أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث في ضوء التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات















المزيد.....



إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث في ضوء التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 16:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الوثيقة الخامسة

إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث

في ضوء التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات

د. علي عبد الرضا طبله
2025.12.14

تمهيد الوثيقة الخامسة

لماذا نعيد القراءة؟ ولماذا الآن؟

لا تنطلق هذه الوثيقة من افتراض وجود خطأ تأسيسي في الوثائق الثلاث الأولى، ولا من رغبة في “تصحيح” ماضٍ أو التنصّل منه، ولا من حاجة دفاعية أمام نقد خارجي. بل تنطلق من قناعة منهجية أكثر عمقًا: أن المشاريع الفكرية والسياسية الحيّة لا تتقدّم إلا بإعادة قراءة ذاتها كلما تغيّرت الشروط الموضوعية وارتفع مستوى التحليل.

إن الوثائق التأسيسية الثلاث شكّلت لحظة ضرورية في مسار مشروع إعادة التأسيس الشيوعي في العراق. فقد كُتبت في سياق تاريخي محدّد، اتسم بحدّة الصراع السياسي، وبالحاجة إلى خطاب صدامي واضح، وبمواجهة مباشرة لبنية سلطة كانت لا تزال في طور التشكل. وفي هذا السياق، أدّت هذه الوثائق وظيفتها: سمّت الأزمة، وحدّدت الخصوم، وطرحت أسئلة كبرى حول الدولة، والهوية، والعدالة الاجتماعية، ودور اليسار.

غير أن نجاح هذه الوثائق في أداء وظيفتها التاريخية لا يجعلها نصوصًا مكتفية بذاتها. فالنص السياسي، شأنه شأن الأداة النظرية، يعمل داخل زمنه، ويكشف حدوده مع تغيّر الشروط. ومع تراكم الخبرة، واتساع المعرفة، وانكشاف آليات أعمق لاشتغال الدولة الريعية–المكوناتية، أصبح من الضروري الانتقال من مستوى القراءة السياسية المباشرة إلى مستوى إعادة القراءة المنهجية.

هنا تحديدًا تقع الوثيقة الخامسة. فهي لا تُقرأ بمعزل عن الوثيقة الرابعة، بل بوصفها امتدادًا عضويًا لها. فإذا كانت الوثيقة الرابعة قد اشتغلت على إعادة بناء أداة الفهم، فإن الوثيقة الخامسة تشتغل على إعادة استخدام هذه الأداة في قراءة نصوصنا السابقة نفسها. وبذلك، تتحول المراجعة من فعل اعتذاري أو دفاعي إلى فعل معرفي منتج.

إن السؤال الذي يحكم هذه الوثيقة ليس:

أين أخطأنا؟

بل:

في أي مستوى كُتبت هذه النصوص؟
وما الذي التقطته بدقة؟
وما الذي اختزلته بحكم شروط لحظته؟
وكيف يمكن اليوم رفع مستوى قراءته من دون نفيه؟

هذا التحوّل في صيغة السؤال هو ما يميّز القراءة التشكيكية النقدية التجديدية عن المراجعات التبريرية أو القطائعية. فنحن لا نعيد قراءة الوثائق الثلاث من خارجها، ولا نحاكمها بأدوات لاحقة عليها، بل نقرأها من داخل مسارها، بوصفها لحظات ضرورية في تطوّر وعي لم يكن مكتملًا، ولا يُفترض به أن يكون كذلك.

ومن هنا، فإن هذه الوثيقة لا تسعى إلى إنتاج “نسخة جديدة” من الوثائق الثلاث، ولا إلى دمجها أو اختزالها، بل إلى كشف طبقاتها التحليلية، وتمييز ما كان فيها توصيفًا سياسيًا مباشرًا، عمّا يمكن اليوم قراءته بوصفه مؤشرًا بنيويًا لم يكن قد اكتمل وعيه آنذاك. وبهذا المعنى، فإن الوثيقة الخامسة ليست وثيقة نقد فقط، بل وثيقة تراكم معرفي.

