي بتقييم المناهج السابقة لدراسة التراث، فانتقد بشدة القراءات اللّا تاريخية التي تعاملت مع التراث كنصوص ثابتة خارج سياقها . وأشار إلى أن معظم الدراسات العربية (والاستشراقية أيضًا) للتراث قبل مشروعه اتسمت إما بالنظرة الشخصانية المثالية التي تُرجع كل فكر إلى عبقرية فردية معزولة متناسيةً الشروط الاجتماعية لنشأته ، وإما بالنظرة الميكانيكية التبسيطية التي تصوّرت نقل التراث اليوناني إلى الحضارة الإسلامية كعملية آلية أحادية الجانب ، أو بالنظرة العرقية المركزية التي تحطّ من إبداع العقل العربي وترده لجنس أو عرق . في المقابل، دعا مروة إلى منهج ينظر للتراث باعتباره جزءًا من التاريخ الاجتماعي، له بنية داخلية مرتبطة بتطور المجتمع وصراعات طبقاته. فهو يرى – كما أسلفنا – أن التراث صورة “نابضة بحركة التاريخ نفسه” الذي أبدعه، ولا يمكن فهمه بمعزل عن الارتباط الجدلي بين الفكر والزمن . ومعنى ذلك عنده أن كل فكرة في التراث إنما هي ابنة ظروفها الموضوعية، لا مجرد تأملات ذاتية في فراغ. وعلى هذا الأساس، يرفض مروة النظرة إلى التراث ككلٍّ واحدٍ صلب، ويؤكد أنه متعدّد التيارات يعكس الصراع بين القوى التي صنعت تاريخه . فإذا وجدنا مثلاً في الفلسفة الإسلامية تيارًا عقلانيًا تنويريًا (يمثله المعتزلة والفلاسفة) وتيارًا ظلاميًا معاديًا للعقل (يمثله الغزالي وبعض الأشاعرة وفقهاء الجمود)، فإنما يدلّ ذلك على وجود قوى اجتماعية ثورية متنورة كانت تُعبِّر عن نفسها عبر الفكر العقلاني، في مواجهة قوى اجتماعية محافظة كانت تتبنّى الفكر النقلي الغيبي لتبرير سلطتها. ويذهب مروة إلى أن إظهار هذا الجانب الثوري العقلاني في التراث هو معركة بحد ذاتها، إذ به يصبح التراث جزءًا من الراهن ومن حياة القوى الثورية اليوم ؛ أي أن وصل الحاضر بذلك الميراث العقلاني يساهم في تخطي القراءات السلفية الرجعية التي تريد للتراث أن يظل قوةً معيقة لتحرر الإنسان . وقد صرّح مروة بانحيازه الأيديولوجي الواضح في قراءة التراث لصالح القوى التقدمية، قائلًا إن دراسته للتراث تنطلق من “موقع الاشتراكية العلمية أيديولوجيًا” . وهو لا يرى في ذلك حيفًا للبحث الموضوعي، بل يعتبر أن تبنّي منظور الطبقات الكادحة والثورية هو الذي يكشف حقائق التراث المنحازة دومًا – بشكل صريح أو مستتر – إلى إحدى الطبقات أو المصالح. وربما جلب عليه هذا المنحى النقد؛ حيث رأى بعض خصومه أن قراءته ماركسية مؤدلجة تسقط مقولات جاهزة على التراث ، لكن أنصاره اعتبروا ذلك ضرورة لكسر هيمنة القراءات البرجوازية أو الاستشراقية المشوِّهة للتراث .
لقد توصّل حسين مروة عبر منهجه هذا إلى نتائج مهمة. فهو مثلاً أعاد الاعتبار لفلاسفة عقلانيين طالما اعتُبروا ملاحدة أو عناصر دخيلة، فبيّن أن فكرهم كان استجابةً طبيعية لحاجة التطور الاجتماعي في الحضارة الإسلامية (كالاستفادة من الفكر اليوناني لإغناء الحضارة في عصر الترجمة العباسي) . وكشف أن الكثير مما نعدّه اليوم فكرًا رجعيًا متخلفًا كان في زمنه يمثل تقدّمًا (مثل بعض رؤى الأشاعرة التي ساهمت في وقتها في توحيد ideologie الدولة المركزية)، وأن ما نعُدّه فكرًا تقدميًا ربما حورب وقُمِع من قبل السلطة لأنه خطر على مصالحها (كفكر المعتزلة وابن رشد الذي حورب من الخليفة الموحدي). أي باختصار، قدّم لنا صورةً حيّة للتراث كحلبة صراع فكري تتقاطع فيه خطوط التقدم والتخلف تبعًا لصيرورة المجتمع. وعلى سبيل المثال، يذكر مروة كيف أن التصوف الفلسفي لدى الحلاج والسهروردي انطوى رغم غيبيته على احتجاج اجتماعي وروحي ضد قهر السلطة ، وكيف حاول بعض المستشرقين ذوي النزعة الاستعمارية طمس الأبعاد العقلانية في فكر الفارابي وابن سينا وابن رشد وتصويرهم كصوفيين لإفراغ إرثهم من أي مضمون ثوري . مثل هذه التحليلات تظهر أهمية منظور مروة في الدفاع عن التراث التقدمي ضد التزييف.
ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى العلاقة الفكرية الوثيقة بين حسين مروة ورفيقه مهدي عامل. فقد وجّه مهدي عامل نقدًا لمن أسماهم “دعاة الأصالة والمعاصرة” الذين يعتقدون بإمكان تحديث الفكر العربي دون قطيعة إبستمولوجية مع تراثه الماضوي . وفي رسالة شهيرة كتبها مهدي عامل لتحية حسين مروة بعد صدور «النزعات المادية», قال مهدي مخاطبًا مروة: “تقول في مقدمة كتابك إن التراث شيء ومعرفة التراث شيء آخر… فمشكلة التراث ليست إحيائه أو في العودة إليه… بل هي في إنتاج المعرفة العلمية بهذا التراث” . ثم يمضي موضحًا أن العودة السلفية إلى الماضي أو الدعوات التوفيقية بين القديم والجديد لن تجدي ما دمنا لا نمتلك منهجًا علميًا لفهم التراث في سياق علاقاته الاجتماعية. وينبّه مهدي إلى خطر النظرة الوجدانية أو اليوتوبية للتراث – سواء عند بعض القوميين الذين يؤلّهون التراث بحثًا عن هوية مثالية، أم عند بعض الإسلاميين الذين يتوهّمون إمكانية استنساخ الماضي – مؤكدًا أن هذه النظرات أيديولوجية زائفة تخفي عجز البرجوازيات العربية عن إنجاز مشروع نهضوي حقيقي . بدلاً من ذلك، يدعونا المنظور الماركسي (كما طبقّه مروة وعامل) إلى جعل التراث موضوعًا للدراسة العلمية والتفكيك، بهدف فهم آلياته الداخلية وعلاقته ببنية مجتمعه، وبالتالي اكتشاف كنوزه الدفينة التي يمكن الاستفادة منها في معركة التحرر الراهنة . إن هذا الاستخدام الثوري للتراث – أي استنطاقه بحثًا عما يساعد في وعي الحاضر وتغييره – هو ما يميّز القراءة الماركسية عن غيرها. فالماركسي لا ينظر إلى التراث بتوقيرٍ سلبي ولا بتجاهلٍ مُطلق، وإنما يحاول استنقاذ العناصر الحيّة فيه وتوظيفها نقديًا. وقد عبر حسين مروة عن ذلك بقوله إن علينا وصل الحاضر بالماضي عبر جدلية ثورية تجعل من دراسة التراث جزءًا من مشروع التغيير الاجتماعي . ولا غرو أن حسين مروة دفع حياته ثمنًا لهذا المشروع الفكري، فقد اغتالته أيادي الظلاميين عام 1987 انتقامًا من منهجه الذي “تنخسف الظلامية كلما خطّت يداه النهج في بحث التراث؛ ترى فيه الصراع المستديم بين قوى القهر وقوى الحرية، بين العقل والجهل” كما رثاه مهدي عامل. هكذا يتضح أن قراءة مروة التراثية لم تكن تمرينًا أكاديميًا بحتًا، بل كانت جزءًا من حركة التحرر العربية ضد الاستبداد والتخلف، مما يبرز التلازم الوثيق بين فهم التراث وخوض الصراع الأيديولوجي في الواقع.
