|
|
الوثيقة الثالثة: تشخيصُ السيادة والدين والطبقة في عراق ما بعد 2003
علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 15:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نحو قاموسٍ طبقيٍّ جديد
نصٌّ ثالث مُكمِّل للوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق
1. تمهيد: من «وطن حرّ» إلى معنى السيادة والعدالة يتردّد في العراق اليوم ومنذ أكثر من تسعين عاماً، على الألسنة وفي الشعارات وفي الإعلام، صدى عبارة «وطن حرّ وشعب سعيد». ويُقال كثيراً إنّ الاحتلال رحل، وإنّ الشوارع والمدن تُدار بأيدٍ عراقية، وإنّ الدوائر الرسمية مليئة بالموظفين العراقيين، وإنّ الأسواق عامرة بكلّ أنواع السلع، وإنّ الناس يتحدّثون على صفحات التواصل وينتقدون ويتذمّرون بلا خوفٍ كامل كما كان في زمن الدكتاتورية. ويُبنى على ذلك استنتاج مبسّط: إذاً نحن في وطن حر، وما تبقّى هو مجرّد نواقص وأخطاء يمكن إصلاحها مع الوقت.
لكنّ السؤال الذي يفرضه المنهج الماركسي بسيط وقاسٍ في الوقت نفسه: ما معنى أن يكون الوطن حراً؟ من يمسك فعلاً بمركز القرار السياسي والاقتصادي والأمني؟ كيف تُدار الثروة؟ ولصالح أي طبقة تُستخدم أجهزة الدولة؟ وما موقع الكادحين، عمالاً وموظفين صغاراً وعاطلين وفقراء مدن وريف، من هذه المعادلة؟
هذا النص الثالث لا يكرّر ما ورد في «الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق»، ولا في نص «تشخيص الأزمة ومسارات العمل» المكمّل لها، بل يتقدّم خطوة أخرى على الطريق نفسه. إنّه محاولة لقراءة حالة السيادة والحرية والرفاه في عراق ما بعد 2003، من زاوية طبقية ماركسية، تربط بين ما هو قانوني وما هو فعلي، وبين ما هو ظاهر في الأسواق والشوارع وما هو قائم في بنية السلطة والاقتصاد والمجتمع. وفي قلب هذه القراءة تأتي مسألة الدين والطوائف والموقف من الجيران، لا بوصفها «تفاصيل هوياتية»، بل بوصفها حقولاً يجري فيها اليوم اشتغال طبقي كثيف، وتُستعمَل فيها لغة مشحونة بالعداء الأعمى أكثر مما تستند إلى تحليل جدلي واعٍ.
2. السيادة بين النصوص الدولية والواقع المادي من الناحية القانونية البحتة، العراق اليوم دولة ذات سيادة كاملة: عضوٌ في الأمم المتحدة، غير خاضع لسلسلة العقوبات الشاملة التي فرضت عليه بعد 1990، ولم يعد مصنَّفاً تحت نظام الفصل السابع كما كان في التسعينيات وبدايات الألفية. نقل قرار مجلس الأمن 2107 لسنة 2013 أغلب التزامات العراق تجاه الكويت إلى إطار الفصل السادس، أي إلى منطقة «حلّ النزاعات بالوسائل السلمية» لا بعقوباتٍ قسرية مفروضة بالقوة.
هذا كلّه تحسّن واقعي مقارنةً بسنوات الحصار والإذلال والتجويع، لكنّه لا يجيب على السؤال الأساسي: هل يملك الشعب العراقي، وطبقته الكادحة تحديداً، القدرة الفعلية على التحكّم بمصيره الاقتصادي والسياسي؟ أم أنّ السيادة، وإن تحسّن شكلها القانوني، ما زالت منقوصة في جوهرها؟
من منظور ماركسي، السيادة ليست علماً وحدوداً ومقعداً في الأمم المتحدة فحسب؛ السيادة هي قدرة طبقة اجتماعية وطنية–شعبية على التحكّم بثروات البلد، وباتجاهات تطوره الاقتصادي، وبقراره في الحرب والسلم، وعلى حماية المجتمع من الإفقار والإذلال والتبعية. ما دامت هذه القدرة منقوصة، فإنّ الحديث عن «وطن حر» يكون نصف حقيقة، والنصف الآخر هو أن البلد يعيش في ظل تبعية بأشكال جديدة، أقلّ فجاجة من الاحتلال المباشر، لكنّها لا تقلّ عمقاً في تأثيرها.
3. أموال النفط: الملكية القانونية وأدوات الضغط من أكثر الأساطير انتشاراً القول إنّ «أموال النفط كلّها عند الأميركيين، ولا يستطيع العراق أن يصرف ديناراً إلا بإذنهم». الواقع أكثر تعقيداً، لكنه في جوهره يؤكّد وجود تبعية حقيقية.
