|
|
الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية
علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 16:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الوثيقة الرابعة
الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية
في النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية
د. علي عبد الرضا طبله 2025.12.14
ضمن مشروع إعادة التأسيس الشيوعي في العراق
التمهيد النهج بوصفه ضرورة تاريخية لا خيارًا نظريًا
ليست هذه الوثيقة إضافةً لاحقة على ما سبقها من وثائق، ولا تعليقًا تفسيريًا على مسارٍ مكتمل، ولا مراجعةً سياسيةً ظرفية أملاها تبدّل في المواقف أو الحسابات. إنها، في معناها الجوهري، إعادة تموضع منهجي واعٍ داخل مشروع فكري وسياسي طويل النفس، أدرك – عبر تراكم التجربة والتحليل والممارسة – أن أخطر ما يواجهه ليس الخصوم وحدهم، بل جمود أدوات الفهم حين تعجز عن مواكبة التحولات التاريخية العميقة.
فالوثيقة لا تنطلق من فراغ، ولا تدّعي القطيعة مع ما سبقها، بل تُكتب من داخل مسارٍ متصل بدأ بالوثائق التأسيسية الثلاث، واستجاب في حينه لشروط تاريخية محددة، وعبّر عن مستوى تحليل كان ضروريًا وملائمًا لتلك اللحظة. غير أن الإخلاص الحقيقي لهذا المسار لا يكون بتجميده عند حدوده الأولى، بل بامتلاك الشجاعة المنهجية للاعتراف بأن تغيّر الشروط الموضوعية يفرض بالضرورة تغيّر مستوى القراءة.
من هنا، فإن ما تقدمه هذه الوثيقة لا يجوز فهمه بوصفه نفيًا لما طُرح سابقًا، ولا تراجعًا عنه، ولا “استدارة” عن المواقف، بل بوصفه رفعًا واعيًا لمستوى التحليل. فالوثائق الثلاث الأولى اشتغلت، عن حق، على مستوى سياسي–نضالي مباشر، صدامي في لغته، تعبوي في مقاصده، وكان ذلك جزءًا من ضرورتها التاريخية. أما الوثيقة الرابعة، فهي تنتقل إلى مستوى مختلف: مستوى التفكيك البنيوي لشروط إنتاج الأزمة نفسها، بما في ذلك الشروط التي حكمت وعينا نحن بهذه الأزمة.
هذا الانتقال في المستوى لا يعني أن ما كُتب سابقًا كان خاطئًا، بل يعني أنه كان جزئيًا بالمعنى التاريخي: صحيحًا داخل حدوده، وغير كافٍ وحده للإحاطة بواقع أخذ يتكشف، مع مرور الوقت، على درجة أعلى من التعقيد. والخلط بين “الجزئي” و“الخاطئ” هو أحد أشكال التفكير الاختزالي التي يسعى هذا النهج إلى تجاوزها.
إن الماركسية التي ننطلق منها هنا لا تُفهم بوصفها مجموعة نصوص مكتملة تُستعاد، ولا تراثًا يُحرَس، ولا عقيدةً مغلقة يُقاس الانتماء إليها بدرجة التكرار الحرفي. إنها تُفهم، كما أرادها مؤسسوها الكبار، بوصفها منهجًا تاريخيًا حيًّا، يُعاد بناؤه باستمرار من داخل الواقع، لا فوقه. ومن هذا الفهم بالتحديد تبلور ما نسمّيه النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية.
الشك هنا ليس شكًا في الجوهر، بل شكًا في الأشكال المتحجرة. ليس شكًا في الصراع الاجتماعي، بل في الطرق التي نقرأه بها. وليس شكًا في المادية التاريخية، بل في الاختزالات التي تُفرغها من قدرتها التفسيرية. فالنهج الذي لا يشكّ في أدواته حين تفشل، يتحول من أداة تحرير إلى قيد معرفي.
إن اعتماد هذا النهج لم يكن خيارًا نظريًا حرًّا، بل استجابة اضطرارية لواقع عراقي بالغ التعقيد، واقع لم يتطور عبر مسار تراكمي هادئ، بل عبر انقطاعات عنيفة: حروب، عسكرة شاملة، تحطيم المجتمع، ثم احتلال أعاد تفكيك الدولة وإعادة تركيبها على أسس ريعية–مكوناتية. وفي مثل هذا السياق، يصبح الإصرار على استخدام أدوات تحليل صيغت لظروف أخرى نوعًا من الإنكار، لا من الثبات.
إن ما نسمّيه هنا النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية لا يقوم على موقف ذهني أو نزعة تأملية، ولا يُطرح بوصفه “اتجاهًا” فكريًا بين اتجاهات، بل بوصفه بناءً منهجيًا متكاملًا تشكّل عبر اشتغال طويل، ونقاشات داخلية عميقة، ودراسات معمّقة استغرقت سنوات من البحث في النظرية والتاريخ والواقع العراقي الملموس. وهو نهج لا يفصل بين الماركسية واللينينية بوصفهما تراثين جامدين، ولا يذيب أحدهما في الآخر، بل يتعامل معهما كمنهجين تاريخيين تشكّلا في شروط محددة، واحتفظا بقابليتهما للتجديد ما دامت هذه الشروط تُفحَص ولا تُقدَّس.
لقد كان الشك المنهجي نقطة الانطلاق، لا بوصفه تشكيكًا في المبادئ، بل بوصفه أداة لفرز ما يبقى صالحًا مما استُنفِد تاريخيًا. فالنهج التشكيكي لا يشك في مركزية الصراع الاجتماعي، ولا في الطابع المادي للتاريخ، ولا في ضرورة التنظيم، لكنه يشك في الصيغ الجاهزة التي تُستعاد من دون مساءلة، وفي النماذج التي تحولت إلى وصفات صالحة لكل زمان ومكان. ومن هنا جاء وصفه بالنقدي، لأنه لا يكتفي بتفكيك الواقع، بل يفكك أيضًا أدوات تفكيكه، ويخضعها هي نفسها للاختبار.
أما طابعه التجديدي، فلا يعني البحث عن “جِدّة” شكلية أو مصطلحية، بل يعني إعادة بناء المفاهيم من داخل التجربة التاريخية الخاصة. فالتجديد هنا ليس استيرادًا، ولا قطيعة اعتباطية، بل عملًا شاقًا على وصل النظرية بالواقع، وإجبار المفاهيم على العمل داخل شروط لم تُصمَّم أصلاً من أجلها. وبهذا المعنى، فإن التجديد ليس ترفًا، بل شرط بقاء المنهج حيًّا.
لقد تطوّر هذا النهج بصورة أكثر اكتمالًا في مخطوطة كتاب مستقل بعنوان «النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية» من تأليف د. علي عبد الرضا طبله، وهو عمل استغرق إنجازه سنوات من الدراسة والتحليل، ويجري التحضير لدفعه إلى الطبع في المستقبل القريب، إلى جانب مؤلفات أخرى شبه منجزة تتناول قضايا الدولة العراقية، والتحولات الطبقية، والمكوناتية السياسية، وأزمة التنظيم اليساري، وإشكاليات إعادة التأسيس الشيوعي في العراق. وبهذا المعنى، فإن هذه الوثيقة لا تشكّل الأساس النظري لهذا النهج، بل إحدى ساحات اختباره وتطبيقه.
إن إدخال هذه الإشارة ليس إجراءً توثيقيًا، بل تحديدًا منهجيًا ضروريًا. فهو يضع هذه الوثيقة في موقعها الصحيح: نص اشتباك تحليلي–سياسي يستند إلى مشروع بحثي أوسع، ولا يدّعي الإحاطة أو الاكتمال. ومن دون هذا التحديد، يصبح من السهل إساءة قراءة الوثيقة، إما بوصفها قطيعة مع ما سبقها، أو بوصفها محاولة لإعادة تعريف الماركسية من داخل نص وثائقي، وهو ما لا نهدف إليه.
وعند الانتقال من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي، يظهر العراق بوصفه حقل اختبار قاسٍ لأي منهج يدّعي الجدية. فالعراق ليس حالة “ناقصة” قياسًا بنموذج نظري مثالي، بل حالة تاريخية مركّبة كشفت، بحدّتها، حدود الكثير من الأدوات التحليلية السائدة. ففي بلدٍ تداخلت فيه الدولة بالعنف، والاقتصاد بالريع، والهوية بالسياسة، والتنظيم بالشبكات، لم يعد ممكنًا الاكتفاء بتفسيرات أحادية المستوى، ولا بمقولات عامة عن “الطبقة” أو “الدولة” بمعزل عن شروط تشكلهما الفعلية.
لقد كشفت التجربة العراقية، بوضوح مؤلم، أن التمسك بتحليل اختزالي – مهما بدا “نقيًا” نظريًا – لا يؤدي إلا إلى فجوة متزايدة بين الخطاب والواقع. فالطبقة لم تختفِ، لكنها لم تعد تتشكّل وتتحرك كما في النماذج الكلاسيكية. والدولة لم تذبُ، لكنها لم تعد تعمل كدولة بالمعنى الذي تفترضه الأدبيات التقليدية. والتنظيم لم ينتفِ، لكنه لم يعد قادرًا على الاشتغال بالآليات التي صيغت لمرحلة تاريخية أخرى. وهذه التناقضات هي التي فرضت، لا نظريًا بل عمليًا، الانتقال إلى مستوى تحليلي أكثر تركيبًا.
ومن هنا، فإن الوثيقة الرابعة لا تطرح نفسها بوصفها لحظة “تصحيح سياسي”، بل بوصفها لحظة وعي منهجي. إنها تقول بوضوح إن المشروع الذي لا يراجع أدواته حين تتغير شروط الواقع، محكوم إما بالتكلس أو بالتلاشي. أما المشروع الذي يملك الجرأة على رفع مستوى تحليله، فهو وحده القادر على الاستمرار داخل التاريخ، لا على هامشه.
إن من أكثر سوء الفهم المتوقع شيوعًا إزاء هذه الوثيقة هو التعامل معها بوصفها تناقضًا مع ما ورد في الوثائق التأسيسية الثلاث السابقة، أو بوصفها استدارة حادة في الموقف أو المنهج. ويقتضي الوضوح المنهجي منذ البداية التأكيد على أن هذا الفهم قراءة خاطئة من حيث المنطلق، لأنه يخلط بين تغيّر المواقف السياسية وتطوّر مستوى التحليل، وبين التراجع والارتقاء المعرفي.
فالوثائق التأسيسية الثلاث كُتبت في سياق تاريخي محدد، واستجابت لمرحلة سياسية اتسمت بحدة الصراع المباشر، وبالحاجة إلى خطاب تعبوي واضح، وبمواجهة آنية لبنية سلطة كانت لا تزال في طور التشكل. وقد أدّت هذه الوثائق دورها في حينه، ليس فقط بوصفها نصوصًا سياسية، بل بوصفها لحظة تأسيس لخطاب نقدي يساري حاول تسمية الأزمة وتسليط الضوء على طبيعة النظام القائم. غير أن نجاح هذه الوثائق في أداء وظيفتها التاريخية لا يحوّلها إلى نصوص مكتفية بذاتها، ولا يعفيها – ولا يعفي مشروعها – من المراجعة حين تتكشف حدود أدواتها.