كما أن إعادة القراءة هذه لا تستهدف طمأنة الداخل أو الرد على الخارج، بل تستهدف بالأساس تحصين المشروع من الجمود. فالمشروع الذي يخشى إعادة قراءة نصوصه السابقة محكوم بالتحول إلى أيديولوجيا مغلقة، حتى لو رفع شعارات التجديد. أما المشروع الذي يملك الشجاعة المنهجية لإخضاع نصوصه نفسها للتحليل البنيوي، فإنه يضع نفسه داخل حركة التاريخ، لا فوقها.

بهذا المعنى، تُفهم الوثيقة الخامسة بوصفها خطوة ضرورية في مسار بدأ بالوثائق التأسيسية الثلاث، ومرّ بالوثيقة الرابعة، ويتقدّم الآن نحو مستوى أعلى من الوعي الذاتي. إنها لا تُنهي هذا المسار، بل تفتح عليه أفقًا جديدًا، يربط بين ما كُتب، وما يُكتب، وما لم يُكتب بعد.


لماذا نعيد القراءة؟ ولماذا الآن؟

تقوم إعادة القراءة التشكيكية النقدية التجديدية على تمييز منهجي أساسي بين مستويات النص، وهو تمييز لم يكن مُصرَّحًا به في الوثائق التأسيسية الثلاث، لكنه كان حاضرًا ضمنيًا بحكم شروط كتابتها. فالنص السياسي، بطبيعته، يشتغل غالبًا على مستوى التسمية والتعبئة والموقف، فيما يشتغل النص التحليلي على مستوى التفسير والربط والتفكيك، ويشتغل النص المنهجي على مستوى الأداة نفسها التي نقرأ بها الواقع. الخلط بين هذه المستويات هو أحد مصادر سوء الفهم الأكثر شيوعًا، سواء من قبل القرّاء أو من داخل المشروع نفسه.

لقد كُتبت الوثائق التأسيسية الثلاث أساسًا على مستوى سياسي–نضالي مباشر، وكانت هذه لغتها ووظيفتها. غير أن القراءة اللاحقة لها، خصوصًا حين تُستعاد خارج سياقها، كثيرًا ما تتعامل معها بوصفها نصوصًا تحليلية مكتملة أو أطروحات منهجية نهائية. ومن هنا تنشأ الإشكالية: إذ يُحاسَب النص على ما لم يكن يهدف إلى إنجازه أصلًا، أو يُحمَّل أكثر مما يسمح به مستواه التاريخي.

إن إعادة القراءة التي نقترحها هنا لا تسعى إلى محاكمة النصوص السابقة، بل إلى إعادة توزيعها على مستوياتها الصحيحة. فبعض ما ورد فيها كان توصيفًا سياسيًا ضروريًا، وبعضه كان حدسًا تحليليًا لم يكتمل، وبعضه كان إشارة منهجية تحتاج اليوم إلى تطوير. وبدون هذا التمييز، يتحول النقاش إلى جدل عقيم بين من يدافع عن النصوص بوصفها صحيحة مطلقًا، ومن يهاجمها بوصفها خاطئة مطلقًا، فيما يغيب السؤال الأهم: كيف نقرأ هذه النصوص اليوم قراءة أكثر عمقًا؟

ومن هنا، تُبنى هذه الوثيقة على قيد منهجي صريح يمنع الوقوع في تهمة “نقض الذات”. هذا القيد يمكن تلخيصه بالصيغة التالية:

لا يُقاس تطور المشروع بتطابق نصوصه عبر الزمن، بل بقدرته على رفع مستوى قراءته لذاته من دون نفي مراحله السابقة.