خلال برنامج «النفط مقابل الغذاء» في التسعينيات، كانت عائدات النفط تُودَع في حساب خاضع لإشراف الأمم المتحدة، ويُصرَف منها على الغذاء والدواء وفق شروط مجحفة. بعد 2003، أنشئ «صندوق تنمية العراق» في الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في نيويورك، تُحوّل إليه عائدات النفط بالدولار، ويُدار الإنفاق الحكومي من خلاله تحت عنوان حماية أموال العراق من الحجز والدعاوى والتعويضات. لاحقاً أُغلِق الصندوق، لكن لم يتغيّر جوهر المسار: ما زالت عائدات النفط تُسعَّر بالدولار، وتُمرَّر عبر النظام المالي الأميركي، وما زال البنك المركزي العراقي بحاجةٍ إلى موافقات وضوابط أميركية في ما يخصّ الوصول إلى العملة الصعبة وتمويل الاستيراد.
لا يملك الأميركيون هذه الأموال قانوناً، لكنّهم يملكون شيئاً أخطر: القدرة على خنق شريان الأوكسجين الذي يتنفّس عبره الاقتصاد الريعي. وكلّ تضييق على التحويلات، وكلّ تشديد على نافذة العملة، وكلّ قرار بحجّة «مكافحة غسل الأموال» أو «محاربة تمويل الإرهاب»، يتحوّل فوراً إلى ضغط على السوق والمالية العامة وأجور الناس.
ماركسياً، الأمر واضح: دولة تعتمد على سلعة واحدة، تُسعَّر بعملةٍ يهيمن عليها مركز إمبريالي، وتُصفّى مدفوعاتها عبر مصارفه، تضع جزءاً من قرارها الاقتصادي في يد هذا المركز، حتى لو ظلّت الملكية القانونية للمال عراقية. هذه إحدى حلقات التبعية البنيوية للرأسمال المالي العالمي.
4. القوات والقواعد والأجهزة: سيادة أمنية ناقصة لا يمكن إنكار وجود قوات أجنبية على الأرض العراقية، وإن تغيّرت التسمية من «احتلال مباشر» إلى «تحالف دولي» و«مستشارين» و«قوات صديقة». هناك قواعد للتحالف بقيادة الولايات المتحدة في أكثر من مكان، تحت عنوان التدريب والدعم والإسناد؛ وهناك وجود عسكري تركي واسع في شمال البلاد، عبر قواعد وتوغلات بذريعة ملاحقة حزب العمال الكردستاني، كثيراً ما يتمّ بالتفاهم مع سلطات الإقليم، وبممانعة لفظية من الحكومة الاتحادية؛ وهناك وجود استخباري وعسكري بدرجات مختلفة لقوى أخرى.
إلى جانب ذلك، تنتشر تشكيلات مسلّحة عراقية متعدّدة الولاءات، بعضها مندمج رسمياً في مؤسسات الدولة، وبعضها يعمل في مناطق ظلّ بين الرسمي وغير الرسمي. هذه التشكيلات، مع ما تمثّله من تعبير عن استعداد شعبي للتضحية في لحظات الخطر كما حدث في مواجهة داعش، تحوّلت في الوقت نفسه إلى جزء من موازين القوّة الداخلية والإقليمية، وإلى لاعب في الاقتصاد والسياسة والحياة اليومية في مناطق واسعة.
السيادة الأمنية في هذا السياق ليست شعاراً، بل سؤالاً ملموساً: هل تحتكر الدولة قرار الحرب والسلم والعنف المشروع؟ أم أنّ هذا القرار موزّع بين حكومة رسمية، وفصائل، وقواعد أجنبية، وأجهزة استخبارات متعددة الجنسيات؟ الإجابة الواقعية واضحة: السيادة الأمنية منقوصة، وهي منقوصة لمصلحة بنية مركّبة من نفوذ خارجي وطبقة حاكمة ريعية–فصائلية.
5. الدولة الريعية–الفصائلية: الطبقة المالية–الريعية–الفصائلية الحاكمة منذ 2003 تشكّلت في العراق طبقة حاكمة جديدة، ليست استمراراً بسيطاً لبرجوازية وطنية منتِجة، بل مزيجٌ هجين يمكن تسميته بدقّة: طبقة مالية–ريعية–فصائلية مركّبة.
هذه الطبقة تكوّنت من سياسيّي معارضةٍ سابقين عادوا من المنافي معدمين تقريباً، فتحوّلوا عبر مواقعهم في الدولة الجديدة إلى أثرياء ريع وفساد؛ ومن بقايا الجهاز الإداري والأمني–العسكري للنظام السابق، الذين أعادوا التموضع في بنية السلطة الجديدة؛ ومن قادة فصائل خرجت من رحم الاحتلال والمقاومة والإرهاب، ثم تحوّلت من أذرع عسكرية إلى أذرع مالية وتجارية ومصرفية؛ ومن رجال دين وزعامات عشائرية ومقاولين ووسطاء وجدوا في أجهزة الدولة وريعها فرصةً تاريخية للثراء السريع.
هذه الطبقة ليست متجانسة، بل منقسمة إلى أجنحة متصارعة، لكنها تتوحّد عند نقطة مركزية واحدة: الدفاع عن الاقتصاد الريعي الفاسد الذي يمنحها الثروة والسلطة، ومنع قيام دولة قانون حديثة ومنتِجة، ومنع ولادة طبقة عاملة واعية منظَّمة تستطيع تهديد امتيازاتها.