غالي شكري: التراث والثورة مثّل المفكر المصري غالي شكري (1935–1998) حلقة مهمة في سياق تطور النظرة النقدية إلى التراث في الفكر العربي، وخصوصًا في ظل المد القومي اليساري بعد هزيمة 1967. عايش شكري موجة صعود الحركة الناصرية واليسار في الستينيات ثم ما أعقبها من إحباطات في السبعينيات، وبلور رؤيته حول التراث خلال تلك الفترة في كتابه الشهير «التراث والثورة» (صدرت طبعته الأولى عام 1972) . في هذا الكتاب قدّم شكري رؤية نقدية عميقة للثقافة العربية محاولًا فهم العلاقة بين الواقع المصري وتراثه المتراكم ، ومستجليًا جوانب هذا التراث وصِلتَه بحركة الثورة وما بعدها. ينطلق شكري من مقولة أساسية وهي أنه “لا سبيل لثورة ثقافية عميقة دون أن تشمل قضية التراث بإعادة نظر جذرية تتناول كافة المحرَّمات التي عانى الفكر العربي من تجاهلها أمدًا طويلًا” . إن أول ما ينبغي عمله – برأيه – هو نزع هالة الغموض والتقديس الزائف التي أحاطت بكلمة “تراث”، وتأسيس منهج جديد للتعامل معه على ضوء منجزات العصر الحديث . ويؤكد ضرورة الربط الجدلي العميق بين النظرة إلى التراث والنظرة إلى المجتمع ، بحيث نفهم أن إعادة تقييمنا لتراثنا مرتبطة بتغيّر رؤيتنا لواقعنا وحركته التاريخية. ولا بدّ من طرح موضوع الأصالة والمعاصرة بشكل ثوري يتجاوز الطرح السطحي الشائع؛ إذ ينتقد شكري تلك الثنائية الزائفة التي تعتبر أن الأصالة = التمسك بالتراث كاملاً، والمعاصرة = الاقتباس من أوروبا فقط. هذا الطرح بنظره خاطئ ومبتور ، لأن الأصالة الحقيقية في رأيه ليست حبس أنفسنا في قفص الماضي، بل هي الانطلاق من واقعنا بكل مكوناته (ومن بينها التراث) لفهم ذاتنا وتطويرها. أما المعاصرة فليست مجرد التغريب، بل هي استخدام المنهج العلمي في التفكير ، وهو منهج عالمي إنساني. بعبارة أخرى، يدعو غالي شكري إلى استيعاب التراث ضمن حركة الواقع بدل وضعه في مواجهة الحداثة. ولتوضيح فكرته، يشير إلى أن أجيال الفكر العربي الحديث ظلت أسيرة هذا التناقض المفتعل بين الذات القومية الأصيلة والحضارة العالمية الحديثة. فقد “كان السلفيون من أدبائنا ومفكرينا يرون في التراث ملجأ لهم من الرياح القادمة من وراء البحار، وكان المجددون يرون في تلك الرياح قوة دافعة للشراع المطوي… وكان المعتدلون يقولون بقدم هنا وقدم هناك لضمان البقاء على أرضنا واستنشاق الهواء الجديد معًا” . لكن جميع هذه المواقف – في نظره – ظلت شكلية لأنها انطلقت من خلطٍ بين مفهوم الأصالة ومفهوم التراث . فلو أدركنا أن الأصالة تعني التجذّر في الواقع وحاجاته الفعلية، وليست مجرد تمجيد للماضي، لزال ذلك الالتباس. من هنا يقترح شكري إعادة صياغة معادلة الأصالة/المعاصرة بحيث تصبح: الأصالة = الواقع الراهن بعناصره المختلفة (وبينها الموروث)، والمعاصرة = منهج العلم والتفكير الحديث . هذه النظرة تُخرجنا من ثنائية “إما التراث وإما الحداثة” إلى مركّب جدلي يرى إمكانية امتلاك الحداثة (بأدواتها العلمية) من داخل واقعنا ومن خلال فهم موضوعي لتراثنا. وهي رؤية على تناغم كبير مع المنظور الماركسي الذي يرفض التخندق الثقافي ويدعو لاستيعاب منجزات الحضارة الإنسانية ضمن مشروع تحرري محلي.
لقد بنى غالي شكري طرحه مستفيدًا من زخم المدّ الثوري في زمانه. ففي أواخر الستينيات – كما يذكر – شهدت مصر حراكًا ديمقراطيًا قاده الشباب والمثقفون والعمال الواعون، سعوا فيه إلى قيادة البلاد نحو مستقبل واعد وتبديد الغموض الذي اكتنف التراث لسنوات طوال . في خضم تلك الفترة ظهرت تيارات سياسية ودينية شتى، ذات توجهات متباينة تحاول كل منها إسقاط رؤيتها الخاصة على التراث . أي أن التراث صار ميدانًا يتصارع عليه الجميع: الناصريون، الماركسيون، الإخوان المسلمون، السلفيون… إلخ، كلٌ يقرأه وفق أيديولوجيته. أدرك شكري هذه الحقيقة فحاول في «التراث والثورة» تحليل هذا الصراع الأيديولوجي حول التراث واستشراف طريق لتجاوزه باتجاه نهضة ثقافية حقيقية. وقدّم في الكتاب أمثلة ونقاشات شتى: من تقييمه لمشروع طه حسين وإرث عميد الأدب، إلى نقده للمقاربات الإسلامية السياسية التي تغالي في أسطرة الماضي، إلى حديثه عن الأدب والفن وعلاقتهما بالتراث بين الأصالة والمعاصرة . وخلاصته الأساسية أننا نحتاج إلى منهج تاريخي معاصر يدرس التراث بروح نقدية ثورية تمحو عنه غبار القداسة الزائف وتكشف لنا كيف يمكن أن يكون التراث قوة دافعة للثورة الثقافية لا قوة كابحة لها. وقد دعا إلى أن تكون أولى مهام الثورة الثقافية في الوطن العربي هي توضيح مفهوم التراث وانتشاله من الأوهام والخرافات، وتطوير أساليب دراسته . وهو هنا يلتقي مع الماركسيين في كثير من النقاط رغم أنه لم يعرّف نفسه ماركسيًا صريحًا. فمثلاً تشديده على الربط بين التراث والمجتمع عبر حركة التاريخ مطابق للطرح المادي التاريخي . كذلك نقده للتوفيقية السطحية بين القديم والجديد يوازي نقد مهدي عامل لدعاة “الأصالة والمعاصرة”. وكمثال تطبيقي، نجده يشيد بقوة بأطروحة علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» التي دعا فيها للفصل بين الخلافة (كنظام تراثي) والدولة الحديثة، معتبراً ذلك نموذجًا لكيفية مواجهة التراث الديني مواجهة عقلانية لصالح مشروع مدني حديث . في المقابل، انتقد شكري الذين حاولوا إحياء نظام الخلافة أو تطبيق الشريعة حرفيًا في العصر الحديث، لأنهم برأيه يقفون عند حرفية التراث لا روحه، ويحوّلون الدين إلى أيديولوجيا جامدة تعيق التطور. هذه المواقف جعلت كتاب «التراث والثورة» مرجعًا مهمًا في الفكر العربي التقدمي في السبعينيات، رغم أن مؤلفه دفع ثمن مواقفه اليسارية سجناً واضطهادًا في بعض الفترات .