بهذا القيد، تصبح إعادة القراءة فعل وفاء للمسار، لا خروجًا عليه. فالوفاء هنا لا يعني تكرار اللغة أو الدفاع عن كل صياغة، بل الحفاظ على منطق التطور الداخلي الذي يحكم المشروع. وكل قراءة تتجاهل هذا المنطق تقع، من حيث لا تدري، في أحد شكلين من الاختزال: إما تقديس النصوص السابقة بوصفها نهائية، أو نفيها بوصفها خاطئة، وكلاهما نقيض للتفكير الماركسي الجدلي.

إن المنهج التشكيكي النقدي التجديدي يفرض، في هذا السياق، نمطًا خاصًا من القراءة: قراءة لا تبحث عن التناقضات لتدينها، بل عن حدود التحليل لتجاوزها. فهو لا يسأل: هل كانت هذه الصياغة صائبة أم خاطئة؟ بل يسأل: في أي مستوى كُتبت؟ وما الذي أتاحته شروطها؟ وما الذي حجبته؟ وكيف يمكن اليوم إعادة إدراجها في تحليل أكثر تركيبًا؟

وعلى المستوى العملي، يعني هذا أن الوثيقة الخامسة ستتعامل مع الوثائق التأسيسية الثلاث بوصفها مواد تحليل، لا بوصفها مواقف يجب الدفاع عنها أو التبرؤ منها. وسيجري تفكيك مفاهيم مركزية وردت فيها—مثل الدولة، والطائفية، والطبقة، والهوية، والاحتجاج، والتنظيم—عبر مقارنة ما قيل آنذاك بما أصبح ممكنًا قوله اليوم في ضوء التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات.

بهذا الأسلوب، تتحول إعادة القراءة من فعل توضيحي إلى عملية إنتاج معرفي جديدة. فالنصوص السابقة لا تُعاد قراءتها فقط، بل تُستثمر، ويُعاد تشغيلها داخل إطار تحليلي أوسع. وهذا ما يمنح الوثيقة الخامسة طابعها الخاص: فهي ليست نصًا مستقلًا فحسب، بل حلقة وصل حية بين ما أُنجز وما سيُنجز.

لماذا نعيد القراءة؟ ولماذا الآن؟

يكتمل التمهيد حين نحدّد، بوضوح لا لبس فيه، كيف ستُنجَز إعادة القراءة، وبأي منطق ستُدار، وما الذي ستفعله هذه الوثيقة تحديدًا، وما الذي لن تفعله. فوضوح خطة العمل هنا ليس مسألة تنظيمية فقط، بل شرط منهجي يمنع الالتباس ويقطع الطريق أمام القراءات المتسرّعة أو المسيّسة.

ستشتغل الوثيقة الخامسة على الوثائق التأسيسية الثلاث وفق ثلاث حركات مترابطة، لا بوصفها مراحل زمنية منفصلة، بل بوصفها مستويات قراءة تتقاطع داخل كل مقطع:
تفكيك مستوى النص
أي تحديد ما إذا كانت الصياغة المعنية سياسية–نضالية، أم تحليلية–تفسيرية، أم إشارة منهجية أولية. هذا التفكيك يسمح بإعادة كل مقطع إلى وظيفته الأصلية، ويمنع إسقاط انتظارات غير مناسبة عليه.
كشف حدود اللحظة التاريخية للنص
أي بيان ما الذي كان ممكنًا رؤيته وتحليله في لحظة كتابة الوثيقة، وما الذي لم يكن قد تبلور بعد بنيويًا. هنا لا نتحدث عن “نقص” أو “خطأ”، بل عن حدود موضوعية للمعرفة، تفرضها الوقائع نفسها قبل أن تفرضها الأدوات.
رفع مستوى القراءة
أي إعادة إدراج المفهوم أو الطرح ضمن التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات، لا لإلغائه، بل لتوسيعه وتعميقه وربطه بشروط اشتغاله الفعلية كما انكشفت لاحقًا.