هي تحكم عبر شبكة متداخلة من الريع النفطي، والفساد المنظّم، واقتصاد الظل، والمال السياسي والإعلام المملوك لرأس المال الريعي، والقوة المسلحة غير الخاضعة فعلاً لاحتكار الدولة. ومن مصلحتها أن تبقى السيادة الاقتصادية والأمنية منقوصة، لأنّ أي تحرّر حقيقي في هذا المجال يعني بالضرورة فتح الطريق أمام تحرّرٍ طبقي يهدّد وجودها.
6. البنية الاجتماعية: البروليتاريا المهدَّدة بدل الطبقة العاملة الكلاسيكية نتيجة الحروب، والحصار، وخصخصة ما يمكن خصخصته، وإهمال الصناعة والزراعة، وفتح الأسواق بلا ضوابط، وتضخّم جهاز الدولة كجهة تشغيل وحيدة لملايين الموظفين الصغار، تبدّلت الخريطة الطبقية في العراق.
تراجعت الطبقة العاملة الصناعية بالمعنى الكلاسيكي، وحلّت محلّها كتلة واسعة من العاملين في الخدمات والنقل والتوزيع، ومن الموظفين الصغار بأجور تتآكل مع التضخّم، ومن خرّيجي الجامعات العاطلين عن العمل، ومن فقراء المدن في الأحياء المهمّشة، ومن شرائح ريفية اقتُلعت من علاقتها الإنتاجية بالأرض وتحولت إلى فقراء مدن أو إلى جزء من اقتصاد العشيرة والسلاح والمخدرات.
هذه الكتلة يمكن وصفها بالبروليتاريا المهدَّدة: تعيش بلا ضمان، وبلا استقرار مهني، وبلا أفق واضح، لكنها في الوقت نفسه الحامل الاجتماعي الموضوعي لأي مشروع تحرّر طبقي جديد، إذا ما توفّرت لها قيادة وبرنامج وأدوات تنظيم حقيقية.
الطبقة الوسطى تآكلت هي الأخرى: جزء منها انصهر في جهاز الدولة الإداري ويعيش على راتب يتهالك، وجزء آخر هاجر خارج البلاد، وثالث يعيش انقساماً بين ثقافة مدنية نسبية وبين واقع طائفي–زبائني يفرض عليه سلوكيات تناقض هذه الثقافة.
في هذا السياق، يمكن فهم ما سُمّي بـ «الاستياء السنّي» بشكل طبقي لا طائفي: المسألة ليست «إقصاء مكوّن» في المطلق، كما يكتب بعض الشيوعيين، بل انتقال كتلة اجتماعية–مناطقية كانت تاريخياً في قلب جهاز الدولة (الجيش، والأمن، والإدارة العليا) إلى موقع الشريك المقيّد داخل منظومة محاصصة، مع تحطيم مدن بكاملها بعمليات عسكرية ضد الإرهاب، ومع هجرة واسعة وتهجير قسري. هذا الانتقال عبّر عن نفسه بخطاب «التهميش» و«استعادة الدور»، واستغله بقايا النظام السابق وقوى إقليمية وجماعات سلفية–جهادية لإشعال تمردات وحروب أهلية.
في المقابل، دخلت الكتلة الشيعية مرحلة ما بعد 2003 بشعور حقيقي بمظلومية تاريخية، وبذاكرة ثقيلة من القمع والإقصاء والاستهانة، وبوجود غالبية قوى المعارضة اليسارية والدينية في صفوفها. لكن بدلاً من أن يُترجم هذا الإرث إلى مشروع دولة مواطنة وعدالة اجتماعية، جرى تحويله إلى رأسمال سياسي بيد أحزاب دينية–ريعية ادّعت تمثيل «الأغلبية»، واستخدمت لغتها الرمزية–المذهبية لتبرير نظام محاصصة لا يبني دولة مواطنة، بل يعمّق اقتصاد الغنيمة.
أما الكتلة الكردية فقد دخلت الحقبة الجديدة بقيادة حزبية–عشائرية تحمل ذاكرة قاسية من القصف والأنفال والإنكار. هذه القيادة اختارت أن تبني في الإقليم سلطة برجوازية خاصة بها، تتقاسمها عشيرتان وحزبان، يناوران بين بغداد والعواصم الإقليمية والدولية لحماية مصالح برجوازية إقليمية–ريعية، أكثر مما يسعيان إلى بناء دولة مواطنة مشتركة مع بقية العراق.
بهذا الشكل، تحوّل انعدام الثقة التاريخي بين المكوّنات إلى قاعدة من قواعد حكم الطبقة المالية–الريعية–الفصائلية، لا إلى مشكلة تُحَلّ لمصلحة وحدة الكادحين من كلّ القوميات والطوائف.
الهجرة: الجرح الصامت في الجسد الاجتماعي العراقي
لا يمكن لأي تشخيص ماركسي للأزمة العراقية أن يغفل الجرح العميق الذي خلّفته موجات الهجرة، طوعية كانت أم قسرية أم منظَّمة، والتي طالت منذ ثمانينيات القرن الماضي مكوّنات أصيلة من جسد العراق: الأرمن، الآشوريين، السريان، الكلدان، الصابئة، والإيزيديين، إلى جانب مئات الآلاف من أبناء الطوائف الدينية المتجذّرة في تاريخ البلاد.