من هنا، فإن الوثيقة الرابعة لا تُلغِي ما سبقها، ولا “تصحّحه” بمعنى النفي، بل تعيد قراءته من مستوى تحليلي أعلى. إنها لا تقول إن ما طُرح سابقًا كان خطأ، بل تقول إنه كان جزئيًا بالمعنى التاريخي: التقط جوانب أساسية من الواقع، لكنه لم يكن قادرًا – بحكم شروط لحظته – على الإحاطة بكل البنى العميقة التي كانت لا تزال في طور التبلور. ومع انكشاف هذه البنى، ومع تراكم الخبرة النظرية والعملية، يصبح رفع مستوى التحليل ليس خيارًا، بل ضرورة.
هذا التمييز بين التناقض والتطور أساسي. فالتناقض يعني نفي المضمون السابق، أما التطور فيعني إعادة تأطيره ضمن أفق أوسع. والوثيقة الرابعة تنتمي بوضوح إلى الحالة الثانية. إنها تمسك بالخيط الناظم للمشروع – نقد الدولة الريعية، وفضح المكوناتية، والدفاع عن الصراع الاجتماعي – لكنها تعيد إدخاله في تحليل بنيوي أكثر تركيبًا، يسمح بفهم ليس فقط ما يجري، بل كيف ولماذا يجري بهذا الشكل.
ولهذا السبب، لا يجوز قراءة هذه الوثيقة قراءةً اجتزائية، ولا مقارنتها بالوثائق السابقة على مستوى اللغة أو النبرة فقط. فاللغة السياسية تتغير بتغير المهام، أما المنهج فيتطور بتغير المعرفة. ومن الخطأ المنهجي الفادح اختزال هذا التطور إلى “تخفيف في الراديكالية” أو “تكيّف مع الواقع”، لأن ما يجري هنا هو العكس تمامًا: تعميق للراديكالية عبر تعميق الفهم.
كما أن هذه الوثيقة لا تسعى إلى إنتاج “صيغة وسطية” أو موقف توفيقي بين تيارات متعارضة، ولا إلى طمأنة جميع الأطراف داخل اليسار أو خارجه. إنها تضع معيارًا واضحًا للنقاش: معيار القدرة على تفسير الواقع كما هو، لا كما نرغب أن يكون، ومعيار الاستعداد لتحمّل كلفة التفكير المختلف. فالمشروع الذي يخشى الاتهام بالتناقض، أو يتجنب رفع مستوى تحليله خشية سوء الفهم، هو مشروع محكوم بالبقاء أسيرًا للغة الماضي.
إن التمهيد، بهذا المعنى، لا يقدّم مقدمة نظرية مجردة، بل يؤسس منذ البداية قيدًا منهجيًا واضحًا يحكم قراءة الوثيقة بأكملها: ما يرد في الصفحات التالية لا يُقرأ بوصفه مراجعة سياسية ظرفية، ولا بوصفه بيانًا تصحيحيًا، بل بوصفه لحظة تطور في مشروع حيّ، يعتبر أن النصوص ليست غاية في ذاتها، بل أدوات مؤقتة في مسار طويل من الفهم والتغيير.
وبهذا الإغلاق، ينتقل النص من تحديد موقعه المنهجي إلى الاشتغال التفصيلي على أدوات التحليل التي سيعتمدها، بدءًا من نقد الاختزال، مرورًا بالتحليل البنيوي الشرطي، وصولًا إلى تفكيك الدولة والأحزاب والتنظيم. فالتمهيد ليس مدخلًا شكليًا، بل عتبة وعي لا يمكن تجاوزها دون أن يُساء فهم كل ما يأتي بعدها.
من الاختزال إلى التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات
يبدأ هذا القسم من مسلّمة منهجية أساسية مفادها أن أحد أخطر ما أصاب القراءة اليسارية للواقع العراقي خلال العقود الأخيرة هو الاختزال التحليلي. والاختزال هنا لا يعني الخطأ الفجّ أو الجهل، بل يعني استخدام مفاهيم صحيحة في أصلها خارج شروط اشتغالها التاريخي، وتحويلها من أدوات تفسير إلى قوالب جاهزة تُفرَض على الواقع بدل أن تُستخرج منه.
لقد جرى، على نحو واسع، التعامل مع مفاهيم مركزية مثل “الطبقة”، و“الدولة”، و“الصراع الاجتماعي”، بوصفها مفاتيح سحرية قادرة بذاتها على تفسير كل ما يحدث. غير أن هذه المفاهيم، حين تُنتزع من سياقات تشكّلها التاريخي، وحين لا يُعاد فحص الوسائط التي تعمل عبرها في واقع معيّن، تتحول إلى لغة توصيف لا إلى تحليل. وهكذا يصبح الخطاب صحيحًا في مفرداته، لكنه عاجز عن تفسير آليات الفعل الفعلية.
إن الاختزال لا ينتج فقط تحليلات ناقصة، بل ينتج أيضًا سياسات ناقصة. فحين يُختزل الواقع في سبب واحد، تُختزل الممارسة في أداة واحدة، ويُختزل الصراع في مواجهة واحدة. وفي سياق معقّد مثل السياق العراقي، حيث تتراكب الدولة بالعنف، والاقتصاد بالريع، والهوية بالسياسة، والتنظيم بالشبكات، يؤدي هذا الاختزال إلى سوء تقدير دائم لطبيعة الخصم، وطبيعة المجتمع، وحدود الفعل الممكن.
من هنا، تبرز الحاجة إلى الانتقال من التفسير الأحادي المستوى إلى ما نسمّيه التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات. وهذا التحليل لا يُقترح بوصفه إضافة تقنية أو تعقيدًا أكاديميًا، بل بوصفه ضرورة معرفية وسياسية فرضها الواقع نفسه. فالمجتمع العراقي لا يعمل على مستوى واحد يمكن عزله وتحليله بمعزل عن غيره، بل يعمل عبر تفاعل مشروط بين مستويات متداخلة، لكل منها منطقها الخاص، وتأثيرها المتبادل.
يقوم هذا التحليل على فرضية مفادها أن أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية هي نتاج تراكب شروط، لا انعكاس مباشر لعامل واحد. فالبنية الاقتصادية، مهما كانت مركزيتها، لا تُنتج وعيًا أو تنظيمًا أو صراعًا بشكل مباشر، بل تفعل ذلك عبر وسائط تاريخية محددة: شكل الدولة، ونمط الحكم، وتاريخ العنف، وبنية المجتمع، وأنماط العيش، وأشكال الانتماء. وتجاهل هذه الوسائط لا يحافظ على “نقاء” التحليل الطبقي، بل يُفرغه من مضمونه.
إن التحليل البنيوي الشرطي لا ينفي مركزية الاقتصاد، لكنه يرفض الميكانيكية الاقتصادية. وهو لا ينكر الصراع الطبقي، لكنه يرفض افتراض أنه يتخذ دائمًا الشكل نفسه. فالطبقة، في مجتمع ريعي–مكوناتـي، لا تتشكّل بالطريقة التي تتشكّل بها في مجتمع صناعي منتج، ولا تعبّر عن نفسها بالوسائط نفسها. وهذا لا يعني غيابها، بل يعني تشوّه أشكال تمثّلها وتعبيرها.
بهذا المعنى، يصبح السؤال المنهجي الحاسم ليس: هل هناك صراع طبقي؟ بل: كيف يعمل هذا الصراع فعليًا في شروط محددة؟ وعبر أي قنوات يتوسّط؟ وبأي أشكال يتخفّى أو يُعاد إنتاجه؟ وهذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه بأداة تحليلية واحدة، ولا بمستوى واحد من القراءة.
ومن هنا، فإن هذا القسم لا يهدف إلى تقديم إطار نظري مجرد، بل إلى تأسيس أداة تحليل قادرة على الانتقال معنا إلى تفكيك الدولة العراقية، والمكوناتية، وتحول الأحزاب، وأزمة التنظيم. فالتحليل البنيوي الشرطي هو المفتاح المنهجي الذي سيحكم كل المقاطع اللاحقة، ويمنع الوقوع في التفسير الأخلاقي أو التبسيطي أو التبريري.
إن من أكثر مظاهر الاختزال شيوعًا في قراءة الواقع العراقي المعاصر هو التعامل مع الهوية—وخاصة الطائفية والقومية—بوصفها إما بقايا ما قبل حداثية، أو أدوات أيديولوجية صرفة تُستخدم لتضليل الجماهير وصرفها عن “صراعها الحقيقي”. وعلى الرغم من أن هذا التوصيف يلتقط جانبًا من الحقيقة، إلا أنه يفشل في تفسير السؤال الحاسم: كيف تحوّلت الهوية إلى بنية سياسية–اقتصادية فاعلة؟ وكيف أصبحت وسيطًا مركزيًا لإعادة إنتاج السلطة، لا مجرد خطاب تعبوي؟
إن التحليل البنيوي الشرطي يرفض المقاربة التي تفصل الهوية عن شروط إنتاجها. فالطائفة، في السياق العراقي، لا تعمل بوصفها معطًى ثقافيًا ثابتًا، ولا بوصفها وعيًا زائفًا فحسب، بل بوصفها آلية تاريخية لتوسّط العلاقة بين الفرد والدولة في لحظة تآكلت فيها وسائط المواطنة. وحين تتراجع الدولة بوصفها إطارًا عامًا محايدًا، ويتحول الوصول إلى الموارد والحماية والتمثيل إلى مسألة غير مضمونة، تصبح الهوية قناة تنظيم بديلة، تُعاد صياغتها سياسيًا واقتصاديًا.
في هذا السياق، لا يمكن فصل صعود الطائفية السياسية عن تحول الدولة إلى دولة ريعية. فالاقتصاد الريعي لا يربط الثروة بالعمل، بل يربطها بالوصول إلى الدولة. وحين تصبح الدولة هي الموزّع الرئيسي للموارد، يتحول الصراع الاجتماعي من صراع على شروط الإنتاج إلى صراع على شروط الوصول. وهنا تتغير وظيفة الهوية: من إطار انتماء رمزي إلى وسيط عملي يحدد فرص الفرد والجماعة في هذا الصراع. وبهذا المعنى، لا تُختزل الطائفية في الخطاب، بل تُفهم كبنية توزيع.
إن إدخال هذا البعد البنيوي يسمح لنا بتجاوز الثنائية الزائفة بين “التحليل الطبقي” و“التحليل الهوياتي”. فالهوية لا تُلغِي الصراع الطبقي، لكنها تعيد تشكيله وتشويهه في شروط تاريخية محددة. فالطبقة لم تختفِ، لكنها لم تعد تعبّر عن نفسها بوصفها طبقة صافية، بل عبر قنوات مكوناتية، وعشائرية، وشبكية، تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية مع أنماط الحماية والانتماء. وإنكار هذا الواقع لا يعيد الصراع إلى نقائه، بل يحجب آليات اشتغاله الفعلية.