إن القيمة الكبيرة لمساهمة غالي شكري تكمن في تأكيده أن التعامل مع التراث قضية سياسية/فكرية راهنة وليست نقاشًا أكاديميًا منقطعًا عن الواقع. فالطريقة التي نفهم ونستخدم بها تراثنا ستؤثر مباشرة في شكل المستقبل الذي نصوغه. وقد لخّص ذلك بقوله إن البحث في تراثنا يجب أن يكون جزءًا من البحث عن مستقبلنا؛ والتراث الذي لا يتجدد فهمه في ضوء حاجات الحاضر ليس إلا عبئًا على النهضة المرجوة. ومن هنا رفع شعار “تراثنا: الهدم والبناء” – وهو عنوان أحد فصول كتابه – قاصدًا ضرورة هدم الأصنام الفكرية والمسلّمات البالية في تراثنا، وبناء فهم جديد حيّ لتراث حيّ يمكن أن يمدّنا بأسباب النهوض (كالعقلانية والروح الإنسانية التي يزخر بها). بهذا المعنى، يلتقي غالي شكري مع حسين مروة في المنطلق (أن التراث ظاهرة تاريخية متناقضة يجب قراءتها بمنهج معاصر)، وإن اختلف الأسلوب والأداة. فشكري كتاباته أقرب لأسلوب النقد الثقافي الشامل ولغة الصحافة الفكرية، مما جعلها أيسر تناولاً لجمهور أوسع، وهذا مقصود لأنه كان معنيًا بتثقيف القرّاء وتوعيتهم ثوريًا. وليس مصادفةً أن يصدر هذا العمل في وقت كان الشارع العربي يغلي بالأسئلة بعد النكسة: أين الخلل؟ هل في ذواتنا وهويتنا أم في تأخّرنا العلمي أم في أنظمتنا؟ فجاء صوت شكري ليقول: الخلل ليس في جوهر تراثنا إذ لا جوهر ثابت له، بل الخلل في جمود قراءتنا للتراث وعجزنا عن استغلال جوانبه المضيئة. ومن هنا فالحل هو ثورة فكرية نعيد بها قراءة كل شيء، فلا يبقى “محرّم” فكري . هذه الرسالة تكتسي راهنيّة حتى اليوم، خاصة مع عودة الخطاب الأصولي بقوة، ما يجعل استحضار طرح شكري ضرورة لفهم كيف يمكن للعقلانية النقدية أن تجابه التوظيف الأيديولوجي الرجعي للتراث.
محمد أركون وتجديد نقدي للتراث الإسلامي في الوقت الذي اشتغل فيه مفكرو الماركسية العربية على التاريخ الاجتماعي للتراث، ركز مفكرون عرب آخرون على تفكيك الخطاب الديني التقليدي وتجديد مقاربة النصوص الإسلامية ذاتها. ويُعَدّ محمد أركون (1928–2010) من أبرز هؤلاء، إذ كرس حياته لمشروع أطلق عليه اسم “الإسلاميات التطبيقية” بهدف إعادة قراءة التراث الإسلامي (خصوصًا القرآن والسنة ومنظومة الفكر الإسلامي الكلاسيكي) بقراءة علمية حديثة تواكب مقتضيات الحداثة . انطلق أركون من اقتناع بأن التراث الإسلامي لم يُدرس نقديًا بالشكل الكافي منذ قرونه الأولى، حيث ساد آنذاك منهج التعظيم والتقديس على حساب التفكيك والفهم التاريخي . فكل ما أُنتج في الفترة التأسيسية (العصرين الأموي والعباسي) انصبّ على خدمة النص الديني وتفسيره ضمن حدود العقيدة ؛ ظهرت علوم الفقه والحديث والتفسير والكلام بغرض صيانة الإيمان، وحاول الفلاسفة المسلمون التوفيق بين العقل والنقل عبر تأويل النصوص . ومن ثمّ، لم يتحقق ما يسميه أركون التحليل التاريخي النقدي لبنية الوعي الإسلامي ومنشأ مفاهيمه. بناءً عليه، طرح أركون سؤالًا جريئًا: كيف لنا اليوم أن ندرس هذا التراث الديني الضخم دراسة علمية موضوعية؟ وكانت إجابته: لا يمكن ذلك إلا عبر إقحام مناهج وعلوم إنسانية حديثة في دراسته . يقول أركون: “لا يمكننا بلورة معرفة علمية تجاه التراث الإسلامي… إلا إذا أقحمنا المناهج التي ظهرت في حقل علوم الإنسان والمجتمع” . والهدف من ذلك تجاوز المناهج القديمة – سواء الإيديولوجية (أي المنحازة عقائديًا) أو الوصفية السردية – وتسليط الضوء بدلها على منهجية نقدية تفكيكية قادرة على تعرية التراث الإسلامي في جميع مستوياته ، وعلى استحضار الكثير من الأمور التي أُهملت أو نُسيت، وفتح “سجلات المستحيل التفكير فيه” على حد تعبيره . وهنا يستعير أركون مصطلحات ميشيل فوكو بشأن “المفكَّر فيه” و”اللامفكَّر فيه”، داعيًا إلى تحرير العقل الإسلامي من نطاق ما اعتاد التفكير فيه فقط (ضمن إطار لاهوتي ضيق) إلى رحاب أوسع يجرؤ فيها على طرح أسئلة جديدة جذرية.