كان النظام السابق يُسوَّق عند البعض بصفة «الزمن الجميل»، لكن أيّ جمالٍ في زمنٍ خلق بيئة طاردة لأخلص العقول العراقية، ولسكانٍ عاشوا على هذه الأرض آلاف السنين بوئامٍ واستقرار، قبل أن تتحول حياتهم إلى مطاردة يومية بين الحروب، والقمع، ة والتجويع؟
تواصلَ هذا النزيف بعد الاحتلال، حين تصاعدت الهجرة إلى بلدان الشتات، ففقد العراق خيرة أطبائه ومهندسيه وأساتذته وباحثيه وحرفييه، أي الفئات التي كانت قادرة على المشاركة في إعادة بناء وطنٍ دُمّر بنيوياً. وفي المقابل، جرى احتواء آلاف من فلول «فدائيي صدّام» في الأجهزة الأمنية الخليجية، فيما انخرط آخرون في التنظيمات الإرهابية الفاشية مثل داعش وغيرها، وهي حلقات متصلة لا صدفة فيها، بل نتاج بنية سياسية–اجتماعية مريضة أنتجت التطرف والتفكك معاً.
هذه الهجرة لم تكن حدثاً عابراً؛ كانت عملية إعادة تشكيل طبقية–سكانية ما تزال آثارها تُحدِّد شكل المجتمع والدولة حتى اليوم. فقد خسر العراق جزءاً من تنوّعه التاريخي، وخسر معه قوى إنتاجية وكفاءات لا يمكن تعويضها بسهولة.
إنّ معالجة الأزمة العراقية من دون فهم تداعيات هذا النزيف، ومن دون رؤية لكيفية إعادة ربط الشتات بوطنه، واستعادة شروط الحياة الآمنة والكرامة المتساوية لكل المكوّنات، تعني ترك فجوة كبرى في أي مشروع لإعادة التأسيس الوطني–الطبقي.
7. الريع والاستهلاك وحافة الهاوية في الاقتصاد الريعي، تتحوّل الدولة إلى ماكينة توزيع رواتب وتحويلات، ويتحوّل المجتمع شيئاً فشيئاً إلى مجتمع استهلاكي لا إنتاجي، تُقاس علاقته بالدولة بما يحصل عليه من حصة في الريع، لا بموقعه في دورة الإنتاج.
اليوم، يعتمد العراق في أكثر من تسعين في المئة من إيراداته على النفط. أي انهيار حادّ في أسعار هذه السلعة يعيد شبح الكارثة: عجز عن دفع الرواتب، انهيار ما تبقّى من خدمات، تراجع حادّ في القدرة على الاستيراد، وانفجار في البطالة والفقر في مجتمعٍ لم تُبنَ له قاعدة إنتاج حديثة في الصناعة والزراعة والخدمات المنتجة.
الأسواق المليئة بالبضائع، وأرفف المتاجر المزدحمة بالماركات العالمية، ومظاهر الاستهلاك المتزايدة، تخفي تحتها واقعاً هشّاً: جسد اقتصاد موصول بجهاز تنفّس خارجي اسمه سعر النفط العالمي والنظام المالي الإمبريالي. أي انقطاع طويل في هذا الجهاز يفتح الباب على انهيار شامل.
إنّ الحديث عن «إصلاح» داخل بنية كهذه، من دون مساس بجذر الريع وبنمط التبعية، هو في أفضل الأحوال إدارةٌ للأزمة داخل حدودها، لا حلّ لها.
8. الدولة أم اللا–دولة؟ منظومات العقاب المتوازية في ظلّ غياب دولة قانون حديثة قوية، وبوجود اقتصاد ريعي، وبنية محاصصاتية–فصائلية، تتشكّل إلى جانب مؤسسات الدولة ثلاث منظومات عقابية متوازية:
منظومة العشيرة، بما تحمله من «فصل» و«دكّات» ومجالس صلح عرفية؛ ومنظومة المؤسسة الدينية، حيث تتحوّل الفتوى والخطبة المنبرية إلى قوة تنظيم وسلطة اجتماعية حقيقية؛ ومنظومة الفصائل المسلحة، التي تمارس الردع والإنفاذ بقوة السلاح، خارج أو فوق رقابة القضاء.
هذه المنظومات لا تلغي الدولة رسمياً، لكنها تفرغ مفهوم الدولة الحديثة من مضمونه في وعي الناس وممارستهم. المواطن لا يرى في القضاء والقانون والمؤسسات الرسمية المرجع النهائي، بل يلجأ إلى شيخ عشيرته، أو إلى مرجعه الديني، أو إلى من يملك السلاح والنفوذ.
بهذا التفكك، يُستبدل مفهوم «المواطنة» بمفاهيم القرابة والانتماء الطائفي-الإثني والمناطقية والولاء العنفي، وتفقد فكرة «العقد الاجتماعي» حقيقتها. لا يمكن إعادة بناء الدولة في العراق إلا باستعادة احتكار العنف لصالح قانون واضح عادل، وبإعادة الاعتبار لقضاء مستقل، وببناء منظومة حقوق تَمنع العشيرة أو المرجعية أو الفصيل من الحلول محلّ الدولة.