ومن هنا، فإن التحليل البنيوي الشرطي لا يتعامل مع الهوية بوصفها بديلًا عن الطبقة، ولا بوصفها نقيضًا لها، بل بوصفها شكلًا تاريخيًا متحوّلًا لتوسّط الصراع الاجتماعي. وهذا الفهم يمنع السقوط في فخّين متقابلين: فخّ التفسير الثقافوي الذي يردّ كل شيء إلى “العقلية” أو “التراث”، وفخّ التفسير الاقتصادي الميكانيكي الذي يردّ كل شيء إلى “القاعدة” بمعزل عن شكل الدولة وتاريخ العنف.
وعلى المستوى التطبيقي، يكشف هذا التحليل أن الطائفية السياسية في العراق لم تنشأ فقط من فوق، عبر خطاب نخبوي أو تدخل خارجي، بل تغذّت من شروط اجتماعية ملموسة: انهيار منظومات الحماية العامة، تراجع فرص العمل المستقر، تفكك المجال العام، وانتشار اقتصاد غير رسمي يقوم على الوساطة والعلاقات. وفي مثل هذا السياق، تصبح الهوية موردًا اجتماعيًا، لا مجرد انتماء رمزي.
إن هذا الفهم البنيوي يسمح لنا أيضًا بإعادة قراءة التحولات داخل القوى السياسية نفسها. فالأحزاب التي تبنّت خطابًا طائفيًا أو قوميًّا لم تفعل ذلك فقط بدافع أيديولوجي، بل لأنها وجدت في الهوية أداة تنظيم فعّالة داخل دولة ريعية–مكوناتية. وهنا تتقاطع بنية الهوية مع بنية الحزب، ومع بنية الدولة، في شبكة معقدة لا يمكن تفكيكها بخطاب إدانة أخلاقي أو ببيانات سياسية عامة.
بهذا المعنى، يصبح التحليل البنيوي الشرطي شرطًا ضروريًا لفهم ليس فقط “لماذا” انتشرت الطائفية، بل “كيف” تعمل، و“أين” يمكن تفكيكها. فالتحليل الذي يكتفي بإدانة الطائفية، من دون تفكيك شروط إنتاجها، يترك البنية تعمل في الظل، ويمنحها قدرة على إعادة إنتاج نفسها بأشكال جديدة.
ومن هنا، فإن هذا القسم لا يتوقف عند تفكيك الهوية، بل يربطها عضويًا بالاقتصاد الريعي، وبشكل الدولة، وبأنماط الحكم، بوصفها عناصر متداخلة في بنية واحدة. وهذا الربط هو ما يسمح بالانتقال، في الجزء التالي، إلى استكمال بناء الأداة المنهجية، وربطها مباشرة بتفكيك الدولة العراقية بوصفها الحقل المركزي لإعادة إنتاج هذه العلاقات.
إن استكمال بناء التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات يقتضي إدخال عامل الدولة والعنف بوصفهما عنصرين حاسمين لا يمكن فصلهما عن الاقتصاد أو الهوية. فالدولة، في السياق العراقي، لا تعمل بوصفها جهازًا إداريًا محايدًا أو إطارًا قانونيًا جامعًا، بل بوصفها بنية تاريخية أعيد تشكيلها عبر العنف، وتحوّلت، مع الزمن، إلى حقل مركزي لإعادة إنتاج السلطة والموارد والامتيازات. ومن دون إدخال هذا البعد، يبقى التحليل البنيوي ناقصًا، حتى وإن بدا متماسكًا نظريًا.
لقد لعب العنف، في لحظات الانقطاع الكبرى، دورًا يتجاوز القمع المباشر ليصبح آلية لإعادة تشكيل المجتمع ذاته. فالحروب، والعسكرة، والانهيارات المتكررة، لم تُنتج فقط خسائر بشرية ومادية، بل أعادت رسم حدود الثقة، وأشكال التضامن، وأنماط العيش، ودَفعت الأفراد والجماعات إلى البحث عن الحماية خارج الدولة. وفي ظل هذا التاريخ، لم يعد العنف استثناءً طارئًا، بل عنصرًا بنيويًا حاضرًا في تشكيل السياسة والاقتصاد والانتماء.
إن إدخال الدولة والعنف في التحليل البنيوي الشرطي يسمح بفهم كيف تتقاطع البنى المختلفة داخل حقل واحد. فالاقتصاد الريعي، مثلًا، لا يعمل بمعزل عن الدولة، بل عبرها. والهوية لا تتحول إلى بنية سياسية–اقتصادية فاعلة إلا حين تتوافر شروط عنف أو تهديد دائم تجعل الانتماء موردًا للحماية. والتنظيم السياسي لا يتخذ شكله الشبكي–الزبائني إلا في ظل دولة تفتح أبوابها للريع وتغلقها أمام التمثيل الاجتماعي المنتج. وبهذا المعنى، فإن الدولة ليست خلفية محايدة للصراع، بل الوسيط البنيوي المركزي الذي يعيد صياغة كل عناصره.
ومن هنا، يصبح التحليل البنيوي الشرطي أداة لقراءة التشوهات البنيوية لا بوصفها انحرافات أخلاقية أو فشلًا إداريًا، بل بوصفها نتائج منطقية لتراكب شروط محددة. فحين تتآكل الدولة بوصفها إطارًا عامًا، ويتحوّل العنف إلى لغة سياسية كامنة، ويتصدّر الريع آليات التوزيع، تصبح المكوناتية، والشبكات، والزبائنية، أشكالًا “عقلانية” داخل هذا النظام المشوَّه، مهما بدت كارثية من منظور العدالة الاجتماعية.
إن تثبيت هذا الفهم يمنع الوقوع في خطأين متكررين: الأول هو تحميل المجتمع وحده مسؤولية ما يجري، عبر خطاب أخلاقي يلوم “الوعي” أو “الثقافة”؛ والثاني هو تحميل الخارج وحده المسؤولية، عبر خطاب تبسيطي يتجاهل الديناميات الداخلية. فالتحليل البنيوي الشرطي يربط بين الداخل والخارج، بين التاريخ المحلي والبنية العالمية، من دون أن يختزل أحدهما في الآخر.
بهذا المعنى، لا يقدّم هذا القسم إطارًا نظريًا مجردًا، بل يضع الأداة المنهجية التي ستحكم قراءة الأقسام اللاحقة. فحين ننتقل إلى تفكيك الدولة العراقية في القسم الثالث، ثم إلى تحوّل الأحزاب وأزمة التنظيم، سنفعل ذلك انطلاقًا من هذا التحليل المركّب، لا من أحكام مسبقة أو توصيفات سطحية. وهذا ما يمنح الوثيقة تماسكها الداخلي، ويمنع تفككها إلى مقاطع منفصلة.
إن الانتقال من الاختزال إلى التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات ليس ترفًا أكاديميًا، بل شرطًا سياسيًا. فالأدوات التي نستخدمها في الفهم تحدد، بالضرورة، حدود ما نراه ممكنًا في التغيير. والتحليل الذي يعترف بالتعقيد من دون أن يذوبه، ويكشف البنى من دون أن يبررها، هو وحده القادر على فتح أفق سياسة مختلفة، أكثر واقعية، وأكثر قدرة على الاشتباك مع المجتمع كما هو، لا كما نرغب أن يكون.
الدولة العراقية: من الكيان السياسي إلى حقل إعادة إنتاج السلطة الريعية
لا يمكن فهم التحولات السياسية والاجتماعية في العراق المعاصر من دون وضع الدولة في مركز التحليل، لا بوصفها جهازًا إداريًا أو إطارًا قانونيًا مجردًا، بل بوصفها بنية تاريخية مركّبة أعيد تشكيلها عبر مسارات متعاقبة من العنف والانقطاع وإعادة التركيب. فالدولة العراقية، منذ نشأتها الحديثة، لم تتطور عبر مسار تراكمي مستقر، بل عبر توترات بنيوية دائمة بين المجتمع والسلطة، وبين متطلبات السيطرة وأدوات الشرعية.
لقد اتسمت الدولة، تاريخيًا، بضعف قدرتها على بناء عقد اجتماعي متماسك، مقابل قوة أدواتها القسرية. فالتحديث الذي شهدته لم يكن نتاجًا لتوسع علاقات الإنتاج أو لتراكم رأسمالي داخلي مستقر، بل كان في الغالب تحديثًا فوقيًا، مرتبطًا بالدولة نفسها، وبأجهزتها، وبقدرتها على الضبط والإدارة. ومع تعاقب الانقلابات والحروب، تحولت الدولة تدريجيًا إلى فاعل مركزي منفصل نسبيًا عن المجتمع، لا يعكس توازناته بقدر ما يفرض عليها منطقه.
بلغ هذا المسار ذروته في لحظة الانهيار الكبرى التي أعقبت الحروب المتتالية، ثم الاحتلال، حيث لم يجرِ “تغيير نظام” بالمعنى السياسي الضيق، بل تفكيك الدولة بوصفها بنية، ثم إعادة تركيبها على أسس جديدة. وهذه الأسس لم تُبنَ على إعادة توزيع منتجة، ولا على توسّع المجال العام، بل على اقتصاد ريعي، ونمط حكم مكوناتـي، وشبكات سلطة–حماية–توزيع. ومن هنا، فإن الدولة ما بعد هذا التحول لم تعد استمرارًا بسيطًا لما سبقها، ولا قطيعة مطلقة معه، بل تشكيلًا هجينًا يحمل آثار الماضي ويعمل بمنطق جديد.
إن فهم الدولة بوصفها بنية ريعية لا يعني اختزالها في مورد النفط وحده، بل يعني إدراك أن منطق الريع أصبح المنطق الناظم للعلاقة بين الدولة والمجتمع. فالريع، بوصفه موردًا لا يرتبط مباشرة بالعمل الاجتماعي المنتج، يعيد صياغة السياسة نفسها. وحين تصبح الدولة هي الموزّع الأساسي للثروة، تتحول السياسة إلى صراع على الوصول إلى الدولة، لا على تغيير شروط الإنتاج أو إعادة توزيع القيمة المنتَجة. وهنا تتبدل طبيعة الصراع الاجتماعي، وتُعاد صياغة أشكاله وقنواته.
في هذا السياق، لا تعمل الدولة كوسيط محايد بين مصالح اجتماعية متعارضة، بل كـ حقل مغلق نسبيًا تُدار داخله الصراعات عبر شبكات، وتوازنات، ومقايضات. القانون لا يُلغى، لكنه يُفرَّغ من عموميته. والمؤسسات لا تختفي، لكنها تتحول إلى واجهات لإدارة التوازنات. والبيروقراطية لا تُدار وفق منطق الخدمة العامة، بل وفق منطق الوساطة والولاء. وبهذا المعنى، لا يكون الفساد انحرافًا عن النظام، بل آلية من آليات اشتغاله.