بهذه الحركات الثلاث، تصبح إعادة القراءة عملية جدلية لا مراجعة شكلية. فالوثائق لا تُعاد كتابتها، ولا تُختصر، ولا تُجمَّل، بل تُعاد قراءتها من موقع معرفي أعلى، مع الحفاظ على تاريخها وخصوصية لحظتها.

أما من حيث البنية، فستُعالَج كل وثيقة من الوثائق الثلاث في قسم مستقل، على النحو الآتي:
القسم الأول: إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الأولى
القسم الثاني: إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الثانية
القسم الثالث: إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الثالثة

وفي كل قسم، سيتم الاشتغال على المحاور المفصلية نفسها (الدولة، الطائفية/المكوناتية، الطبقة، التنظيم، الصراع الاجتماعي)، لكن ليس بالمنطق نفسه الذي كُتبت به النصوص الأصلية، بل بالمنطق الذي بلورته الوثيقة الرابعة. وبهذا، لا تصبح الوثيقة الخامسة تعليقًا على نصوص سابقة، بل اختبارًا حيًّا للمنهج الجديد في اشتغاله على مادته الخاصة.

ومن الضروري التأكيد هنا على ما لن تفعله هذه الوثيقة:
لن تصدر أحكامًا أخلاقية على الصياغات السابقة.
لن تعلن “تصحيحًا رسميًا” بمعناه الإداري أو التنظيمي.
لن تُستخدم لإغلاق نقاش أو فرض قراءة واحدة.

وظيفتها مختلفة: إنها تؤسس لغة داخلية جديدة للحوار مع الذات، لغة تسمح بالاعتراف بالتطور من دون خجل، وبالنقد من دون جلد ذات، وبالاستمرار من دون جمود.

بهذا المعنى، تصبح الوثيقة الخامسة خطوة متقدمة في تحويل المشروع من سلسلة وثائق إلى مسار تفكير حيّ. مسار لا يخشى أن يرى حدوده، ولا يتردد في رفع مستوى أدواته، ولا يحتاج إلى ادّعاء الاكتمال كي يواصل السير.

وبإغلاق هذا التمهيد، يصبح الانتقال إلى القسم الأول انتقالًا طبيعيًا، لا من باب البدء بنص جديد، بل من باب تشغيل المنهج الذي جرى بناؤه وتحصينه في الوثيقة الرابعة، وتفعيله الآن في قراءة الوثائق التأسيسية الثلاث قراءة جديدة، أعمق، وأكثر تركيبًا.

القسم الأول

إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الأولى

من التسمية السياسية إلى التحليل البنيوي الشرطي

تشكّل الوثيقة التأسيسية الأولى لحظة انطلاق ضرورية في مشروع إعادة التأسيس الشيوعي في العراق. فقد كُتبت في سياق كان يتطلّب تسمية سياسية مباشرة للأزمة، وكسر صمت طويل، ووضع اليد على طبيعة النظام القائم بعد التحولات الكبرى. وكانت وظيفتها الأساسية آنذاك هي تحديد العدو البنيوي، وفضح زيف السرديات السائدة، وإعادة إدخال مفاهيم مثل الدولة والطبقة والعدالة الاجتماعية إلى فضاء النقاش العام بعد أن جرى تهميشها أو تشويهها.

من حيث مستوى النص، كانت هذه الوثيقة نصًا سياسيًا–نضاليًا بالدرجة الأولى، لا نصًا تحليليًا مكتملًا. وقد كان هذا الاختيار واعيًا وضروريًا. فاللحظة التاريخية لم تكن تسمح بترف التفصيل البنيوي، بل كانت تتطلب موقفًا واضحًا، ولغة حادة، وقدرة على المواجهة. ومن هنا جاءت صياغات مكثفة، قطعية أحيانًا، تُسمّي الأشياء بأسمائها، وتضع خطوط فصل حادة بين المشروع الوطني الديمقراطي وبين بنية السلطة القائمة.