9. بين وفرة السلع وحرية الكلام: أي رفاه وأي حرية؟ جزء من تبرير الوضع القائم يقوم على الوقائع التالية: الأسواق مليئة بالبضائع من كل أنحاء الدنيا؛ الطرق والجسور تحسّنت؛ الناس تمتلك هواتف ذكية وتستخدم وسائل التواصل بحرّية نسبية؛ كثير من الشباب والنساء يعملون؛ الفقر يبدو أقلّ حدّة من سنوات الحصار والحروب؛ هناك شكل من أشكال الحياة اليومية العادية.
هذه الوقائع لا يجب إنكارها، فهي نتاج تغيّر حقيقي في موازين الحياة مقارنةً بسنوات الحصار والاحتلال المباشر. لكنّ المنهج الماركسي لا يتوقّف عند السطح:
الوفرة السلعية لا تعني صحّة العلاقات الطبقية؛ يمكن أن تكون الأسواق مشبعة، بينما تتعمّق التبعية الاقتصادية ويُمنَع البلد من بناء قاعدة إنتاج حقيقية، ويُحكم على الكادحين بأن يكونوا مجرّد مستهلكين في اقتصاد لا يملكون قراره.
الحرية الشكلية في التعبير لا تعني حرية طبقية حقيقية؛ يمكن نشر مقالات قاسية أحياناً، ويمكن للناس أن يتذمّروا على فيسبوك وعشرات المواقع والصفحات، لكن أي محاولة لبناء تنظيم مستقل للكادحين، أو لفرض برنامج فعلي يهدّد مصالح الطبقة المالية–الريعية–الفصائلية، ستصطدم بجدارٍ من المنع الناعم والخشن. تجربة تشرين ليست بعيدة: حين اقترب الغضب الشعبي من جوهر بنية السلطة، جاءه الردّ بالرصاص والخطف والتشويه.
العمل قائم، لكن على أي صورة؟ كثير من الوظائف هشّة أو مؤقتة أو مرتبطة بالزبائنية، أو بأجور تذوب مع التضخّم، أو بأعمال في اقتصاد ظلّ لا ضمان فيه ولا حقوق. هذا ليس العمل الكريم الذي يضع العامل في موقع السيطرة على مصيره، بل شكل من أشكال إعادة إنتاج التبعية ضمن دورة استهلاك واسعة.
الفقر بدوره يتغيّر شكله: ينتقل من الجوع المباشر إلى فقر في السكن والخدمات والتعليم والصحة والضمان، إلى ديون خانقة، إلى هجرة، إلى تعاطي مخدرات وعنف أسري وعشائري. الأرقام قد تتحسّن هنا وهناك، لكن نوعية الحياة الطبقية لا تتحرّر.
10. الدين، الإيمان، والطبقة: نحو موقف ماركسي واضح العراق ليس فقط بلداً للنفط والاحتلالات والصراعات، بل أيضاً واحد من المراكز التاريخية الأولى لظهور الأديان والمذاهب والمدارس الروحية. المجتمعات العراقية، بأغلبها الساحق، متديّنة بدرجات متفاوتة، تحمل في وعيها ووجدانها سرديات إيمانية قديمة، وتعيش حياتها اليومية من خلال طقوس، وشعائر، وتقاليد دينية، ومذهبية.
من هنا، يصبح الموقف من الدين مسألة حساسة، ليس فقط أخلاقياً، بل سياسياً وطبقياً. المنهج الماركسي لا يقف ضد الإنسان المؤمن، ولا ضدّ الإيمان بوصفه تجربة ذاتية–روحية عميقة، بل يضع الدين في مكانه التاريخي: نظام رموز ومعانٍ وتأويلات، يمكن أن يُستخدم لتبرير السلطة والاستغلال، ويمكن أن يُستعاد منه أيضاً ما يخدم قيم العدالة والكرامة والتضامن.
الخطر ليس في وجود متديّنين، بل في استخدام المؤسَّسات الدينية، والرموز، والطقوس، كأدوات تعبئة لصالح طبقة حاكمة ريعية–فصائلية، أو لصالح مشاريع حربية وعدوانية. الخطر في أن تتحوّل وتروج مصطلحات ك-«العمامة» رمزاً عاماً للفساد، وأن تصبح «المرجعية» كلمة سباب، وأن يُختزل تاريخ طائفة كاملة، عاشت في هذا البلد منذ نشوء هذا الدين، في صور نمطية عن «اللطم» و«الفتاوى» و«الحشد» من دون تمييز بين الشعبي والرسمي، بين القاعدة الفقيرة والقيادة المتحالفة مع السلطة.
إنّ الحشد الشعبي، مثلاً، ظاهرة مركّبة: في لحظة صعود داعش وتفكك الجيش وتهديد المدن والقرى بالذبح والسبي، انطلقت موجة تطوّع شعبية واسعة، لعبت دوراً حقيقياً في وقف التقدّم الداعشي وفي الدفاع عن الناس وكرامتهم، وقدّمت تضحيات ثقيلة. هذا الوجه لا يجوز طمسه أو إهانته. في الوقت نفسه، تحوّل جزء من هذه التشكيلات إلى أذرع مسلحة داخل بنية السلطة، وارتُكبت باسمها وباسم فصائل أخرى أخطاء وجرائم وانتهاكات. الموقف الماركسي لا يقدّس ولا يشتم، بل يفكّك: يميّز بين استعداد جماهيري حقيقي للتضحية ضدّ الفاشية الداعشية، وبين توظيف هذا الاستعداد في مشروع طبقي فاسد.