عمليًا، طبّق أركون منهجه عبر استخدام أدوات اللسانيات الحديثة والسيميائيات وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ النقدي في دراسة الظاهرة القرآنية والفكر الإسلامي. فهو على سبيل المثال أخضع النص القرآني لتحليل لغوي وسيميائي للكشف عن بنيته ووظائفه في البيئة التي نشأ فيها ، ساعيًا بذلك إلى نقل الخطاب عن القرآن من مستوى التناول اللاهوتي المغلق إلى مستوى الفهم التاريخي – بوصف القرآن نصًا تأسيسيًا شكّل المخيال الجماعي للمسلمين عبر الأجيال . ويؤكد أركون أن التحليل السيميائي يفرض على الباحث نوعًا من التقشف والنقاء الفكري، لأنه يتطلب وضع مسافة منهجية بينه وبين النصوص المقدسة، دون إطلاق أحكام لاهوتية مسبقة أو تبنّي رؤى لاتاريخية . ويمثل هذا في رأيه فضيلة ثمينة جدًا، إذ “نتعلم كيف نقيم مسافة تجاه النصوص… دون إصدار أي حكم ثيولوجي أو لا تاريخي يغلق باب التواصل الفكري” . وهدف إقامة هذه المسافة المنهجية هو تجنب القراءات التقليدية التي تقوم ببتر النصوص من سياقها التاريخي لتسقطها بشكل تعسفي على الحاضر والمستقبل، وتغلّفها بتأويلات حرفية أسطورية . فهذه القراءات التراثية – كما يقول – دأبت على أسطرة الخطاب القرآني والتراث الإسلامي عامةً عبر إضفاء طابع إطلاقية ولا تاريخية عليه . وبالتالي، فإن منهج أركون العلمي يسمح باستعادة التراث استعادة نقدية ؛ أي فهمه كما كان في سياقاته الحية الأصلية، ثم فهم كيف تشكّل على مر العصور عبر الطبقات التفسيرية المتراكمة (ما يسميه المواد “الثانوية” المنتَجة حول النص). وهذا الفهم المزدوج يمنعنا من الوقوع أسرى لتلك الطبقات التراثية نفسها. لقد كان مشروع أركون في جوهره مشروعًا لتحرير الفكر الإسلامي من هيمنة نمط التفكير التقليدي المهيمن الذي يشكل عائقًا أمام إطلاق مشروع تحديث الفكر . فهو يلحّ على وجوب التفكير في التراث بأطر فكرية خارجة عنه ؛ أي تبنّي نظرة من خارج المنظومة التراثية المغلقة لفهمها، بدل الدوران في نفس مفاهيمها ولغتها. ولا يخفي أن هذا الأمر صعب جدًا بسبب وجود “مواقع دوغمائية تشكل الهيكل الصلب لكل فكر يكون خطابًا عن الإسلام بوصفه دينًا ونظامًا للعقائد” . لقد اصطدم أركون طيلة إنتاجه الفكري بهذه المواقع الدوغمائية – سواء لدى المؤسسات الدينية الرسمية أو لدى الحركات الإسلامية – وحاول باستمرار تحليل منطقهّا الداخلي ونقد أسسها الفكرية من أجل تجاوزها. ولذلك أحدثت كتبه ضجة كبرى فعلًا في صفوف دارسيها ؛ بين رافضٍ غاضب يتهمه بالزندقة وهدم الثوابت، ومُثنٍ مُعجب يرى فيه رائدًا لمشروع تنويري إسلامي جديد .
من منظور الدراسة الماركسية للتراث، يلتقي مشروع أركون مع المشروع الماركسي في بعض النقاط ويفترق في أخرى. أما نقاط الالتقاء فأبرزها النظرة التاريخية النقدية: كل من الماركسيين وأركون يؤكدون أن النصوص والأفكار الدينية هي نتاج تاريخي – اجتماعي يجب دراستها في سياقها الواقعي وليس كحقائق أزلية منزّهة . كذلك يشتركون في رفض القراءات السلفية الأصولية التي تسقِط الماضي على الحاضر وتجمّد الفكر . كلاهما يدعو إلى تفكيك الإيديولوجيا الكامنة في الخطاب الديني: الماركسيون لكشف انحيازها الطبقي، وأركون لكشف بنيتها المعرفية ومواطن اللامعقول فيها . أما نقاط الافتراق فتكمن في أن أركون، رغم تأثره أحيانًا بالماركسية الفرنسية، لم يعطِ للتحليل الاقتصادي – الاجتماعي الدور المحوري الذي يعطيه إياه الماركسيون. فاهتمامه انصبّ أكثر على تحليل الخطاب وبنياته الرمزية (تأثرًا بالبنيوية وما بعد البنيوية)، وعلى مسائل إبستمولوجية تتعلق بكيفية إنتاج المعرفة حول التراث. في حين أن الماركسيين مهتمون بتتبع جذور الأفكار في البنية الاقتصادية وصراع الطبقات. يمكن القول إنهما مقاربتان متكاملتان إذا أحسنّا الجمع بينهما؛ فمشروع أركون يزوّدنا بأدوات ثاقبة لدراسة النص وتحليل تطور الفكر الديني ومفاهيمه (كالشريعة، العقيدة، العقل، الخيال الديني إلخ) وفهم كيف تشكّل الوعي الجمعي الإسلامي عبر التاريخ . بينما يذكّرنا المنهج الماركسي دومًا بضرورة ربط ذلك بالبنية الاجتماعية ولماذا ساد هذا التفسير أو ذاك تبعًا لمصالح القوى المادية. ولا شك أن أركون نفسه كان واعيًا لأهمية العامل الاجتماعي - وإن لم يكن تحليله ماركسيًا - حيث شدد كثيرًا على دور التحولات السياسية والاقتصادية في تشكيل الفكر الإسلامي (مثلاً أكّد ارتباط تراجع العقلانية بازدياد هيمنة المؤسسة الفقهية السلطوية بعد القرن 12م، وغير ذلك).
لقد ساهمت جهود أركون في إطلاق موجة من الاجتهادات الفكرية الجذرية في دراسة التراث الإسلامي. فإلى جانبه تقريبًا برز مفكرون كالجابري وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، ممن شاركوا في تفكيك ونقد الموروث الديني كل من زاوية مختلفة. وأركون بالتحديد قدّم خدمة كبيرة بتأكيده المستمر على لزوم قراءة التراث بطرق ومناهج متعددة ومتكاملة، وبطرح أسئلة جديدة غير مألوفة على القرآن والتراث عامة . مثلاً تحدّث عن “اللامفكر فيه” و”المستحيل التفكير فيه” في الإسلام، ودعا إلى دراسة التراث الإسلامي ضمن إطار مقارن مع التراث الأوروبي لفهم الفروق في مسارات العقل بينهما. بل وطالب بإدخال مفاهيم مثل الأنتروبولوجيا الدينية لدراسة المقدس الإسلامي كما يُدرس أي معتقد بشري آخر، وبـإعادة النظر في الثنائية التراثية: دار الإسلام/دار الكفر وما شابهها من تقسيمات تراثية أصبحت معيقة للفكر الحديث. هذه كلها أطروحات تتحدى المسلمات وتزعزع الثوابت التقليدية، ومن ثم تفتح الطريق أمام تجديد عميق في الوعي العربي الإسلامي. وإذا نظرنا للأمر من زاوية الصراع الأيديولوجي الراهن، نجد أن مشروع أركون يقف في خندق مضاد لمشروع الإسلام السياسي الأصولي؛ فهو مشروع تحريري، عقلاني، وإنساني ينزع عن التراث طابعه الوثوقي المغلق ليجعله مجالًا للتساؤل والنقد، وبالتالي يسلب من الأصوليين إحدى أهم أدواتهم وهي احتكار معنى التراث والدين. وبسبب هذا البعد التنويري، حورب أركون من المؤسسات المحافظة وجمهور التقليديين، لكنه ترك بصمة لا تمحى في خطاب التجديد الفكري العربي. إذ لأول مرة ربما منذ عصر النهضة، يتم تناول القرآن ذاته – كنص – بدراسة أكاديمية تاريخية صارمة (كما فعل في كتابه “قراءة القرآن” ضمن نقد العقل الإسلامي). وهكذا أسس أركون لتعامل جديد مع التراث الإسلامي، لا كعدو ينبغي نبذه كليًا (كما قد يرى بعض العلمانيين المتطرفين)، ولا كمقدس مُجمّد (كما يريد السلفيون)، بل كتراث حيّ يمكن – ويجب – دراسته بكل الأدوات الحديثة لكشف غناه وتحرير طاقاته الإنسانية.