غير أن القراءة اللاحقة لهذه الوثيقة، خصوصًا خارج سياقها، كثيرًا ما تعاملت معها بوصفها تحليلًا بنيويًا نهائيًا، لا بوصفها لحظة سياسية في مسار متحوّل. وهنا تحديدًا تظهر الحاجة إلى إعادة القراءة. فبعض المفاهيم التي استُخدمت آنذاك بوصفها أدوات توصيف سياسي—مثل “الطائفية”، أو “الدولة التابعة”، أو “قوى ما بعد الاحتلال”—كانت تؤدي وظيفة التسمية والفضح، لكنها لم تكن بعدُ قد خضعت لتحليل بنيوي شرطي يبيّن كيف تعمل هذه الظواهر، لا فقط ما هي.

فعلى سبيل المثال، جرى التعامل مع الطائفية في الوثيقة الأولى بوصفها بنية مهيمنة تُستخدم لتقسيم المجتمع ومنع تشكّل وعي طبقي. وهذا توصيف صحيح سياسيًا، لكنه يبقى، على المستوى التحليلي، أحادي المستوى إذا لم يُربط بشروط تشكّله: الدولة الريعية، تاريخ العنف، انهيار وسائط التمثيل الاجتماعي، وتحول الهوية إلى مورد سياسي–اقتصادي. أي أن الطائفية وُصفت بوصفها سببًا مباشرًا، فيما هي في الواقع نتيجة مركّبة لتراكب شروط أعمق.

الأمر نفسه ينطبق على مفهوم الدولة. فقد جرى توصيف الدولة في الوثيقة الأولى بوصفها دولة تابعة، مختطفة، فاقدة للسيادة. وهذا توصيف دقيق في مستواه السياسي، لكنه لا يجيب بعد على سؤال كيف أعادت هذه الدولة إنتاج نفسها داخليًا، وكيف تحوّلت من جهاز مفروض من الخارج إلى حقل محلي لإعادة إنتاج السلطة والريع. وهذا السؤال لم يكن ممكنًا طرحه بالوضوح نفسه في لحظة كتابة الوثيقة الأولى، لكنه أصبح اليوم مركزيًا.

من هنا، لا تُقرأ الوثيقة التأسيسية الأولى بوصفها نصًا “قاصرًا”، بل بوصفها نقطة بداية حدسية التقطت ظواهر حقيقية، لكنها عبّرت عنها بلغة المواجهة السياسية أكثر مما عبّرت عنها بلغة التفكيك البنيوي. وإعادة القراءة هنا لا تسحب منها صوابها، بل تنقلها من مستوى التسمية إلى مستوى التفسير، ومن مستوى الخطاب إلى مستوى الأداة.

بهذا المعنى، فإن الوثيقة الأولى تظل وثيقة صحيحة في وظيفتها التاريخية، لكنها تحتاج اليوم إلى أن تُعاد إدراج مفاهيمها داخل التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات الذي بلورته الوثيقة الرابعة. وهذا ما سيجري تفصيله في الأجزاء اللاحقة، عبر تفكيك المفاهيم المركزية واحدًا واحدًا، وبيان كيف يمكن رفع مستوى قراءتها من دون نفي لحظتها الأصلية.

تُعدّ مسألة الطائفية أحد أكثر المحاور حساسية في الوثيقة التأسيسية الأولى، وأحد أكثرها عرضة لسوء الفهم أو الاختزال في القراءات اللاحقة. فقد جرى تناول الطائفية آنذاك بوصفها أداة تفكيك للمجتمع، وآلية لإعادة إنتاج السلطة، وحاجزًا أمام تشكّل وعي طبقي جامع. وهذا التناول كان صحيحًا في مستواه السياسي، لكنه بقي، بحكم لحظته، وصفًا للوظيفة لا تفكيكًا للبنية.