إن إدخال هذا الفهم البنيوي يسمح بتجاوز التوصيفات السطحية التي تتحدث عن “دولة فاشلة” أو “غياب الدولة”. فالدولة موجودة، لكنها تعمل بوظائف مختلفة عن تلك التي تفترضها الأدبيات الكلاسيكية. إنها دولة قوية في قدرتها على الضبط والتوزيع الانتقائي، ضعيفة في قدرتها على التمثيل العام، ومتناقضة في علاقتها بالمجتمع. وهذا التناقض هو ما يجعلها في الوقت نفسه مصدرًا للأزمة وحقلًا لإعادة إنتاجها.
لا يكتمل فهم الدولة العراقية بوصفها بنية ريعية من دون إدخال العنف بوصفه عنصرًا بنيويًا ملازمًا لعملية تشكّلها وإعادة إنتاجها. فالعنف هنا لا يُفهم فقط بوصفه أداة قمع تستخدمها السلطة عند الحاجة، بل بوصفه لغة سياسية كامنة، حاضرة في الخلفية، تُعيد تشكيل علاقة المجتمع بالدولة، وتحدّد حدود الممكن والممنوع، وتؤثر في أنماط التنظيم والانتماء.
لقد رآكم المجتمع العراقي، عبر عقود متتالية من الحروب والعسكرة والانقطاعات العنيفة، خبرة تاريخية جعلت العنف جزءًا من الذاكرة الجماعية ومن الحسابات اليومية للأفراد والجماعات. وفي ظل هذه الخبرة، لم تعد الدولة تُرى بوصفها إطار حماية عام، بل بوصفها قوة قد تكون مصدر تهديد بقدر ما هي مصدر موارد. هذا الإدراك المزدوج هو ما يدفع الأفراد والجماعات إلى البحث عن وسائط حماية بديلة: الطائفة، العشيرة، الحزب، الشبكة المسلحة أو شبه المسلحة.
في هذا السياق، لا تظهر المكوناتية بوصفها انحرافًا ثقافيًا أو تلاعبًا سياسيًا فحسب، بل بوصفها نمط حكم تشكّل داخل شروط ريعية–عنيفة محددة. فالمكوّن لا يُفهم هنا كهوية اجتماعية مجردة، بل كموقع داخل نظام توزيع السلطة والموارد. إنه وحدة سياسية–اقتصادية تُمنح تمثيلًا، وحصة، وحق وصول، مقابل ضبط جمهورها وتأمين حدّ أدنى من الاستقرار داخل النظام القائم. وبهذا المعنى، تتحول الهوية إلى وظيفة سياسية، لا مجرد انتماء رمزي.
إن هذا التحول يفسّر لماذا لا تعمل المكوناتية على تفكيك الدولة، بل على إعادة إنتاجها بصيغة مشوّهة. فالدولة لا تُلغى، بل تُقسَّم وظيفيًا بين مكونات، تُدار علاقتها بها عبر توازنات دقيقة، وتُعاد صياغة مؤسساتها لتكون قادرة على استيعاب هذا النمط من الحكم. وهنا يصبح الصراع السياسي صراعًا داخل الدولة، لا عليها، وصراعًا على الحصص، لا على الاتجاهات.
وعلى المستوى التطبيقي، يمكن ملاحظة أن الأحزاب المكوناتية التي تشكّلت أو صعدت بعد التحول الكبير لم تبقَ على حالها. فهي لم تعد تلك التشكيلات التي جاءت بخطاب أيديولوجي حاد أو بشعارات هووية صافية، بل تحولت تدريجيًا إلى مشاريع سلطة وربح، تدير شبكات اقتصادية، وتتحكم بمفاصل الدولة، وتعيد إنتاج نفسها عبر السيطرة على الموارد العامة. وهذا التحول لا يمكن تفسيره فقط بالفساد أو الانتهازية، بل بفعل اندماج هذه القوى في منطق الدولة الريعية نفسها.
ومن هنا، يصبح من الخطأ التحليلي القول إن “قوى عراقية جاءت على ظهر الدبابات”. الأدق هو القول إن الاحتلال مثّل لحظة تفكيك قسرية لبنية الدولة، وإن أفرادًا ونخبًا سياسية جرى إعدادها مسبقًا دخلت هذا الفراغ، لكن ما أعقب ذلك كان عملية إعادة تركيب داخلية، أنتجت قوى جديدة، محلية، متجذّرة في بنية الدولة المعاد تشكيلها. وهذه القوى لم تعد تعمل بوصفها وكلاء مباشرين، بل بوصفها فاعلين مكتملين داخل نظام ريعي–مكوناتـي.
إن إدخال هذا التمييز ليس تبريرًا، بل تصويبًا تحليليًا. فاختزال المشهد إلى “احتلال وخونة” يحجب فهم الديناميات التي سمحت للنظام بالاستقرار النسبي، ويُغفل حقيقة أن الدولة نفسها أصبحت حقل إنتاج قوى، لا مجرد ساحة صراع بينها. ومن دون فهم هذه الحقيقة، يصبح من المستحيل التفكير في استراتيجيات تغيير تتجاوز الإدانة الأخلاقية.
بهذا المعنى، فإن الدولة العراقية ليست مجرد جهاز مختطف، ولا كيانًا غائبًا، بل بنية تعمل وفق منطق محدد، يعيد إنتاج العنف والريع والمكوناتية في آن واحد. وهذا ما يجعل تفكيكها، نظريًا وعمليًا، مهمة أعقد بكثير من إسقاط حكومة أو تغيير توازن سياسي ظرفي. إنها مهمة تتطلب فهمًا عميقًا لشروط اشتغال الدولة نفسها، لا الاكتفاء بتوصيف نتائجها.
إن تثبيت الدولة العراقية بوصفها الحقل البنيوي المركزي لإعادة إنتاج الأزمة يسمح بإعادة تنظيم كل عناصر التحليل ضمن إطار واحد متماسك. فالدولة، بهذا الفهم، ليست مجرد مستوى من مستويات التحليل إلى جانب الاقتصاد والهوية والتنظيم، بل الوسيط الذي تتكثف داخله هذه المستويات وتُعاد صياغتها. ومن دون هذا التثبيت، يبقى التحليل موزّعًا بين مقاربات جزئية لا تلتقي إلا شكليًا.
إن الاقتصاد الريعي لا يعمل خارج الدولة، بل عبرها. والهوية لا تتحول إلى بنية سياسية–اقتصادية فاعلة إلا حين تُدرج في منظومة حكم تديرها الدولة. والعنف لا يصبح عنصرًا بنيويًا إلا حين يُحتكَر جزئيًا، أو يُدار، أو يُعاد توزيعه ضمن توازنات الدولة. وبهذا المعنى، فإن الدولة ليست نتيجة ثانوية لهذه العناصر، بل الشرط الذي يجعل تفاعلها ممكنًا ومستقرًا نسبيًا.
هذا الفهم يسمح أيضًا بتجاوز الثنائية الشائعة بين “الدولة القوية” و“الدولة الضعيفة”. فالدولة العراقية قوية وضعيفة في آن واحد، ولكن في وظائف مختلفة. إنها قوية في قدرتها على التحكم بقنوات التوزيع، وعلى ضبط التوازنات المكوناتية، وعلى إدارة العنف، وضعيفة في قدرتها على إنتاج شرعية عامة، أو تمثيل مصالح اجتماعية واسعة، أو تنظيم علاقة مستقرة بين العمل والثروة. وهذا التناقض هو ما يجعلها في حالة أزمة دائمة، لا تنفجر بالضرورة، لكنها تعيد إنتاج نفسها بأشكال مشوّهة.
ومن هنا، فإن أي مقاربة سياسية تتجاهل هذا التناقض محكومة بالفشل. فالدعوة إلى “استعادة الدولة” من دون تفكيك منطقها الريعي–المكوناتي تبقى شعارًا فارغًا. والدعوة إلى “إسقاط النظام” من دون فهم كيف أعاد النظام إنتاج نفسه داخل الدولة تتحول إلى رغبة بلا أدوات. أما التحليل البنيوي الشرطي، فيضع أمامنا مهمة أكثر تعقيدًا، لكنها أكثر واقعية: تفكيك شروط اشتغال الدولة نفسها، لا الاكتفاء بمواجهة تجلياتها.
إن هذا التفكيك لا يمكن أن يتم من خارج المجتمع، ولا من داخل الدولة وحدها، بل عبر إعادة بناء وسائط الصراع الاجتماعي التي جرى تشويهها وتفكيكها. وهنا تتقاطع مسألة الدولة مباشرة مع مسألة التنظيم. فالتنظيم السياسي، في سياق دولة ريعية–مكوناتية، لا يواجه سلطة واضحة المعالم، بل يواجه حقلًا مركّبًا من الشبكات والمؤسسات والتوازنات. ومن دون إدراك هذا التعقيد، يصبح التنظيم إما معزولًا، أو مُستدرجًا، أو مُحتوى داخل منطق الدولة نفسها.
بهذا المعنى، لا يشكّل هذا القسم توصيفًا نظريًا للدولة فحسب، بل يؤسس للانتقال إلى تفكيك تحوّل الأحزاب بوصفها الفاعل الذي يعمل داخل هذا الحقل، ويتغذّى منه، ويعيد إنتاجه. ففهم الدولة شرط لفهم لماذا تحولت الأحزاب إلى شبكات سلطوية–اقتصادية، ولماذا فقدت الأيديولوجيا قدرتها التنظيمية، ولماذا أصبحت السياسة إدارة توازنات أكثر منها صراع مشاريع.
إن وضع الدولة في هذا الموقع التحليلي لا يعني تبريرها، ولا القبول بها، بل على العكس: يعني نزع هالتها الوظيفية، وكشف منطق اشتغالها، وفضح الآليات التي تجعلها تبدو قدرًا لا فكاك منه. فالدولة، مهما بلغت درجة تعقيدها، ليست كيانًا متعاليًا، بل بنية تاريخية قابلة للتغيير، شريطة أن يُفهم منطقها أولًا.
وبهذا الإغلاق، ينتقل التحليل من مستوى البنية العامة إلى مستوى الفاعلين السياسيين داخلها. فبعد أن تبيّن كيف تعمل الدولة بوصفها حقل إعادة إنتاج السلطة الريعية، يصبح من الممكن، في القسم التالي، تفكيك التحول الذي أصاب الأحزاب السياسية، لا بوصفه انحرافًا أخلاقيًا، بل بوصفه نتيجة منطقية للاشتغال داخل هذا الحقل.