محمد عاطف العراقي وإحياء النزعة العقلية في التراث لا يكتمل الحديث عن تجديد قراءة التراث دون التطرق إلى جهود المفكرين العرب الذين دعوا إلى إحياء النزعة العقلانية التراثية ذاتها كسبيل للتوفيق بين الماضي والحاضر. ومن هؤلاء المفكرين د. محمد عاطف العراقي (1935–2012)، الفيلسوف المصري وأستاذ الجامعة الذي كرّس الكثير من أعماله لبيان أهمية الفكر العقلاني في التراث العربي الإسلامي وضرورة استثماره في بناء ثقافة عربية حديثة. دافع عاطف العراقي عن الاتجاه العقلي التنويري في تراثنا، متأثرًا خاصةً بفلسفة ابن رشد وفكر المعتزلة، معتبراً أن خط العقلانية هو أثمن ما يمكن إحياؤه والبناء عليه. وقد أوضح منهجه في كتابه «تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية» (1973) ، حيث ميّز بين طريقتين في دراسة الفكر الفلسفي التراثي: طريقة أفقية تكتفي بعرض الروايات والآراء كما هي (أي مجرد سرد تاريخي وصفي)، وطريقة رأسية تتعمق بالنقد والتحليل وتنفذ إلى صميم الأفكار لكشف مضامينها وقيمتها . وقد دعا العراقي صراحةً إلى اعتماد القراءة الرأسية النقدية بدلًا من الاقتصار على القراءة الأفقية السطحية . وهو في هذا يتفق مع طه حسين في نبذ التبجيل غير النقدي للقدماء. يقول عاطف العراقي: “يجب علينا إزاء فكر فلاسفة العرب أن نقف موقف المحلِّل الناقد، فهم أولاً وأخيرًا بشر وليسوا بقديسين… ولو خلعنا عليهم هالات من القداسة لأخطأنا في دراسة أفكارهم…” . ويؤكد أن أعظم تقدير للفيلسوف العربي هو أن نحلل أفكاره وننقدها، فهذا يثبت أنها أفكار حية لم تولد ميتة . أما الاكتفاء برفع الشعارات حول عظمة التراث دون دراسته دراسة نقدية، فليس في نظره إلا خطابة فارغة أشبه “بخطب حفلات التكريم” .
من هذا المنطلق العقلاني الصارم، تناول عاطف العراقي قضية إحياء التراث. وقد شدّد على التفرقة بين مجرد نشر نصوص التراث وبين إحيائها الحقيقي. ففي رأيه أن تحقيق المخطوطات ونشر الكتب القديمة عمل مهم، لكنه يبقى خطوة أولى ينبغي أن يتبعها عمل فكري أهم هو إعادة قراءة هذا التراث وإضفاء معناه الحيّ للحاضر. يقول: “إن طبع أعمال التراث لا يجعلنا نتقدم خطوة واحدة نحو التجديد” إن لم يصحبه تحليل وتفسير جديد. وكتب موضحًا: “المهم عندنا… هو إحياء التراث.. إن الطبع لا يجعلنا نتقدم نحو التجديد” . وبالتالي، انتقد العراقي الاكتفاء بحركة نشر كتب التراث التي ازدهرت في العقود الوسطى من القرن العشرين (حين انكبّت المؤسسات على إصدار كتب التراث محقَّقةً)، معتبرًا أن ذلك جهد لا يؤتي ثماره ما لم يتزامن مع جهد فكري لتجديد مضامين التراث وإعادة فهمها في ضوء معارف العصر. وقد وسّع د. عاطف هذه الرؤية بمنهجه في التعامل مع القضايا التراثية الكبرى كمسألة التراث بين النشر والإحياء . فهو يميّز بين تحقيق النصوص وإحياء الفكر: التحقيق خدمة للنص، أما الإحياء فهو توظيف النص وإبراز دلالته المستمرة. فعلى سبيل المثال، نشر كتب ابن رشد أو المعتزلة مهم لنشر الفكر العقلاني، لكن الأهم هو استيعاب روح ابن رشد العقلانية وتطبيقها على مشكلاتنا الراهنة، وإدراك جرأة المعتزلة في ربط الدين بالعقل واستخلاص منهجهم التقدمي. وهذا ما حاول عاطف العراقي فعله في كتبه اللاحقة مثل «ثورة العقل في الفلسفة العربية» و*«العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر»*. ففي كتابه «ثورة العقل» تناول مفهوم الثورة من الداخل في التراث الفلسفي ، وقصد به تلك الحركة العقلية الجريئة التي قام بها بعض فلاسفة الإسلام (خاصةً ابن رشد) في الدفاع عن استخدام البرهان العقلي ضد الهجوم على الفلسفة . فبيّن أن ابن رشد مثلًا خاض “ثورة عقلية” في عصره عندما جابه التيار الأشعري الغزالي الذي رفض الفلسفة اليونانية، ودعا ابن رشد إلى تحكيم البرهان العقلي بوصفه أسمى من الجدل الخطابي. وقد اعتبر العراقي تلك اللحظة بمثابة نموذج لما يجب القيام به اليوم: أي إشعال ثورة عقلية داخل ثقافتنا ضد التيارات النقلية الظلامية. وهو هنا يقيم توازيًا واضحًا بين صراع ابن رشد vs الغزالي بالأمس، وصراع العقلانيين المستنيرين vs الأصوليين المتشددين اليوم. وهذا التوازي – وإن كان ي simplific – لكنه مفيد أيديولوجيًا في معركة النهضة. فإحياء تراث ابن رشد بالنسبة لعاطف العراقي لا يعني فقط نشر كتبه، بل استلهام طريقته النقدية في دحض “الدخلاء على الفلسفة” الذين يهاجمون التفكير العقلي . وقد وصف العراقي الغزالي ومن نحا نحوه بأنهم كانوا “دخلاء على الفلسفة” أقحموا الفكر الغيبي في الفلسفة وحاربوا العقل، بينما وضع المعتزلة في منزلة وسطى: اعترف بدورهم الخلّاق في عدم التخلي عن العقل، لكنه انتقد اقتصارهم على منهج الجدل الكلامي دون الارتقاء إلى مستوى البرهان الفلسفي الصارم . وخصّ بالمديح والاتفاق ابن رشد ومدرسته بوصفهم ذروة الثورة من الداخل في تراثنا – أي الثورة العقلية ضمن إطار الثقافة الإسلامية ذاتها.