إعادة القراءة اليوم تفرض الانتقال من سؤال: كيف تُستخدم الطائفية؟
إلى سؤال أعمق: كيف تُنتَج الطائفية سياسيًا واقتصاديًا داخل شروط محددة؟

فالطائفية، في التحليل البنيوي الشرطي، لا تُفهم بوصفها بقايا ثقافية ما قبل حديثة، ولا بوصفها مجرد أيديولوجيا زائفة تُفرض من فوق، بل بوصفها صيغة تنظيم اجتماعي–سياسي تشكّلت داخل شروط انهيار الدولة الوطنية المنتجة، وصعود الدولة الريعية، وتعميم العنف، وتفكك وسائط التمثيل الاجتماعي الحديثة. وبهذا المعنى، فإن الطائفية ليست نقيض الحداثة، بل أحد أشكال حداثتها المشوّهة.

في الوثيقة الأولى، جرى التعامل مع الطائفية غالبًا بوصفها سببًا مباشرًا لتشظي المجتمع وإجهاض أي مشروع وطني ديمقراطي. أما في القراءة البنيوية اللاحقة، فيصبح من الضروري قلب زاوية النظر: الطائفية ليست سببًا أوليًا، بل نتيجة مركّبة لعملية تاريخية أطول، جرى فيها تفكيك الطبقات، وتحويل الدولة إلى موزّع ريعي، وإعادة تعريف الانتماء بوصفه مورد حماية ووصول.

هذا التصويب لا يُضعف النقد السياسي للطائفية، بل يجعله أكثر دقة وخطورة. فحين تُفهم الطائفية بوصفها بنية، لا مجرد خطاب، يصبح واضحًا لماذا تفشل مواجهتها عبر الخطاب التنويري وحده، أو عبر الدعوة الأخلاقية للوحدة الوطنية. فالبنية لا تُفكك بالوعظ، بل بتغيير الشروط التي تجعلها وظيفة عقلانية داخل نظام مختل.

وينطبق الأمر نفسه على مفهوم الطبقة كما ورد في الوثيقة الأولى. فقد جرى التأكيد، بحق، على تغييب الوعي الطبقي، وعلى هيمنة الهويات الفرعية. غير أن هذا الطرح بقي أسير تصور ضمني يفترض وجود طبقة عاملة متماسكة جرى “تشويش وعيها” بالطائفية. أما التحليل البنيوي الشرطي فيفرض علينا الاعتراف بأن الطبقة نفسها قد أُعيد تشكيلها وتشويهها داخل الاقتصاد الريعي، وأن ما تراجع ليس الوعي فقط، بل البنية الاجتماعية التي كان يمكن أن تحمله.

فالعامل في الاقتصاد الريعي ليس العامل الصناعي الكلاسيكي، والبطالة المقنّعة، والعمل الهش، والهجرة، والاقتصاد غير الرسمي، كلها أعادت إنتاج مواقع اجتماعية لا تتطابق مع التصنيفات الكلاسيكية. ومن هنا، فإن الحديث عن “استعادة الوعي الطبقي” من دون تحليل هذه التحولات البنيوية يبقى شعارًا سياسيًا صحيح النية، لكنه محدود الفعالية.

إن إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الأولى، في هذا المحور، لا تقول إن الطائفية لم تكن مشكلة مركزية، ولا إن الطبقة فقدت أهميتها، بل تقول إن طريقة صياغة العلاقة بينهما تحتاج اليوم إلى رفع مستوى. فالصراع الطبقي لم يختفِ، لكنه لم يعد يعمل في صورته المباشرة، بل يتوسّط عبر الدولة، والهوية، والشبكات، والعنف. وهذا ما لم يكن ممكنًا بلورته بالكامل في لحظة كتابة الوثيقة الأولى.