تحوّل الأحزاب: من التنظيم الأيديولوجي إلى الشبكة السلطوية–الاقتصادية
إذا كانت الدولة الريعية–المكوناتية قد أعادت تشكيل الحقل السياسي برمّته، فإن أول الفاعلين الذين طالهم هذا التحول البنيوي هم الأحزاب السياسية نفسها. فالأحزاب التي تعمل داخل هذا الحقل لا يمكن فهمها بوصفها استمرارًا بسيطًا لأحزاب أيديولوجية تقليدية، ولا بوصفها مجرد تشكيلات “منحرفة” عن برامجها، بل بوصفها أشكالًا تنظيمية جديدة تشكّلت وتطورت وفق منطق الدولة الريعية، وأعادت تعريف معنى الحزب ووظيفته ودوره الاجتماعي.
في النموذج الكلاسيكي، كان الحزب السياسي يُفهم بوصفه وسيطًا بين المجتمع والدولة: ينطلق من قاعدة اجتماعية، يصوغ برنامجًا أيديولوجيًا، ويناضل من أجل تمثيل مصالح محددة داخل الصراع السياسي. أما في السياق العراقي المعاصر، فقد انقلب هذا المنطق رأسًا على عقب. فالحزب لم يعد وسيطًا بين المجتمع والدولة، بل أصبح وسيطًا داخل الدولة نفسها، يعمل على إدارة الوصول إلى الموارد، وتنظيم الولاءات، وضبط التوازنات بين الشبكات المتنافسة.
هذا التحول لا يمكن تفسيره أخلاقيًا بوصفه “فسادًا” أو “انتهازية”، ولا سياسيًا بوصفه “خيانة” للبرامج، بل يجب فهمه بوصفه نتيجة منطقية لاشتغال الأحزاب داخل دولة ريعية. ففي دولة تكون فيها الموارد مركّزة داخل مؤسسات الدولة، ويتحدد الوصول إليها عبر القرب من السلطة، يصبح الحزب، بحكم الضرورة، أداة لتنظيم هذا الوصول. ومع الزمن، تتغير بنيته الداخلية، وتتبدل معايير الصعود داخله، من الالتزام الأيديولوجي إلى القدرة على الوساطة، والحشد، وتأمين المنافع.
إن ما نشهده هنا هو انتقال الحزب من كيان أيديولوجي إلى شبكة سلطوية–اقتصادية. والشبكة، بخلاف التنظيم التقليدي، لا تحتاج إلى قاعدة اجتماعية واعية بقدر ما تحتاج إلى عقد، ومكاتب، وواجهات، وعلاقات داخل أجهزة الدولة. وهي لا تعمل وفق منطق البرنامج السياسي، بل وفق منطق الزبائنية: تقديم خدمات، وظائف، حماية، مقابل الولاء أو الصمت أو المشاركة في إعادة الإنتاج. وبهذا المعنى، يصبح الحزب أقرب إلى شركة سياسية–اقتصادية منه إلى تنظيم سياسي بالمعنى الكلاسيكي.
يتعمّق تحوّل الأحزاب في السياق العراقي حين نضع المكوناتية في موقعها الحقيقي، لا بوصفها مجرد خطاب تعبوي أو هوية سياسية، بل بوصفها منطق تنظيم حزبي يعمل داخل دولة ريعية. فالحزب، حين يجد أن الوصول إلى الموارد والسلطة يمرّ عبر تمثيل “مكوّن” محدد، يعيد تشكيل بنيته وبرامجه وخطابه بما يتلاءم مع هذا المنطق. وهكذا لا تعود الهوية مجرد أداة حشد، بل تصبح إطارًا تنظيميًا يحدد العضوية، ومناطق النفوذ، وقنوات التوزيع.
في هذا السياق، تتحول الأيديولوجيا من منظومة فكرية موجِّهة للفعل إلى لغة تبرير مرنة، تُستخدم لتغطية ممارسات لا يحكمها البرنامج بقدر ما تحكمها مقتضيات الشبكة. ويمكن للحزب الواحد أن يجمع بين شعارات متناقضة، أو أن يبدّل خطابه بحسب الظرف، من دون أن يشعر بتناقض داخلي حاد، لأن الأيديولوجيا لم تعد معيارًا للمساءلة الداخلية، بل أداة تواصل خارجية. وبهذا المعنى، لا يكون “تراجع الأيديولوجيا” دليل ضعف فقط، بل دليل تغيّر وظيفة الحزب.
وعلى المستوى التطبيقي، يظهر هذا التحول بوضوح في تطور الأحزاب التي تصدّرت المشهد بعد التحول الكبير. فهذه الأحزاب لم تبقَ أسيرة خطابها التأسيسي، بل أعادت صياغة نفسها تدريجيًا بوصفها مشاريع سلطة وربح. أنشأت أذرعًا اقتصادية، ودخلت في شبكات عقود واستثمارات، ووسّعت حضورها داخل أجهزة الدولة، وربطت جمهورها بسلسلة من المنافع والخدمات. ومع الزمن، أصبح الحفاظ على هذه الشبكات هدفًا بحد ذاته، يفوق في أهميته أي التزام أيديولوجي معلن.
إن هذا التحول يفسّر أيضًا طبيعة الصراعات داخل الأحزاب نفسها. فهذه الصراعات لا تُدار غالبًا على أساس اختلافات فكرية أو برنامجية، بل على أساس صراع على الموارد والمواقع داخل الشبكة. وحين تنفجر هذه الصراعات، فإنها لا تؤدي بالضرورة إلى انقسامات أيديولوجية واضحة، بل إلى إعادة توزيع للأدوار، أو انشقاقات شكلية، أو تحالفات متغيرة، تحكمها حسابات القوة لا وضوح المشروع.
ومن هنا، يصبح من الضروري تصويب اللغة التحليلية التي تصف هذه الأحزاب. فبدل الاكتفاء بتسميتها “أحزابًا طائفية أو قومية”، وهو توصيف يلتقط جانبًا من خطابها لكنه يحجب بنيتها، يصبح أدق الحديث عن تشكيلات مكوناتية–زبائنية تعمل بوصفها شبكات سلطة داخل الدولة. هذا التوصيف لا يخفف من خطورتها، بل يكشف آليات اشتغالها، ويمنع التعامل معها بوصفها كيانات قابلة للإصلاح عبر تعديل الخطاب أو تغيير القيادات.
إن إدخال هذا الفهم البنيوي يسمح أيضًا بإعادة تقييم العلاقة بين هذه الأحزاب والخارج. فهذه القوى لم تعد تعمل بوصفها أدوات خارجية مباشرة، حتى وإن احتفظت بعلاقات إقليمية ودولية معقّدة، بل أصبحت فاعلين محليين مكتملين داخل بنية الدولة الريعية. واختزالها إلى “وكلاء” يحجب حقيقة أنها تنتج مصالحها الخاصة، وتدافع عنها، وتعيد إنتاج نفسها عبر آليات داخلية، لا عبر الإملاء الخارجي وحده.
بهذا المعنى، فإن فهم تحوّل الأحزاب شرط أساسي لأي استراتيجية تغيير. فالتعامل معها بوصفها تنظيمات أيديولوجية ضالة يقود إلى أوهام الإصلاح من الداخل، والتعامل معها بوصفها عصابات معزولة يقود إلى خطاب إدانة عاجز. أما التعامل معها بوصفها شبكات سلطوية–اقتصادية متجذّرة في بنية الدولة، فيفتح الباب أمام مقاربة مختلفة تستهدف الشروط التي تجعل هذا الشكل من الحزب ممكنًا ومربحًا.
إن تثبيت نموذج «الحزب–الشبكة» بوصفه الشكل التنظيمي الغالب داخل الدولة الريعية–المكوناتية يسمح بإعادة قراءة مجمل الظواهر الحزبية بعيدًا عن التوصيفات الأخلاقية أو الانطباعية. فالحزب، في هذا النموذج، لا يُقاس بمدى التزامه ببرنامج أو أيديولوجيا، بل بقدرته على إدارة شبكة علاقات تمتد داخل أجهزة الدولة وخارجها، وتؤمّن تدفّق الموارد، وتحافظ على توازنات دقيقة بين الفاعلين. ومن دون هذا الفهم، يبقى التحليل أسير مقولات لم تعد قادرة على تفسير الواقع.
يعمل الحزب–الشبكة وفق منطق مختلف جذريًا عن منطق التنظيم الكلاسيكي. فالانضباط لا يُبنى على قناعة سياسية، بل على تبادل المنافع. والشرعية لا تُستمد من قاعدة اجتماعية واعية، بل من القدرة على الحماية والتوزيع. والقيادة لا تُختبر بوضوح الرؤية، بل بقدرتها على إدارة الصراعات داخل الشبكة وضبط إيقاعها. وبهذا المعنى، تصبح السياسة إدارة مصالح داخل حقل الدولة، لا صراع مشاريع داخل المجتمع.
إن هذا النموذج يفسّر لماذا تفقد الانتخابات، في ظل هذا النمط من الأحزاب، معناها التمثيلي العميق. فالانتخابات لا تعمل هنا بوصفها آلية تفويض سياسي على أساس البرامج، بل بوصفها أداة لإعادة ترتيب التوازنات داخل الشبكات، وتجديد شرعيتها الشكلية، وتأكيد مواقعها داخل الدولة. ومن دون إدراك هذه الوظيفة، يصبح الرهان على الانتخابات بوصفها مدخلًا للتغيير رهانًا على آلية تعمل أصلاً داخل منطق إعادة الإنتاج.
وهنا تتقاطع مسألة تحوّل الأحزاب مباشرة مع أزمة التنظيم اليساري. فالأشكال التنظيمية اليسارية التقليدية، التي تشكّلت في سياقات تاريخية مختلفة، تجد نفسها في مواجهة خصم لا يعمل وفق القواعد التي صُمِّمت هي لمواجهتها. فالحزب–الشبكة لا يواجه التنظيم اليساري في ساحة صراع أيديولوجي مفتوح، بل يلتف عليه عبر السيطرة على الموارد، وإعادة توجيه الولاءات، وتفكيك القواعد الاجتماعية المحتملة. وفي مثل هذا السياق، لا يكون فشل التنظيم اليساري نتيجة ضعف ذاتي فقط، بل نتيجة عدم تطابق بين الأداة والواقع.
إن إدراك هذا التناقض يفرض إعادة نظر جذرية في التصورات السائدة حول التحالفات، والإصلاح من الداخل، والعمل المشترك مع هذه الأحزاب. فالشبكات السلطوية–الاقتصادية لا تُصلَح عبر التفاوض الأيديولوجي، ولا تُغيَّر عبر إدخال عناصر “نظيفة” إلى داخلها، لأنها لا تعمل بمنطق البرنامج، بل بمنطق البنية. وأي محاولة لتغييرها من داخلها، من دون تفكيك شروط اشتغالها، تنتهي إما بالاحتواء أو بالإقصاء.
ومن هنا، فإن هذا القسم لا يهدف إلى شيطنة الأحزاب بوصفها كيانات مغلقة، بل إلى نزع الوهم الذي يرى فيها أدوات تغيير محتملة من دون تغيير الشروط البنيوية التي أنتجتها. فالأحزاب، في هذا التحليل، ليست فاعلًا حرًا فوق الدولة، بل نتاجًا مباشرًا لمنطقها الريعي–المكوناتـي. وتغييرها، بالتالي، لا يمكن أن يتم بمعزل عن تغيير هذا المنطق نفسه.