يتضح مما سبق أن مسعى عاطف العراقي يلتقي مع المسعى العام لتجديد قراءة التراث في كونه يقاوم الجمود والتقليد ويدعو لإعلاء سلطان العقل. لكنه يتميز بأنه يركز على الجذور العقلانية داخل التراث ذاته لإحياء استمراريتها. فمن جهة أولى انتقد عاطف دعوات “القطيعة المطلقة” مع التراث التي تبناها بعض العلمانيين المتشددين، معتبرًا أنها غير مجدية بل ومستحيلة عمليًا؛ فلا يمكن بناء فكر عربي حديث منفرط تمامًا عن ماضيه. ومن جهة ثانية رفض أيضًا الجمود السلفي. وطرح بديلًا هو الثورة من الداخل: أي إحداث تغيير عميق في بنية الفكر العربي بالاعتماد على عناصر أصيلة فيه لكن ذات طابع ثوري تقدمي. وبهذا المعنى يمكن اعتباره حاول بناء جسر بين الأصالة والمعاصرة عبر مفهوم التجديد العقلاني. وهذه محاولة لها جانب إيجابي مهم هو تجذير التنوير في تربتنا الثقافية، بحيث لا يبدو وكأنه مجرد استيراد خارجي. فكثيرًا ما يتذرع أنصار المحافظة بأن قيم العقلانية والشك والمساءلة غريبة عن تراثنا جاءت من الغرب. فيأتي أمثال عاطف العراقي ليثبتوا العكس: لدينا ابن رشد وابن خلدون والمعري ومئات غيرهم ممن جسّدوا التفكير الحر في تاريخنا. فلم لا نبعث تراثهم الحيّ ونستند إليه؟… هذا الخطاب وجد صدًى واسعًا في أوساط أكاديمية وثقافية خلال عقود ما بعد السبعينيات، وشهدنا أعمالًا متعددة حول “الاتجاه العقلاني في الحضارة العربية” (وهو عنوان سلسلة كتب تحريرية أشرف عليها عاطف العراقي بالفعل)، وحول إحياء تراث المعتزلة والفلاسفة بحلة جديدة. ومع أن الماركسيين قد يأخذون على هذا الاتجاه شيئًا من المثالية (لأنه افترض أحيانًا وجود خط عقلاني نقي منفصل عن البنية المادية للمجتمع)، إلا أنهم عمومًا رحبوا به كحليف في معركة التنوير ضد الظلامية. ولعل مهدي عامل نفسه نوّه إلى ضرورة عدم الاستخفاف بقيمة هذا الاشتغال العقلاني التراثي، رغم اختلاف المنطلق، لأنه يرفد في النهاية هدفًا مشتركًا هو تحرير الفكر العربي من أسر الأسطورة والدوغمائية. وقد استفاد كثير من الباحثين الماركسيين أيضًا من تحقيقات ودراسات رموز الاتجاه العقلي (أمثال عاطف العراقي وزكي نجيب محمود)، واعتمدوها مصادر في دراساتهم النقدية. بالتالي يمكن القول إن جهد عاطف العراقي وأمثاله أكمل جوانب النقص لدى الماركسيين الذين اهتموا ربما أكثر بالتحليل الاجتماعي ولم يتعمقوا بذات القدر في تحليل النصوص التراثية الفلسفية والكلامية من الداخل. ومحصلة كل هذه الجهود المتضافرة رسمت لنا صورةً أغنى للتراث: صورة التراث العقلاني الحيّ القابل للتجدد، وليس مجرد تراث النقل والتقليد.ب
خاتمة: البعد الأيديولوجي لمعركة التراث في الواقع المعاصر
بعد استعراضنا لمختلف المقاربات أعلاه – من طه حسين العقلاني الليبرالي، إلى حسين مروة المادي التاريخي، وغالي شكري الثوري الثقافي، ومحمد أركون النقدي الحداثي، ومحمد عاطف العراقي العقلاني التراثي – يتضح أن طريقة تناول التراث ليست شأنًا فكريًا مجردًا، بل هي موقف أيديولوجي له انعكاساته على الواقع. فكل اتجاه فكري عربي في القرن العشرين عرفناه كان له تصور معين للتراث يستمد منه شرعيته أو ينفي عنه الشرعية. فمثلاً: • الاتجاه الليبرالي العلماني (مثله طه حسين ومدرسة المجلة الجديدة في مصر) رأى في التراث كنزًا يجب تمحيصه بعقلانية وجرأة، مع الاقتباس من الحضارة الحديثة، بغية إلحاق المجتمع بركب التقدم. كان هذا الاتجاه في مواجهة مع الاتجاه المحافظ الذي أراد إبقاء التراث مصدرًا وحيدًا للهوية والمعرفة. فموقف طه حسين النقدي من التراث هزَّ هيمنة المؤسسة التقليدية وكشف إمكانية رؤية ماضينا بمنظار جديد ، ما يعني زعزعة سلطتها الروحية على الناس. وبالتالي كانت معركة طه حسين مع الأزهر والتيار الإسلامي السياسي (كالإخوان الوليدين آنذاك) معركة أيديولوجية حول من يمتلك تأويل التاريخ والتراث لخدمة مشروعه للمستقبل. • الاتجاه الماركسي الاشتراكي (مثله حسين مروة ومهدي عامل وسمير أمين وغالي شكري) انطلق من أن التراث ساحة صراع طبقي ماضية وحاضرة. فكما كشف مروة وجود تيارين متناحرين في فلسفة الحضارة الإسلامية (عقلاني وثيوقراطي) ، كذلك يرى الماركسي المعاصر أن استحضار أحد التيارين في الخطاب الفكري اليوم ليس بريئًا، بل يخدم مصلحة اجتماعية. فإحياء التيار العقلاني الثوري في التراث وتبنّيه أيديولوجيًا يعني الانحياز لقوى التقدم (العمال، المثقفين التقدميين، البرجوازية الصغيرة ذات المصلحة في التغيير)، فيما الدفاع عن التيار الغيبي المحافظ يعني خدمة قوى الرجعية (الإقطاع الجديد، البرجوازيات الكمprادورية، القوى الدينية السياسية المدعومة من أنظمة الاستبداد). من هنا، قراءة حسين مروة المادية للتراث لم تكن دراسة أكاديمية محايدة، بل كانت جزءًا من الصراع بين اليسار العربي والتيارات الأصولية/التقليدية على عقل الجماهير. فقد أراد مروة أن يُثبت لشباب الأمة أن لتراثهم وجهًا تقدميًا مشرِّفًا يمكن أن يفخروا به ويبنوا عليه تصورات مستقبلية ، بدلاً من تركهم فريسةً لمن يوهمهم أن “السلف الصالح” كانوا جميعًا على نمط واحد من التفكير الجامد الذي يريده لهم المتطرفون اليوم. وفي المقابل، تعرض مروة وعامل لشتى الاتهامات من المحافظين بأنهم “يشوّهون التراث الإسلامي” و”يبثون أفكارًا دخيلة”، في محاولة لدفع الناس لرفض منهجهم، لأن نجاح المنهج الماركسي في حقل التراث يعني سحب البساط من تحت قراءات رسمية وأصولية مهيمنة تعتبر التراث كتلة صلدة ثابتة لا تقبل إلا تفسيرها الأحادي. • الاتجاه الإسلامي التجديدي أو العقلاني الديني (مثله محمد أركون، وأيضًا نصر أبو زيد وحسن حنفي وإن اختلفوا في المنطلقات) خاض هو الآخر معركة أيديولوجية حول التراث. فهو حاول تحرير التراث الديني المقدس من قبضة القراءات المتحجرة، عبر استخدام أدوات علمية لنزع الأسطرة عنه . هذه المحاولة اعتبرتها السلطة الدينية التقليدية تهديدًا مباشرًا، لأنها تجرّدها من احتكار تفسير النصوص. لذلك ووجه أركون وأبو زيد بتكفير وتضييق وإخراج من الجامعة…إلخ. وليس ما حدث مع نصر حامد أبو زيد من تفريق عن زوجته واضطراره للهجرة، إلا مثالاً على شراسة المعركة حول التراث الديني في الواقع العربي. إنها ليست خلافًا نظريًا بسيطًا، بل صدام بين تصورين: تصور يريد إبقاء التراث الديني مصدرًا للشرعية السياسية والاجتماعية (وهذا يخدم القوى السلطوية والتيارات الأصولية)، وتصور يريد جعل التراث الديني مادة للدراسة البشرية العقلانية (وهذا يصب في