المسألة نفسها تنطبق على الموقف من «المرجعية» الدينية، ومن القيادات الروحية لكل الأديان والطوائف عموماً: النقد واجب حين تتحوّل المرجعية إلى شريك في تثبيت نظام ريعي–محاصصاتي، أو حين تصمت عن الظلم الاجتماعي، أو حين تستخدم نفوذها لتمرير صفقات السلطة. لكنّ تحويل نقد المؤسسات إلى ازدراءٍ بالمؤمنين أنفسهم، أو إلى كراهيةٍ طائفية ضدّ هذه الجماعة الدينية أو تلك، هو خيانة للمنهج الطبقي، وانزلاق إلى قاموسٍ لا يميّز بين الإنسان المؤمن الذي يُستغلّ، وبين من يستغلّه باسم الدين.
11. الموقف من الجيران والقوميات: ضدّ الشوفينية، مع الطبقة على الضفّة الأخرى، شهد العراق موجات متكررة من الخطاب العنصري والشوفيني ضدّ شعوبٍ وقومياتٍ مجاورة، خاصة في لحظات الصدام والحرب. رُفعت في السابق شعارات «البوّابة الشرقية» التي حوّلت العراق إلى خندقٍ للحرب بالوكالة عن قوى خليجية وأميركية وأوروبية ضدّ شعبٍ جارٍ بأكمله، جارٍ لنا منذ الأزل وباقٍ إلى الأزل والعراق ككيان جيو-سياسي مهدد واقعياً بالاختفاء، وجرى تصوير الحرب الطويلة بوصفها «معركة أمّة» ضدّ «عدوّ فارسي»، بدل أن تُفهم بوصفها حرباً بين أنظمةٍ ومشاريع سياسية.
اليوم يتكرّر المشهد بصورة أخرى: هوسات وهتافات تختصر شعباً كاملاً في نظامه السياسي، وتستهدفه بعبارات طردٍ جماعي، في حين لا نكاد نسمع، إلا لماماً، شعاراتٍ من النوع نفسه ضدّ الاحتلال الأميركي ومخلفاته، وضدّ الكيان الصهيوني، وضدّ داعش والسلفية الجهادية الفاشية، وضدّ القواعد الأجنبية التي تقف على الأرض العراقية نفسها.
المنهج الماركسي لا يقف في صفّ نظامٍ إقليمي ضدّ آخر، ولا يبرّئ أيّ سلطة رجعية عن سياساتها داخل بلدها أو خارجه، لكنه يرفض اختزال شعبٍ كامل، أو طائفةٍ كاملة، أو قوميةٍ كاملة، في حكّامها. العداء يجب أن يكون موجّهاً نحو الطبقات الحاكمة، ونحو المشاريع الإمبريالية والرجعية، لا نحو الشعوب.
إنّ تحرير القاموس من عبارات الكراهية ضدّ «الإيراني» كإيراني، أو ضدّ «الكردي» ككردي، أو ضدّ «السني» و«الشيعي» كهوية، هو جزء من إعادة تأسيس المنهج الطبقي. العدوّ الحقيقي هو الطبقة التي تستغلّ، سواء كانت عربية أم كردية أم فارسية أم تركية، وسواء لبست بدلة وربطة عنق، أم عمامة، ام طربوش، ام قلنسوة وسمها ما شئت، أم بزّة عسكرية أم دشداشة وعباءة عشائرية.
12. تنقية القاموس: العودة إلى الطبقة لا إلى الشتيمة كلّ ما سبق يضع أمام الحركة الشيوعية واليسار في العراق مهمة عاجلة: تنقية القاموس السياسي، وتطهير الخطاب من كلّ ما ينتمي إلى منطق العداء الهويّاتي، ومن كلّ ما يعيد إنتاج منطق «الطائفة» و«القومية» و«المكوّن» على حساب منطق الطبقة.
ليس المطلوب تلطيف اللغة إلى حدّ تمييع الموقف؛ بل المطلوب أن تُوجَّه حدّة الغضب نحو من يستحقّها فعلاً: نحو الطبقة المالية–الريعية–الفصائلية التي تنهب وتقتل وتقمع وتبيع السيادة والكرامة، أيّاً كانت لافتتها الطائفية أو القومية، ونحو النظام الإمبريالي العالمي الذي يقيّد سيادة البلد عبر أدوات النفط والدولار والقواعد والاتفاقيات، ونحو كلّ ما يمنع الكادحين من تنظيم أنفسهم وفرض حقوقهم.
كلّ كلمة تُطلق ضدّ «العمائم» بإطلاق، أو ضدّ «المرجعية» بوصفها ديانة كاملة، أو ضدّ «السنة» أو «الشيعة» أو «الأكراد» أو «الإيرانيين» أو «الخليجيين» كشعوب، هي رصاصة تخرج عن مسارها الطبقي لتصيب الضحية بدل الجلّاد. وكلّ كلمة تُختَزل فيها أزمة العراق في «فساد هذه الطائفة» أو «خيانة تلك القومية»، هي حجابٌ يُغطي على الدور الفعلي للطبقة الحاكمة بكل أجنحتها.