بهذا الإغلاق، يصبح الانتقال إلى القسم التالي انتقالًا منطقيًا لا قفزة مفاهيمية. فبعد أن تبيّن كيف تحوّلت الأحزاب إلى شبكات سلطوية–اقتصادية تعمل داخل الدولة، يصبح السؤال التالي حتميًا: لماذا عجزت الأشكال التنظيمية اليسارية عن الاشتباك مع هذا الواقع؟ وكيف تحوّلت أدوات صيغت لمواجهة أحزاب أيديولوجية إلى أدوات عاجزة أمام شبكات سلطوية؟ هذا السؤال هو ما سيتناوله القسم الخامس، بوصفه مدخلًا للنقد الذاتي الضروري لأي مشروع إعادة تأسيس جاد.
أزمة التنظيم اليساري: أفول الأشكال القديمة والحاجة إلى إعادة اختراع التنظيم
لا يمكن تفكيك أزمة اليسار في العراق المعاصر من دون وضع مسألة التنظيم في مركز التحليل، لا بوصفها مشكلة تقنية أو تنظيمية صرفة، بل بوصفها مشكلة تاريخية–بنيوية ناجمة عن عدم تطابق بين الأشكال التنظيمية الموروثة والواقع الاجتماعي–السياسي الذي تعمل داخله. فالأزمة هنا ليست أزمة “ضعف إرادة” أو “تراجع وعي” أو “قمع” فحسب، على الرغم من أهمية هذه العوامل، بل أزمة أداة فقدت شرط اشتغالها.
لقد تشكّلت الأشكال التنظيمية الكلاسيكية للحركة الشيوعية في سياقات تاريخية اتسمت بوجود طبقة عاملة آخذة في التشكل، واقتصاد منتج نسبيًا، ومجال عام يسمح—ولو تحت القمع—ببناء تنظيمات مستقرة، ونقابات، وروابط مهنية. في تلك الشروط، كان الحزب الطليعي المركزي تعبيرًا عن ضرورة تاريخية: توحيد الصراع الطبقي، حماية التنظيم، وبناء قيادة سياسية قادرة على المواجهة.
غير أن هذه الشروط لم تعد قائمة في العراق. فالاقتصاد المنتج تآكل لصالح اقتصاد ريعي هشّ، والعمل المستقر تحوّل إلى عمل مؤقت أو غير رسمي، والطبقة العاملة بوصفها كتلة اجتماعية متماسكة تفكّكت وتبعثرت، والمجال العام تشرذم تحت وطأة العنف والمكوناتية. وفي مثل هذا السياق، لم تعد القاعدة الاجتماعية التي صيغت من أجلها الأشكال التنظيمية القديمة موجودة بالصيغة نفسها، ما جعل هذه الأشكال تعمل في فراغ اجتماعي نسبي.
إن الإصرار على استنساخ التنظيم الكلاسيكي، تحت شعار “الوفاء للتاريخ” أو “الحفاظ على الهوية”، يتحول في هذه الشروط إلى إنكار تاريخي. فالتنظيم الذي لا يجد جذوره الاجتماعية يتحول تدريجيًا إلى بنية مغلقة، تدور حول ذاتها، وتعيد إنتاج خطابها الداخلي، وتعوّض عجزها الواقعي بتضخيم رمزي للهوية التنظيمية. وهنا ينشأ التناقض بين لغة عالية الراديكالية، وقدرة ضئيلة على الاشتباك الفعلي مع المجتمع.
تزداد هذه الأزمة حدّة في ظل الدولة الريعية–المكوناتية، التي لا تكتفي بإعادة تشكيل السلطة، بل تعمل أيضًا على تفكيك إمكانات التنظيم خارج شبكاتها. فحين يُدار الوصول إلى الموارد والحماية عبر الانتماء والشبكة، يصبح الانخراط في تنظيم يساري مستقل مخاطرة عالية الكلفة، قليلة العائد الاجتماعي. وفي مثل هذا المناخ، يفقد التنظيم اليساري التقليدي قدرته على الجذب، لا لأنه أقل “صوابًا”، بل لأنه أقل وظيفة اجتماعية.
ومن هنا، لا يجوز التعامل مع أزمة التنظيم بوصفها خللًا يمكن إصلاحه عبر تعديلات شكلية: تغيير قيادة، تحديث خطاب، أو عقد مؤتمر. فالمشكلة أعمق من ذلك. إنها مشكلة عدم تطابق تاريخي بين أداة صيغت لزمن معين وواقع تغيّرت شروطه جذريًا. ومن دون الاعتراف بهذه الحقيقة، تبقى كل محاولات الإصلاح حبيسة دائرة إعادة الإنتاج.
من أكثر الأوهام رسوخًا في الخطاب اليساري المعاصر وهمُ «العودة إلى الجماهير» بوصفه حلًا سحريًا لأزمة التنظيم. فهذه العبارة، على ما تحمله من نوايا صادقة، تُخفي في طياتها افتراضًا غير مفحوص: أن “الجماهير” موجودة بوصفها كتلة جاهزة، وأن المشكلة تكمن فقط في انقطاع التنظيم عنها. غير أن التحليل البنيوي الشرطي يكشف أن المسألة أعقد بكثير، وأن الجماهير نفسها قد أعيد تشكيلها تاريخيًا داخل شروط ريعية–مكوناتية غيّرت أنماط عيشها، وتوقعاتها، ووسائط تعبيرها.
فالعمل، بوصفه أساس التنظيم الاجتماعي الكلاسيكي، لم يعد مركز الحياة اليومية لشرائح واسعة كما كان. والعمل غير المستقر، والهش، والمؤقت، والهجرة، والاقتصاد غير الرسمي، كلها عوامل أعادت تفكيك الزمن الاجتماعي الذي كان يسمح ببناء تنظيمات مستقرة. ومع هذا التفكك، لم تختفِ الحاجات ولا التناقضات، لكنها فقدت وسائط التعبير الجماعي المنتظمة. ومن دون إدراك هذا التحول، تتحول الدعوة إلى “العودة” إلى خطاب حنين، لا إلى مشروع سياسي.
يرتبط بهذا الوهم شكل آخر من الحنين التنظيمي، يتمثل في استعادة نماذج تاريخية ناجحة خارج شروطها. فالتنظيم الذي نجح في لحظة تاريخية معينة لم يكن نتاج عبقرية شكلية، بل نتاج تطابق بين الشكل والواقع الاجتماعي. وحين يُعاد استنساخ هذا الشكل من دون شروطه، يتحول من أداة تحرر إلى عبء. إن الوفاء الحقيقي للتاريخ لا يكون بتكراره، بل بفهم شروط نجاحه وحدودها.
وعلى المستوى التطبيقي العراقي، يظهر هذا التناقض بوضوح في محاولات بناء تنظيمات يسارية على أساس الصيغة الحزبية التقليدية، من دون قاعدة اجتماعية مستقرة، ومن دون فضاء عام يسمح بالعمل التراكمي. فهذه المحاولات غالبًا ما تنتهي إلى أحد مسارين: إما الانكفاء إلى دائرة ضيقة من الكوادر، تُنتج خطابًا عالي الوعي قليل الأثر، أو الانزلاق إلى أشكال تحالفية مع قوى شبكية–مكوناتية، تُفقد التنظيم استقلاليته من دون أن تمنحه قدرة حقيقية على التأثير.
إن التحليل البنيوي لا يدعو إلى التخلي عن التنظيم، بل إلى إعادة تعريفه. فالتنظيم، في هذه المرحلة، لا يمكن أن يُفهم بوصفه بنية واحدة مكتملة، بل بوصفه طيفًا من الأشكال المرنة التي تتكيّف مع الواقع بدل أن تصطدم به. قد تكون هذه الأشكال صغيرة، أو مؤقتة، أو موضعية، أو هجينة، لكنها تستمد مشروعيتها من قدرتها على الاشتباك مع الحياة اليومية للناس، لا من تطابقها مع نموذج تاريخي مثالي.
ومن هنا، يصبح السؤال الحاسم ليس: كيف نعيد بناء الحزب كما كان؟ بل: ما هو شكل التنظيم الممكن في مجتمع مُفكك، ودولة ريعية–مكوناتية، وسياسة تُدار عبر الشبكات؟ هذا السؤال لا يملك جوابًا واحدًا، ولا يسمح بوصفة جاهزة، لكنه يفتح أفقًا للتجريب الواعي، ولإعادة بناء وسائط جديدة للتنظيم، قد تبدأ من قضايا جزئية، أو مطالب محددة، أو فضاءات اجتماعية ضيقة، ثم تتوسع تدريجيًا.
إن تجاهل هذا التعقيد، والتمسك بأشكال تنظيمية متجاوزة، لا يؤدي إلا إلى تعميق الفجوة بين اليسار والمجتمع. أما الاعتراف به، فهو الخطوة الأولى نحو سياسة أكثر تواضعًا، لكنها أكثر صدقًا وفاعلية. فالسياسة، في نهاية المطاف، ليست إثباتًا لصواب النظرية، بل قدرة على العمل داخل شروط الواقع لتغييره.
إن الوصول إلى ملامح التنظيم الممكن في المرحلة الراهنة لا يعني تقديم نموذج جاهز أو وصفة تنظيمية تُستنسخ، بل يقتضي تثبيت مجموعة قيود ومعايير منهجية تحكم أي محاولة جدية لإعادة البناء. فأخطر ما يمكن أن يفعله اليسار، بعد تشخيص أزمة أدواته، هو استبدال نموذج جامد بآخر، أو الانتقال من يقين تنظيمي إلى يقين جديد لم يُختبر بعد.
أول هذه القيود هو الاعتراف بأن التنظيم، في شروط دولة ريعية–مكوناتية، لا يمكن أن يكون اختراقًا سريعًا أو تمركزًا واسعًا منذ البداية. فالتنظيم الممكن هو تنظيم تراكمي بطيء، يبدأ من نقاط تماس حقيقية مع الحياة اليومية للناس:
قضايا العمل الهش، الخدمات، السكن، التعليم، الصحة، أو الدفاع عن فضاءات عامة مهددة. هذه القضايا لا تُختزل في مطالب جزئية، بل تشكّل مداخل سياسية حين تُدار بوعي طبقي وبقدرة على الربط بين الخاص والعام.
القيد الثاني يتمثل في ضرورة الفصل النسبي بين التنظيم والسيطرة. فالتنظيم الذي يُبنى بهدف الوصول السريع إلى السلطة، في سياق تُدار فيه السلطة عبر الشبكات، يكون أكثر عرضة للاحتواء أو التفكك. أما التنظيم الذي يركّز، في مرحلته الأولى، على بناء الثقة، والمعرفة، والقدرة على الفعل الجماعي المحدود، فإنه يؤسّس لشروط صمود أطول. وهذا لا يعني التخلي عن السياسة، بل إعادة تعريف إيقاعها وأولوياتها.