مصلحة قيام دولة علمانية حديثة وفكر ديني مستنير). إذًا مرة أخرى نجد الموقف من التراث مسيّس حتى النخاع. • الاتجاه الثقافوي أو القومي المحافظ (الذي ظهر خصوصًا منذ الثمانينيات كرد فعل على تغلغل العولمة) يرفع شعار التمسك بالتراث والهوية الحضارية المميزة، ويرفض بشدة نقد التراث بدعوى أنه محاولة لتغريب الأمة. هذا الاتجاه متحالفٌ غالبًا مع الأنظمة القائمة التي تتبنى خطابًا عن “الأصالة والتراث” لاستمالة الجمهور أو لتبرير شرعيتها. ففي كثير من البلدان العربية، تستغل السلطات “المحافظة” رموز التراث الديني والثقافي في خطابها الرسمي لخلق التفاف شعبي حولها، بينما تضطهد أي قراءة نقدية لذلك التراث لأن من شأنها فضح تواطؤ التراث (أو بالأحرى قراءتهم له) مع الاستبداد. ومن هنا يُفهَم لماذا تُعتَبر كتابات مفكرين تنويريين خطرًا في نظرهم. إنها تفكك الأداة الأيديولوجية التي طالما استخدموها – أي تقديس الماضي – لإسكات مطالب التغيير. في الواقع العربي المعاصر الممتد من أواخر القرن العشرين حتى اليوم، لا تزال قضية التراث في قلب الصراع الأيديولوجي الدائر. فلدينا صعود لافت للتيارات السلفية والإسلام السياسي التي تتخذ من العودة إلى التراث (بفهمها الخاص) ركيزة لمشروعها المجتمعي، سواء في شكل حركات شعبوية ترفع شعارات الشريعة والخلافة، أو خطابات رسمية تتظاهر بحماية التراث والدين لكسب الشرعية. ولدينا على الجانب الآخر تيارات ليبرالية ويسارية تدعو للتنوير ونقد التراث وتحديث الفكر الديني أو تجاوزه. وفي خضم هذا الصراع، تتضح صحة الفكرة الماركسية القائلة بأن التراث يتحول إلى ساحة حرب أيديولوجية تُدار في ميدان الثقافة والفكر، لكنها مرتبطة أشد الارتباط بالمصالح المادية والاقتصادية. فحين تعجز القوى الاجتماعية عن تحقيق تطلعاتها عمليًا، تنكفئ أحيانًا إلى الماضي المتخيّل تستحضره كملاذ نفسي أو رمزي. كما قال سمير أمين في تحليل خطاب الإسلام السياسي: “سيبقى التراث يحتوينا ولا نحتويه، يستعيدنا ولا نستعيده” إن لم نمتلك أدوات العلم والتاريخ في قراءته. وهذا يعني أن من يمتلك خطابًا مقنعًا حول التراث يمتلك قدرة على تعبئة الجماهير وتوجيه وعيها. ولعل أبرز مثال راهن كان استغلال التراث الديني في تعبئة الشباب ضمن حركات التطرف والإرهاب؛ إذ نجح دعاة تلك الحركات في خلق سردية تراثية توظف رموز الإسلام الأولى (كالسلف والصحابة والخلافة) لإضفاء المشروعية على مشاريعهم العنيفة. وفي المقابل، سعت الأنظمة وبعض النخب إلى تقديم سردية تراثية مضادة أكثر اعتدالاً (كإحياء خطاب “وسطي” عن التراث الإسلامي المتسامح)، لكنها كثيرًا ما كانت سطحية أو انتقائية، لأن الهدف لم يكن تحديثًا حقيقيًا بقدر ما كان تحصينًا دفاعيًا ضد الأكثر تطرفًا. وهكذا نجد أنفسنا فعلاً كما وصف شكري: “تراثنا أصبح مجالاً تسقط عليه كل رؤية خاصة” ، بين من يوظفه للتقدم ومن يوظفه لإدامة التخلف. إن المنظور الماركسي قادر على إضاءة هذه المعركة بوضوح لأنه يسأل دومًا: “تراث مَنْ الذي يجري الدفاع عنه؟ وتراث مَنْ الذي يُهمَّش أو يُلعن؟” وبهذا السؤال نكتشف أن ما يُسمى “تراث الأمة” ليس واحدًا، بل هناك تراث رسمي مهيمن (انتقائي تُبرزه السلطة والمؤسسات)، وهناك تراث مقموع مهمّش (أفكار وشخصيات تم نسيانها لأنها لا تخدم سردية السلطة). والمهمة التنويرية الحقيقية هي إظهار التعددية والصراع داخل تراثنا، بدل تسويقه وكأنه شيء واحد جامد. لقد أدرك روادنا ذلك: فطه حسين عندما شكّ في الشعر الجاهلي كان عمليًا يعترض على “الصورة الرسمية للتراث الأدبي” مصححًا إياها بمنهج علمي . وحسين مروة أعاد الاعتبار لفلاسفة عقلانيين كادوا يطويهم النسيان تحت حكم القراءة المدرسية اللاهوتية . وعاطف العراقي أبرز أسماء عقلانية في تاريخنا لتصبح مثلاً أعلى لجيل الشباب بدلاً من الاقتصار على شخصيات الفكر المحافظ. كل ذلك يصب في اتجاه تحرير العقول العربية من هيمنة نموذج تراثي واحد قسري مفروض أيديولوجيًا، وفتح الباب لتعدد الأصوات في ماضينا بحيث نختار ما يفيد نهضتنا الحالية.
وفي النهاية، نستطيع القول إن كيفية تعاملنا مع التراث ستحدد إلى حد بعيد ملامح مستقبلنا. فإذا غلبت القراءات الجامدة الأسطورية للتراث، سنظل ندور في حلقة مفرغة من تمجيد الماضي دون تقدم (وربما ننتكس إلى صراعات طائفية ومذهبية مستحضرة من عصور غابرة كما نرى في واقعنا المؤلم). أما إذا انتصرت القراءات العلمية النقدية المستنيرة، فسنكون قد حررنا الماضي من قيود التخيل والأيدولوجيا وجعلناه رصيدًا إيجابيًا نستفيد منه دون أن يكبلنا. إن البعد الأيديولوجي في معركة التراث يفرض علينا الوعي بأن اختيار أينا لأي جانب من جوانب التراث ليس بريئًا، بل هو انحياز في معركة الحاضر. فمن يمجّد مثلا العصور السلطانية الاستبدادية ويكرر خطابها هو يدعم - بوعي أو دون وعي - الاستبداد الحديث. ومن يُعجب بحركات الزهد والتصوف الشعبي قد يعكس توقًا لحركة تحرر روحي/اجتماعي من ظلم قائم. ومن يتغنى بتراث الفتوحات والغزو ربما يبرر عقلية الهيمنة ورفض الآخر اليوم. وهكذا دواليك. لذا فإن تبنّي المنهج الماركسي التاريخي في دراسة التراث يمنحنا بوصلة لنميز الغث من السمين في إرث الماضي على أساس معيار التقدم الاجتماعي. هذا المنهج لا يعني رفض التراث كله ولا قبوله كله، بل دراسته لكشف وظيفته الاجتماعية: فما كان فيه تعبيرًا عن تطلعات الحرية والعدل والعقل يمكن أن نحييه كمصدر إلهام، وما كان فيه تكريسًا للقهر والجهل يمكن أن نضعه في متحف التاريخ. وبهذا الفهم الجدلي، يصبح تراثنا حيًا فعلاً: أي مجالًا لحوارنا المستمر مع ماضينا نطرح عليه أسئلتنا الجديدة ونستخرج منه ما يعيننا في بناء مستقبلنا، بدلاً من أن يبقى نصوصًا ميتة نرددها دون وعي. وكما قال مهدي عامل: “إذا لم نكن ندرس التراث من أجل أن يساعدنا على فهم واقعنا، وإذا كنا قادرين على فهم واقعنا بدونه، فإن الدعوة إلى إحياء التراث هي مجرد محاولة أيديولوجية لإخفاء هذا الواقع” . من هنا نختم بالتشديد على أن التراث ينبغي أن يكون موضوعًا للفهم العلمي والتوظيف النقدي في قضايانا الفكرية، لا غاية بذاته نتغنى بها هروبًا من تحديات الحاضر. تلك هي الرسالة التي حملها رواد التنوير العربي بطريقتهم، والتي تؤكدها اليوم القراءة الماركسية بمنهجها الشمولي. إنها رسالة تدعونا إلى التصالح مع ماضينا عبر تغيير نظرتنا إليه – فنحرره ليحررنا – وهذا شرط لا بد منه لأي نهضة حقيقية في واقعنا العربي الراهن.