وعليه، فإن التصويب المنهجي هنا يتمثل في الانتقال من ثنائية: طبقة مقابل طائفة
إلى تحليل أكثر تركيبًا يرى الطائفة كوسيط تاريخي لعمل الصراع الطبقي داخل شروط الدولة الريعية–المكوناتية. وهذا التحليل لا يبرّئ الطائفية، بل يكشف جذورها وآليات إعادة إنتاجها، ويمنح النقد السياسي أساسًا أعمق وأكثر صلابة.

تصل إعادة القراءة في هذا القسم إلى ذروتها عند مفهوم الدولة والتبعية كما ورد في الوثيقة التأسيسية الأولى. فقد جرى توصيف الدولة آنذاك بوصفها دولة فاقدة للسيادة، خاضعة لإرادات خارجية، ومُعادة التشكيل على قياس مصالح إقليمية ودولية. وكان هذا التوصيف دقيقًا في مستواه السياسي، وضروريًا في لحظة كان فيها كشف الطابع التبعي للنظام شرطًا لأي خطاب معارض جاد.

غير أن هذا التوصيف، حين يُقرأ اليوم من دون رفع مستواه التحليلي، قد يُفهم على نحو اختزالي، يوحي بأن الدولة مجرّد أداة خارجية، أو كيان مفروض بالكامل من الخارج. وإعادة القراءة التشكيكية النقدية التجديدية تفرض هنا تصويبًا أساسيًا: التبعية ليست نفيًا للداخل، بل شكلًا تاريخيًا لتفاعله المشوَّه مع الخارج.

فالدولة العراقية، بعد التحولات الكبرى، لم تبقَ مجرد كيان مُدار من الخارج، بل تحولت إلى حقل محلي لإعادة إنتاج السلطة والريع، تشارك في إدارته قوى داخلية أصبحت فاعلة ومُستقلة نسبيًا في مصالحها، حتى وإن بقيت علاقاتها الخارجية حاسمة. وهذا التمييز بالغ الأهمية، لأنه يمنع الانزلاق إلى تفسير يُعفي البنى المحلية من مسؤوليتها التاريخية، أو يختزل الصراع في مواجهة “الاحتلال” فقط.

إن ما يُنقل اليوم إلى مستوى أعلى هو فهم الدولة بوصفها بنية هجينة: نتاج تفكيك قسري من الخارج، وإعادة تركيب داخلية وفق منطق ريعي–مكوناتـي. وهذا الفهم لا ينقض توصيف التبعية، بل يعمّقه، لأنه يبيّن كيف تتحول التبعية إلى آلية اشتغال داخلية، لا إلى علاقة خارجية فحسب. وبهذا، يصبح الصراع مع التبعية صراعًا مع بنية الدولة نفسها، لا فقط مع سياساتها الخارجية.

وبهذا التصويب، يمكن تثبيت ما يبقى صالحًا من الوثيقة التأسيسية الأولى بوضوح:
تشخيصها الحاد لطبيعة النظام القائم
إصرارها على مركزية العدالة الاجتماعية
رفضها للمكوناتية بوصفها مشروع حكم
دفاعها عن أفق وطني ديمقراطي طبقي

هذه العناصر لا تُلغى ولا تُخفَّف، بل تُعاد صياغتها داخل أفق تحليلي أوسع. أما ما يُرفع إلى مستوى أعلى، فهو طريقة فهم العلاقات بين هذه العناصر، والوسائط التي تعمل عبرها، والحدود التي فرضتها لحظة الكتابة الأولى على التحليل.

إن إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الأولى، بهذه الصيغة، لا تنتج “نقدًا للوثيقة”، بل تنتج نقدًا لطريقة قراءتنا السابقة لها. وهي، بذلك، تنجح في تحويل النص من وثيقة سياسية صدامية مرتبطة بلحظة، إلى مادة تحليلية حيّة يمكن إدراجها داخل مسار تطور طويل.