القيد الثالث هو رفض تحويل المرونة إلى سيولة. فالحديث عن أشكال تنظيمية مرنة لا يعني القبول باللا-تنظيم أو بالعمل العفوي الدائم. فالتنظيم، مهما كان شكله، يحتاج إلى حدّ أدنى من الانضباط، والذاكرة، والاستمرارية. الفرق هنا أن هذا الانضباط لا يُفرض من فوق، ولا يُبرَّر بالتراتبية التاريخية، بل يُبنى من داخل الحاجة المشتركة إلى الاستمرار والفاعلية.
وعلى المستوى العراقي، يفرض هذا الفهم مراجعة جذرية لتجارب التنظيم التي رافقت الاحتجاجات والحركات الاجتماعية خلال السنوات الماضية. فهذه التجارب كشفت، في آن واحد، إمكانات جديدة للفعل الجماعي وحدودها. لقد أظهرت قدرة عالية على التعبئة السريعة، وعلى كسر الخوف، لكنها كشفت أيضًا هشاشة البنى التنظيمية، وسهولة الاختراق، وصعوبة التحول إلى قوة مستدامة. ومن دون قراءة نقدية لهذه التجارب، يتحول تمجيدها أو إدانتها إلى شكل آخر من الاختزال.
إن إعادة اختراع التنظيم، بهذا المعنى، ليست مهمة تقنية، بل مهمة سياسية–ثقافية عميقة. فهي تتطلب تغييرًا في علاقة اليسار بالزمن، وبالنجاح، وبالفشل. فالزمن لم يعد زمن القفزات السريعة، بل زمن العمل الطويل النفس. والنجاح لم يعد يُقاس بعدد الأعضاء أو المواقع، بل بقدرة التنظيم على البقاء والتعلّم والتأثير المتدرّج. والفشل لم يعد عيبًا يُخفى، بل تجربة تُحلَّل وتُستثمر.
ومن هنا، يصبح التحصين المنهجي الذي اشتغلت عليه هذه الوثيقة شرطًا لا غنى عنه لأي محاولة تنظيمية جديدة. فالتنظيم الذي لا يمتلك أدوات نقد ذاتي، ولا يراجع افتراضاته، ولا يعترف بحدوده، محكوم بإعادة إنتاج الأزمة نفسها بأشكال مختلفة. أما التنظيم الذي ينطلق من فهم بنيوي للواقع، ويحتفظ بمرونة نقدية، فإنه يمتلك فرصة—ولو كانت صعبة—للعمل داخل التاريخ، لا خارجه.
بهذا الإغلاق، ينتقل التحليل من تفكيك أزمة التنظيم إلى ضرورة تحصين النهج نفسه ضد التسييل، وسوء الفهم، والارتداد. فإعادة اختراع التنظيم لا يمكن أن تتم من دون إطار منهجي واضح يحميها من التحول إلى مغامرة عشوائية أو إلى تكرار متنكر لأشكال قديمة. وهذا ما سيُعالَج في القسم السادس، بوصفه حلقة وصل بين النقد التنظيمي وبناء أفق سياسي قابل للاستمرار.
تحصين النهج: ضد التسييل، وسوء الفهم، والارتداد المنهجي
إذا كانت الأقسام السابقة قد اشتغلت على تفكيك الدولة، وتحولات الأحزاب، وأزمة التنظيم، فإن هذا القسم يشتغل على مستوى مختلف لا يقل خطورة: مستوى تحصين المنهج نفسه. فكل انتقال نوعي في التحليل، وكل رفع لمستوى القراءة، يفتح في الوقت ذاته بابًا لسوء الفهم، والتسييل، والارتداد—سواء عن قصد أو عن غير قصد. ومن دون تحصين واعٍ، يتحول التجديد من ضرورة تاريخية إلى ثغرة منهجية.
أول أشكال الخطر يتمثل في التسييل. والمقصود هنا ليس المرونة المنهجية، بل تحويل المفاهيم إلى عبارات عامة قابلة للاستخدام في اتجاهات متناقضة. فحين يُفصل التحليل البنيوي عن شروطه الصارمة، وحين تُستخدم مفاهيم مثل “التعقيد” أو “تعدد المستويات” لتبرير أي موقف سياسي، يفقد المنهج قدرته على التمييز والنقد. ولهذا، فإن التحليل البنيوي الشرطي لا يعني أن “كل شيء معقّد” بالدرجة التي تعفي من اتخاذ موقف، بل يعني العكس تمامًا: أن الموقف يجب أن يُبنى على فهم دقيق لشروط اشتغاله.
الخطر الثاني يتمثل في سوء الفهم الاختزالي، سواء من داخل اليسار أو من خارجه. فمن داخل اليسار، قد يُقرأ هذا النهج بوصفه تخفيفًا للراديكالية أو تراجعًا عن الصراع الاجتماعي. ومن خارجه، قد يُستثمر بوصفه خطابًا “عقلانيًا” لتبرير القائم أو الدعوة إلى إصلاحات شكلية. وفي الحالتين، يكمن الخطر في اقتطاع المنهج من سياقه، واستخدامه كغطاء لسياسات لا علاقة لها بجوهره.
ولمواجهة هذا الخطر، يصبح من الضروري تثبيت حدود واضحة للنهج. فالنهج التشكيكي النقدي التجديدي لا يساوم على مركزية الصراع الاجتماعي، ولا يستبدل المادية التاريخية بمقاربات ثقافوية أو أخلاقية عامة، ولا يحوّل الهوية إلى بديل عن الطبقة. ما يفعله هذا النهج هو إعادة بناء التحليل الطبقي نفسه، عبر إدخال الوسائط التاريخية التي يعمل من خلالها في واقع معيّن. والفرق بين إعادة البناء والاستبدال فرق جوهري لا يجوز طمسه.
أما الخطر الثالث، وهو الأخطر على المدى البعيد، فيتمثل في الارتداد المنهجي. فالارتداد لا يحدث بالضرورة عبر إعلان صريح بالعودة إلى أشكال قديمة، بل قد يحدث عبر تكييف المنهج الجديد ليخدم ممارسات قديمة. فالتنظيم الذي يرفع شعار التحليل البنيوي، لكنه يستمر في العمل بأدوات تنظيمية متجاوزة، لا يكون قد تجاوز أزمته، بل يكون قد غلّفها بلغة جديدة. ومن هنا تأتي أهمية ربط المنهج دائمًا بالممارسة، لا بوصفه تبريرًا لها، بل بوصفه معيارًا لمساءلتها.
إن تحصين النهج، بهذا المعنى، لا يتم عبر بيانات دفاعية أو تأكيدات لفظية، بل عبر وضوح القيود المنهجية التي تحكم استخدامه. وهذه القيود ليست قيودًا تعسفية، بل خلاصات تجربة طويلة مع الاختزال، ومع يقينيات تحولت إلى عوائق. ومن دون هذا الوضوح، يصبح كل حديث عن التجديد عرضة للانزلاق إلى سيولة فكرية تفرغ المشروع من مضمونه.
إن تحصين النهج التشكيكي النقدي التجديدي يقتضي تثبيت قيد منهجي صريح يحكم استخدامه، ويمنع توظيفه خارج سياقه. هذا القيد يمكن صياغته على النحو الآتي: إن التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات لا يُستخدم لتبرير أي موقف سياسي، ولا لتخفيف حدة الصراع الاجتماعي، بل يُستخدم لتحديد الشروط الواقعية التي يمكن ضمنها خوض هذا الصراع بفعالية. وكل استخدام للمنهج يتجاوز هذا القيد يتحول من أداة تحليل إلى غطاء أيديولوجي.
بهذا المعنى، يجب التفريق بوضوح بين التجديد المنهجي والانزلاق الإصلاحي. فالتجديد يعني إعادة بناء الأدوات لفهم واقع متحوّل، مع الحفاظ على جوهر المادية التاريخية والصراع الاجتماعي. أما الانزلاق الإصلاحي فيحدث حين يُستخدم خطاب التعقيد والبنيوية لتبرير الاكتفاء بإصلاحات شكلية داخل بنية قائمة، أو لتأجيل الصراع بذريعة عدم نضوج الشروط. الفرق بين الاثنين ليس في اللغة المستخدمة، بل في اتجاه الحركة السياسية: هل تسعى إلى تفكيك شروط إعادة الإنتاج أم إلى إدارتها بكلفة أقل؟
ومن هنا، فإن هذا النهج يرفض تحويل “المرحلية” إلى ذريعة للتكيّف الدائم. فالمرحلية، في معناها الماركسي، ليست تعليقًا للصراع، بل تنظيمًا له ضمن شروط محددة. أما حين تتحول إلى خطاب مفتوح يؤجّل المواجهة إلى أجل غير مسمى، فإنها تفقد معناها الجدلي وتتحول إلى تبرير للجمود. والتحليل البنيوي الشرطي، على العكس، يُفترض أن يحدد بدقة أين يمكن الاشتباك، وأين يجب الانسحاب التكتيكي، وأين ينبغي بناء أدوات جديدة بدل استنزاف أدوات قديمة.
وعلى المستوى التطبيقي، يفرض هذا التحصين مراجعة طريقة استخدام المنهج في الكتابة السياسية والقرار التنظيمي. فالمنهج لا يُستخدم لإنتاج نصوص “ذكية” فقط، بل ليكون معيارًا للمساءلة. فكل نص، وكل موقف، وكل تحالف، يجب أن يُسأل: هل ينبع من فهم فعلي للبنية التي نتحرك داخلها؟ أم أنه يعيد إنتاج لغة قديمة بلباس جديد؟ وهل يسهم في تفكيك الشروط البنيوية أم في التكيّف معها؟
كما يفرض هذا التحصين التمييز بين الانفتاح النقدي والذوبان الخطابي. فالانفتاح النقدي يعني الاستعداد لتعلّم أدوات جديدة، والاستفادة من تجارب فكرية مختلفة، شرط إخضاعها للمنهج المادي النقدي. أما الذوبان الخطابي فيعني فقدان المعايير، واستخدام أي مفهوم أو مقاربة طالما بدت “حديثة” أو “معاصرة”. وهذا الذوبان هو الوجه الآخر للعقيدة المغلقة: كلاهما يلغي النقد، أحدهما باسم الثبات والآخر باسم الانفتاح.
إن تثبيت هذه الحدود لا يهدف إلى تضييق أفق التفكير، بل إلى حمايته من التبدد. فالمنهج الذي لا يملك معايير داخلية يفقد قدرته على التمييز، ويصبح عرضة للاستعمال الانتقائي. ومن هنا، فإن تحصين النهج هو شرط لبقائه حيًّا، لا شرطًا لتحويله إلى عقيدة جديدة. فالعقيدة تُغلق الأسئلة، أما المنهج الحي فيحرسها.