الهوامش والتوثيق 1. طه حسين، في الشعر الجاهلي، القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1926، ص 7–9 (مقدمة الكتاب التي يشرح فيها منهجه الديكارتي) . 2. طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة: مطبعة المعارف، 1938، ص 35 (تأكيده ضرورة الاقتباس من الحضارة الحديثة مع الحفاظ على الروح المصرية). 3. حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، جزء 1، بيروت: دار الفارابي، 1978، ص 55–60 (تحليله للاتجاهات المثالية واللاتاريخية في دراسة التراث قبل مشروعه) . 4. حسين مروة، النزعات المادية…، جزء 2، بيروت: دار الفارابي، 1981، ص 817–820 (خاتمة الكتاب حيث يؤكد ضرورة المنهج المادي التاريخي في فهم التراث ويحدد العناصر التقدمية فيه) . 5. مهدي عامل، «مقدمة في مشكلة التراث» ضمن كتاب أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية، بيروت: دار الفارابي، 1979، ص 13–18 (يبين فيها أن التراث لا يُدرس بذاته بل لفهم الحاضر، وينتقد مقولة إحياء التراث كهدف مثالي) . 6. سمير أمين، نحو نظرية للثقافة: نقد التمركز الأوروبي، ترجمة كمال خلاّق، بيروت: دار الحداثة، 1989، ص 112–115 (تحليله لإخفاق النهضة العربية في إنجاز قطيعة إبستمولوجية مع التراث الديني والتقليدي، وتأكيده على العلمانية كشرط للتحديث) . 7. غالي شكري، التراث والثورة، بيروت: دار الوحدة، 1972 (الطبعة الثالثة 1984)، ص 5–12 (المقدمة التي يدعو فيها إلى إعادة النظر الجذرية في قضايا التراث وطرح منهج جديد لفهمه، وينتقد الثنائيات الزائفة بين أصالة ومعاصرة) . 8. غالي شكري، التراث والثورة، ص 45–50 (فصل “التراث وجهات نظر” حيث يعرض مواقف السلفيين والمجددين والمعتدلين من قضية الأصالة والتراث ويبيّن تناقضاتها الشكلية) . 9. محمد أركون، نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1991، ص 25–30 (يعرض مفهوم “الإسلاميات التطبيقية” ومنهجه في إعادة قراءة التراث الإسلامي بعلوم الإنسان الحديثة) . 10. محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية (تضم مقالات مترجمة لهاشم صالح)، بيروت: دار الساقي، 1996، ص 101–105 (يشرح ضرورة تحليل الخطاب الإسلامي بأسلوب سيميائي وأنثروبولوجي من أجل تجاوز القراءات اللاهوتية المغلقة) . 11. محمد عاطف العراقي، تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية، القاهرة: دار المعارف، 1973، ص 15–20 (الفصل التمهيدي الذي يفرق فيه بين الفكر “الأفقي” و”الرأسي” ويدعو لاعتماد منهج النقد والتحليل في دراسة الفلسفة الإسلامية) . 12. محمد عاطف العراقي، ثورة العقل في الفلسفة العربية، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979، ص 17–19 (يتناول فيه مفهوم “الثورة من الداخل” ويحدد موقفه من الفلاسفة والمتكلمين: يثني على ابن رشد وينتقد الغزالي ويقيّم إسهام المعتزلة النقدي) .
المراجع: أعمال حسين مروة (النزعات المادية بجزئيه ودراساته الأخرى)؛ كتابات مهدي عامل (أزمة الحضارة العربية… ومقدمات نظرية بأجزائها)؛ مؤلفات سمير أمين (وخاصة ما تُرجم منها للعربية حول الثقافة والتراث مثل نقد الخطاب العربي الراهن والثقافة السياسية)؛ كتب طه حسين (في الشعر الجاهلي، مستقبل الثقافة في مصر، على هامش السيرة وغيرها)؛ أعمال محمد أركون (بالفرنسية وترجماتها العربية نقد العقل الإسلامي، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد)؛ كتاب التراث والثورة لغالي شكري؛ كتابات محمد عاطف العراقي (تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية، ثورة العقل، العقل والتنوير…)؛ وكذلك دراسات حديثة تناولت هؤلاء المفكرين، مثل: محمد فتحي فرج طه حسين وقضايا التراث؛ موسى برهومة التراث العربي والعقل المادي: دراسة في فكر حسين مروة؛ عزيز قنجاع نقد العلاقة بين التراث والتاريخ عند مهدي عامل؛ حاتم السالمي التجديد في فكر أركون مظاهره وحدوده؛ وغيرها من المقالات الأكاديمية والصحفية ذات الصلة التي تم الاستشهاد ببعضها في هوامش الدراسة أعلاه .
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
-
قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
-
الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
-
هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
-
الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
-
التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض
...
-
تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية
...
-
الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
-
الاشتراكية والثورة: هل يمكن التحرر دون سلطة؟ رد على أحمد الج
...
-
نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية
...
-
من الدولة إلى التنظيم الطبقي: في الرد على أطروحات أحمد الجوه
...
-
نحو تجديد ماركسي-لينيني يتجاوز المأزق اللاسلطوي - رد على أحم
...
-
النهج التجديدي في الماركسية واللينينية: قراءة جدلية نقدية في
...
-
نظام المكونات في العراق: الهيمنة الإمبريالية وإعادة إنتاج ال
...
-
عقود النفط بعد 2003: هل خسر العراق معركته الاقتصادية الكبرى؟
-
القمع: قراءة ماركسية معمقة في سياق الدولة البرجوازية والدولة
...
-
يا نساء العراق، توحدنَّ!
-
حول الدولة المدنية والديمقراطية: clarifications ماركسية ضرور
...
-
العراق في قبضة الاحتلال المالي: كيف تُنهب ثروات بلد نفطي بأد
...
-
الدولة المدنية والتغيير الشامل: قراءة ماركسية نقدية لشعار ال
...
المزيد.....
-
-الرحيل هو خيارنا الوحيد-.. شاهد ما قاله نازح من غزة وسط غار
...
-
-على خطى هتلر وستالين: هل يضع ترامب وبوتين القارة الأوروبية
...
-
إيران تحت العقوبات مجدداً: طهران تندد والعملة تنهار.. فهل ان
...
-
زلزال بقوة 5.4 درجات يضرب ولاية كوتاهيا غربي تركيا
-
مباشر-مولدافيا: انتخابات برلمانية مصيرية وسط تحذير من تدخل ر
...
-
الدانمارك تحظر المسيرات المدنية خلال قمة الاتحاد الأوروبي في
...
-
نجاح بلا تضارب.. كيف تتناغم أهدافك في المنزل والعمل؟
-
القسام تعلن انقطاع التواصل مع أسيرين وتوجّه إنذارا للاحتلال
...
-
مؤسسات الإعلام الأميركية قلقة من تزايد العنف المتعلق بتغطيته
...
-
خبير إسرائيلي: التقارير عن استعدادات مصرية للحرب محاولة إسرا
...
المزيد.....
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
المزيد.....
|