إعادة بناء خطاب شيوعي ماركسي حيّ تبدأ من هنا: من العودة إلى اللغة الطبقية، ومن الشجاعة في تسمية الأشياء بأسمائها، ومن رفض الانجرار خلف قاموس الإعلام الشعبوي، سواء جاء من قنوات السلطة أو من قنوات برجوازية–طائفية وعنصرية وشوفينية معارضة.
13. ما العمل؟ من السيادة والطبقة إلى الدين والقاموس حين يُسأل اليوم: «هل نحن في وطن حر؟» يمكن للإجابة الماركسية أن تجمع بين الإنصاف والوضوح.
نعم، البلد خرج من مرحلة الاحتلال المباشر، ومن نظام العقوبات الشامل، ومن الحصار الذي كان يقتل الأطفال بالجوع والدواء. نعم، هناك حيز حياة لم يكن موجوداً في التسعينيات ولا في سنوات الغزو الأولى. لكنّ هذا لا يكفي لإعلان اكتمال الحرّية، لأنّ السيادة الاقتصادية ما زالت مربوطة برقبة النفط والدولار، ولأنّ السيادة الأمنية موزّعة بين الدولة والفصائل والقواعد الأجنبية، ولأنّ السيادة السياسية خاضعة لموازين قوى إقليمية وعالمية أكثر مما هي خاضعة لإرادة الطبقة العاملة والكادحين.
ونعم، الناس تتديّن، وتلطم، وتطعن أجسامها بالسيوف، وتصلّي، وتصوم، وتذهب إلى الحسينيات والجوامع والكنائس والمزارات، وتستمدّ من إيمانها قوة على تحمّل القهر اليومي؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ الدين هو العدو، بل يعني أنّ على الحركة الشيوعية أن تميّز بين الدين كخبرة إنسانية، وبين توظيفه في خدمة الطبقة الحاكمة.
ونعم، هناك مظالم حقيقية عاشتها هذه الطائفة أو تلك، وهذا الشعب أو ذاك، في تاريخ العراق والمنطقة؛ لكنّ تحويل هذه المظالم إلى وقود لعداءٍ عنصري ضدّ الجيران، أو ضدّ مواطنين شركاء في الوطن، هو طريق مسدود، لا ينتج إلا مزيداً من الدم، ومزيداً من استقرار السلطة الطبقية التي تجلس فوق الجميع.
ما العمل إذاً؟ الجواب لن يكتبه نصّ واحد، لكن يمكن القول إنّ الخطوط الكبرى أصبحت أوضح:
إعادة بناء التحليل الطبقي كأداة رئيسية لفهم ما يجري، إعادة وصل الحركة الشيوعية بالبروليتاريا المهدَّدة وبكلّ الكادحين في المدن والريف، إعادة تنظيم الصفوف من القاعدة، لا من فوق؛ في الحيّ، وفي المعمل، وفي الميناء، وفي الجامعة، وفي القرية، اتخاذ موقف مستقل جذري من بنية الدولة الطائفية–الفصائلية–الريعية، لا ذيل لأيّ جناح من أجنحة الطبقة الحاكمة، وتنقية القاموس من كلّ ما يشوّه المنهج الطبقي، والعودة الصادقة إلى الماركسية واللينينية كمنهج شكّ ونقد وتجديد، لا كجمل جاهزة ولا كأيقونات مقدّسة.
في لحظات التحوّل الكبرى لا يكفي أن نرى الواقع؛ يجب أن نرى أنفسنا فيه. فالتحليل، مهما بلغ عمقه، يبقى نصف الطريق إذا لم يتحوّل إلى إرادة واعية، إلى سعي منظّم، إلى فعل تاريخي قادر على تغيير ميزان القوى.
وليس غريباً أن يجد المنهج الماركسي، وهو ابنُ صراع الإنسان مع ظروفه، صدىً عميقاً فيما استقرّ في وجدان الناس عبر القرون من أن:
﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾
ليست هذه الكلمات وعداً غيبياً، بل اعترافٌ مبكّر بحقيقةٍ مادية جوهرية: أن الشعوب تُعرَف بأعمالها، وأن الطبقات لا تُقاس بأحلامها، بل بقدرتها على تحويل وعيها إلى قوة اجتماعية، وأن السعي ليس فعلاً فردياً، بل فعلاً جماعياً يصبح في لحظةٍ ما قوّةً مادية حين يدخل الوعيُ إلى صفوف الكادحين وينظّم حركتهم.
بهذا المعنى، لا يعود «السعي» جهداً أخلاقياً أو روحياً فحسب، بل يصبح ما عبّر عنه ماركس بجلاء: أن الإنسان يصنع نفسه عبر عمله، وأن الطبقة العاملة لا تتحرّر إلا حين ترى سعيها في العالم، في شكل تنظيم، وموقف، وبرنامج، وصراع واعٍ ضدّ الطبقة التي تستغلّها.
وفي العراق تحديداً، حيث أُنهكت الطبقات الشعبية بالحروب والحصار والاحتلال والبطالة والتهميش، يصبح هذا السعي فعلاً وجودياً: سعيٌ لاستعادة الكرامة، سعيٌ لحماية لقمة العيش، سعيٌ لبناء وطن لا يتحكّم بمستقبله النفطُ، ولا الدولارُ، ولا الفصائلُ، ولا القواعدُ الأجنبية، سعيٌ لتحويل الغضب الصامت إلى فعل منظم يعيد للطبقة العاملة دورها التاريخي.