إن تحصين النهج، كما جرى تفصيله في هذا القسم، لا يمكن فصله عن المسار العام الذي تسلكه الوثيقة الرابعة بوصفها حلقة انتقال داخل مشروع إعادة التأسيس الشيوعي في العراق. فالتحصين هنا ليس إجراءً دفاعيًا مؤقتًا، بل شرط استمرارية لمنهج يُراد له أن يبقى حيًّا وقادرًا على التطور، لا أن يتحول إلى لغة جديدة لتبرير ممارسات قديمة. ومن دون هذا التحصين، تصبح الوثيقة الرابعة نفسها عرضة لأن تُقرأ قراءة انتقائية، تُقتطع منها مفاهيم وتُستخدم خارج بنيتها الكلية.
بهذا المعنى، تشكّل الوثيقة الرابعة حدًّا فاصلًا منهجيًا داخل المشروع: فهي لا تنقض ما سبقها، لكنها تمنع العودة غير النقدية إليه؛ ولا تغلق أفق ما سيأتي بعدها، لكنها تضع له شروطًا صارمة. إنها تقول بوضوح إن أي كتابة لاحقة، وأي وثيقة قادمة، وأي اجتهاد تنظيمي أو سياسي، يجب أن يمرّ عبر هذا الفلتر المنهجي، لا بوصفه شرط ولاء، بل بوصفه شرط فهم. ومن هنا تأتي أهميتها بوصفها وثيقة مرجعية لا تُستعاد شعاراتها، بل تُستخدم أدواتها.
وفي هذا السياق، تنفتح الوثيقة الرابعة مباشرة على الوثيقة الخامسة، التي لا تُفهم بوصفها تصحيحًا للوثائق التأسيسية الثلاث، ولا بوصفها نقدًا لها من خارجها، بل بوصفها إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية لها من داخل المشروع نفسه. فالوثيقة الخامسة ستشتغل على النصوص السابقة بوصفها لحظات تاريخية في مسار حيّ، وستسأل: ما الذي التقطته بدقة؟ ما الذي اختزلته بحكم شروطه؟ وأين يمكن اليوم رفع مستوى القراءة من دون الوقوع في نفي أو تبرير؟
إن هذا الربط بين الوثيقة الرابعة والخامسة يحصّن المشروع من تهمتين متقابلتين: تهمة القطيعة وتهمة الجمود. فهو يمنع التعامل مع التطور المنهجي بوصفه انقلابًا على الذات، ويمنع في الوقت نفسه تقديس النصوص السابقة بوصفها نهاية التفكير. وبهذا المعنى، يصبح المشروع قادرًا على الدفاع عن نفسه لا عبر تبرير دائم، بل عبر منطق داخلي واضح للتطور.
إن تحصين النهج، أخيرًا، يفرض مسؤولية مضاعفة على من يتبنّاه. فالتجديد ليس امتيازًا، بل عبء معرفي وأخلاقي. إنه يتطلب انضباطًا أعلى، وحذرًا أشد من التبسيط، واستعدادًا دائمًا لمساءلة الذات. فالنهج التشكيكي النقدي التجديدي لا يمنح صاحبه يقينًا مريحًا، بل يضعه في مواجهة مستمرة مع تعقيد الواقع ومع حدود أدواته. وهذه المواجهة هي، في جوهرها، شرط كل سياسة جدية.
وبهذا الإغلاق، يكون هذا القسم قد أدّى وظيفته: تثبيت الحدود التي تحمي المنهج من التفكك، وتمنع استخدامه خارج سياقه، وتربطه بمسار وثائقي حيّ يتطور ولا ينقطع. ومن هنا، يصبح الانتقال إلى الخاتمة التأسيسية انتقالًا طبيعيًا، لا لإغلاق النقاش، بل لتحديد ما أنجزته هذه الوثيقة، وما تفتحه من مهام لاحقة.
خاتمة تأسيسية: الوثيقة الرابعة بوصفها عتبة انتقال لا بيانًا ختاميًا
لا تُكتب هذه الوثيقة لتكون خاتمة فكرية، ولا بيانًا سياسيًا يُضاف إلى أرشيف النصوص، ولا صيغة مكتملة تُطالَب بالالتزام الحرفي. إن معناها الحقيقي يتحدد بوصفها عتبة انتقال منهجي واعٍ داخل مشروع إعادة التأسيس الشيوعي في العراق؛ انتقال من مستوى تشخيص الأزمة إلى مستوى تفكيك شروط إنتاجها، ومن نقد الظواهر إلى مساءلة الأدوات التي استخدمت في فهمها، ومن السياسة بوصفها موقفًا إلى السياسة بوصفها عملية تاريخية معقّدة تتطلب أدوات فهم متجددة.
لقد اشتغلت هذه الوثيقة، منذ تمهيدها، على تثبيت حقيقة أساسية مفادها أن الأزمة التي نواجهها ليست أزمة أخطاء ظرفية، ولا أزمة نيات، ولا أزمة أفراد أو قيادات، بل أزمة تحول بنيوي شامل: في طبيعة الدولة، وفي نمط الحكم، وفي شكل الأحزاب، وفي آليات الاقتصاد، وفي وسائط الانتماء والتنظيم. دولة أعيد تركيبها على منطق الريع والمكوناتية، أحزاب تحولت إلى شبكات سلطوية–اقتصادية، تنظيمات يسارية فقدت شروط اشتغالها التاريخية، وصراع اجتماعي لم يختفِ، بل تشوّه وتوسّط وتبدّد في قنوات غير مباشرة.
في مواجهة هذا الواقع، يصبح التمسك بأدوات تحليل صيغت لمرحلة تاريخية أخرى شكلًا من أشكال العجز، مهما كانت نوايا أصحابه صادقة. ومن هنا، لم يكن النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية خيارًا نظريًا بين خيارات، بل ضرورة فرضتها التجربة نفسها حين تجاوز الواقع قدرتنا على فهمه بالأدوات السائدة. فالمنهج الذي لا يتطور حين تتغير الشروط، يتحول من أداة نقد إلى عائق معرفي.
لقد بيّنت هذه الوثيقة أن رفع مستوى التحليل لا يعني نفي ما كُتب سابقًا، بل إعادة تأطيره ضمن أفق أوسع. فالوثائق التأسيسية الثلاث لم تكن خاطئة، بل كانت صحيحة داخل حدودها التاريخية. والوثيقة الرابعة لا تلغيها ولا تنقضها، بل ترفع مستوى قراءتها، وتمنع التعامل معها بوصفها نصوصًا مكتفية بذاتها أو صيغًا نهائية. وبهذا المعنى، فإن ما يجري هنا ليس استدارة عن المشروع، بل تعميق له.
إن إحدى أهم وظائف هذه الوثيقة هي أنها تضع قيدًا منهجيًا دائمًا يحكم كل ما سيأتي بعدها: لا اختزال، لا يقينيات مغلقة، لا وصفات جاهزة، ولا قفز فوق الشروط. فالتحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات ليس دعوة إلى التعقيد من أجل التعقيد، بل دعوة إلى تحمّل كلفة الفهم في واقع لا يسمح بالتبسيط من دون تشويه. وهذه الكلفة هي الشرط الأول لأي سياسة جدية.
وبهذا المعنى، لا تقدّم هذه الوثيقة برنامجًا سياسيًا، ولا نموذجًا تنظيميًا جاهزًا، ولا خارطة طريق قصيرة المدى. إنها تؤسس لما هو أصعب وأعمق: إعادة ضبط البوصلة المنهجية لمشروع يريد أن يعمل داخل التاريخ، لا خارجه. مشروع يدرك أن التغيير في العراق لن يكون قفزة سريعة، ولا نتيجة موقف صحيح فقط، بل مسارًا طويل النفس، يتطلب صبرًا، وتواضعًا معرفيًا، وقدرة دائمة على المراجعة.
ومن هنا، تنفتح هذه الوثيقة مباشرة على الوثيقة الخامسة، التي ستتولى إعادة قراءة الوثائق التأسيسية الثلاث قراءة تشكيكية نقدية تجديدية، لا بوصفها أخطاء يجب تصحيحها، ولا بوصفها نصوصًا مقدسة يجب الدفاع عنها، بل بوصفها مراحل في مسار حيّ يتطور مع تطور الوعي والشروط. وستكون هذه القراءة جزءًا من العملية نفسها التي دشّنتها الوثيقة الرابعة: عملية تحويل المشروع من مجموعة نصوص إلى سيرورة فكرية–سياسية واعية بذاتها.
إن الوثيقة الرابعة، في خاتمتها، لا تعد بانتصارات سريعة، ولا تطلب إجماعًا، ولا تسعى إلى طمأنة جميع الأطراف. إنها تضع معيارًا مختلفًا للعمل السياسي: معيار القدرة على الفهم العميق، والجرأة على الشك، والاستعداد لتحمّل كلفة التجديد. وبهذا المعيار، فإن إعادة التأسيس الشيوعي في العراق لا يمكن أن تكون تكرارًا لتجارب سابقة، بل يجب أن تكون اختراعًا تاريخيًا واعيًا، يستند إلى النظرية، ويتعلم من التجربة، ولا يخشى تطوير أدواته ما دام ممسوكًا بجوهره المادي النقدي.
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث ف
...
-
الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل
...
-
الوثيقة الثالثة: تشخيصُ السيادة والدين والطبقة في عراق ما بع
...
-
الوثيقة الثانية: تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
-
تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
-
ماذا يريد الشيوعيون؟
-
الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي
...
-
لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
-
العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د
...
-
أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
-
الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما
...
-
التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
-
من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
-
قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
-
الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
-
هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
-
الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
-
التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض
...
-
تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية
...
-
الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
المزيد.....
-
تركي آل الشيخ يشارك رسالة قصي خولي عن -عرس مطنطن- بموسم الري
...
-
لاعبون صاعدون تألقوا في أندية أوروبية كبرى مرشحون لخلق المفا
...
-
باكستان: الحكم على رئيس الوزراء السابق عمران خان وزوجته بـ 1
...
-
الضفة الغربية: بعد 11 شهرا على إطلاق عملية عسكرية في مخيمات.
...
-
-اتفاق إخفاء النار-.. عرس في غزة يتحول إلى مجزرة داخل مدرسة
...
-
ما وراء تنوع الأسلحة الأميركية بعملية عين الصقر؟ خبير عسكري
...
-
هروبا من خط النار.. قصص إنسانية مؤلمة للنازحين من حدود كمبود
...
-
مسؤولة سودانية: ضغط النزوح على النيل الأبيض يتجاوز القدرات ا
...
-
غوتيريش يدعو لتنفيذ كامل لاتفاق غزة واجتماع للوسطاء بميامي
-
عاجل | رئيس الوزراء اللبناني: المرحلة الأولى من خطة حصر السل
...
المزيد.....
-
الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد
...
/ علي طبله
-
الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل
...
/ علي طبله
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|