وهنا، يصبح المشهد أوضح: لا تنتظر الطبقة العاملة منقذاً، ولا معجزة سياسية، ولا زعيماً يتبرّع لها بالحرية؛ فالحرية، كما الوعي، تُنتج ولا تُمنح، وتُنتزع ولا تُستجدَى، وتظهر حين يتحوّل «سعي الإنسان» إلى سعي طبقة، وحين تتحوّل المعاناة اليومية إلى رؤية، والرؤية إلى برنامج، والبرنامج إلى نضال اجتماعي قادر على تغيير شكل الدولة ونمط الاقتصاد وطبيعة السلطة.
بهذه الروح وحدها يمكن أن يصبح السؤال القديم – الجديد: «ما العمل؟» سؤالاً موجهاً إلى الطبقة العاملة ذاتها، لا إلى القيادة وحدها؛ سؤالاً يُجاب عليه بالسعي، لا بالانتظار، بالتنظيم، لا بالحنين، وبإرادة تغييرٍ تُرى نتائجها في حياة الناس، لا في البيانات والشعارات.
14. خاتمة: الطبقة قبل الحزب، الإنسان قبل الشعار، والمواطنة قبل المكوّن ما تحاول هذه النصوص الثلاثة – الوثيقة المركزية، والنص المكمّل، وهذا النص الثالث – أن تفعله هو إعادة ترتيب الأولويات في زمن ضجيجٍ شعبوي وطائفي وإعلامي خانق:
الطبقة قبل الحزب، لأنّ الحزب بلا قاعدة طبقية واعية يتحوّل إلى جهاز فوقي يدور في فراغ؛ الإنسان قبل الشعار، لأنّ الغاية من كلّ سياسة ثورية هي تحرير الإنسان العامل من الفقر والخوف والإذلال؛ المواطنة قبل المكوّن، لأنّ «الشيعي» و«السنّي» و«الكردي» و«التركماني» و«المسيحي» و«الإيزيدي»، جميعهم إمّا كادحون أو متحالفون مع الكادحين أو مستغِلّون لهم؛ والتحرّر قبل الاصطفاف مع أي محور أو دولة أو قوة خارجية، لأنّ أي محور لا يرى في الطبقة العاملة العراقية إلا ورقة من أوراق لعبه لا يمكن أن يكون حليفاً لها.
الأزمة التي يعيشها العراق اليوم ليست قدراً، بل نتيجة مسار تاريخي طويل يمكن قلبه. لكنّ قلبه لن يكون بيد الطبقة المالية–الريعية–الفصائلية التي صنعته، ولا بيد القوى الإمبريالية والإقليمية التي رعت هذا المسار، بل بيد طبقةٍ كادحة تستعيد وعيها بذاتها، وتنظّم صفوفها، وتبني أدواتها السياسية الجديدة، وتطهّر لغتها من كلّ ما ليس طبقياً، وتعرف أن تحترم إيمان الناس وكرامتهم وإنسانيتهم، وهي في الوقت نفسه تحرّرهم من استغلال من يتاجر بهذا الإيمان وهذه الكرامة.
عندها فقط يمكن لشعار «وطن حرّ وشعب سعيد» أن يغادر الجدار إلى الحياة، وأن يصبح احتمالاً تاريخياً، لا مجرّد أمنية تُهمَس على استحياء.
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوثيقة الثانية: تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
-
تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
-
ماذا يريد الشيوعيون؟
-
الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي
...
-
لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
-
العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د
...
-
أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
-
الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما
...
-
التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
-
من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
-
قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
-
الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
-
هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
-
الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
-
التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض
...
-
تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية
...
-
الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
-
الاشتراكية والثورة: هل يمكن التحرر دون سلطة؟ رد على أحمد الج
...
-
نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية
...
-
من الدولة إلى التنظيم الطبقي: في الرد على أطروحات أحمد الجوه
...
المزيد.....
-
أوروبا تحشد لدعم أوكرانيا وسط مخاوف من صفقة سلام لا ترضي أحد
...
-
-ما كان ينبغي أن يجتمع هذان المجنونان-.. -غونجا- الجميلة الت
...
-
خط كتابة يتسبب بجدل في أمريكا.. شاهد ما أمر به وزير الخارجية
...
-
ضائعة وعمرها 200 عام.. لن تصدقوا المبلغ المتوقع لبيع هذه الل
...
-
لماذا يُطلب من السيّاح مسح أحذيتهم قبل زيارة -أنقى بحيرة في
...
-
عائدات النفط الروسي تهوي لأدنى مستوى منذ بداية الحرب في أوكر
...
-
كييف تسلم واشنطن نسخة محدثة من الخطة الهادفة إلى إتهاء الحرب
...
-
إسرائيل تسعى إلى تحسين صورتها من خلال الإنفلونسرز
-
في غزة، لا يزال المزارعون محرومين من أراضيهم
-
اليونسكو : تسجل القفطان المغربي تراثا عالميا غير مادي
المزيد.....
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
المزيد.....
|