وبهذا الإغلاق، يتضح أن الوثيقة الأولى لم تكن خطأً يجب تصحيحه، ولا نصًا نهائيًا يجب الدفاع عنه، بل بداية ضرورية لمسار تطوّر لم يكن ممكنًا اختصاره أو القفز فوقه. وإعادة قراءتها اليوم، عبر التحليل البنيوي الشرطي، هي فعل وفاء لهذا المسار، لا استدارة عنه.


القسم الثاني

إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الثانية

المشروع الوطني، الدولة، والمرحلية بين السياسة والتحليل البنيوي

تمثّل الوثيقة التأسيسية الثانية انتقالًا مهمًا داخل مشروع إعادة التأسيس، إذ انتقلت من لحظة التسمية السياسية الصدامية التي ميّزت الوثيقة الأولى، إلى محاولة بلورة أفق سياسي–استراتيجي أكثر تركيبًا، تمحور حول مفاهيم المشروع الوطني الديمقراطي، والدولة المدنية، والمرحلية التاريخية. وقد كان هذا الانتقال، في لحظته، ضروريًا، لأنه سعى إلى تجاوز الاكتفاء بالنقد نحو طرح أفق بديل.

غير أن هذا الانتقال نفسه هو ما يجعل الوثيقة الثانية أكثر عرضة للالتباس في القراءات اللاحقة. فهي نص يقف على التخوم بين السياسي والتحليلي، بين البرنامج والاستراتيجية، بين ما ينبغي أن يكون وما يمكن أن يكون. ومن هنا، فإن إعادة قراءتها تشكيكيًا نقديًا تجديديًا تقتضي أولًا تحديد مستواها بدقة: إنها ليست وثيقة نظرية مكتملة، ولا برنامجًا نهائيًا، بل محاولة أولى لصياغة اتجاه سياسي داخل واقع لم تكن شروطه قد انكشفت بالكامل بعد.

في الوثيقة الثانية، جرى التعامل مع المشروع الوطني الديمقراطي بوصفه الإطار الجامع الممكن لمواجهة بنية السلطة القائمة، وتفكيك المكوناتية، واستعادة مفهوم الدولة العامة. وكان هذا الطرح، سياسيًا، ضروريًا في مواجهة سرديات الانقسام، وفي الدفاع عن فكرة المصلحة العامة. غير أن هذا المفهوم، حين لا يُعاد تفكيكه بنيويًا، قد يتحول إلى صيغة عامة تُخفي التناقضات بدل أن تكشفها.

فالتحليل البنيوي الشرطي يفرض علينا اليوم السؤال التالي: أي مشروع وطني يمكن أن يتشكّل داخل دولة ريعية–مكوناتية؟ وهل يمكن للمشروع الوطني أن يكون إطارًا جامعًا من دون تفكيك شروط الريع، والشبكات، والعنف، التي أعادت تعريف “الوطن” نفسه بوصفه حقل صراع على الموارد لا فضاءً عامًا مشتركًا؟ هذه الأسئلة لم تكن غائبة عن الوثيقة الثانية، لكنها لم تكن قد صيغت بعد بهذا الوضوح.

كذلك، برز في الوثيقة الثانية مفهوم المرحلية بوصفه أداة سياسية لتحديد المهام الممكنة في لحظة معينة، ولمنع القفز فوق الشروط. غير أن المرحلية، حين تُطرح من دون قيد منهجي صارم، قد تُقرأ لاحقًا بوصفها دعوة مفتوحة للتكيّف أو التأجيل. وإعادة القراءة هنا لا ترفض المرحلية، بل تسعى إلى تحريرها من الاستخدام البراغماتي الفضفاض، وإعادتها إلى معناها الجدلي: تنظيم الصراع، لا تعليقه.

ومن هنا، فإن الوثيقة التأسيسية الثانية تلتقط بدقة الحاجة إلى أفق سياسي جامع، لكنها لم تكن قد امتلكت بعد الأداة التحليلية الكافية لتفكيك الشروط البنيوية التي تجعل هذا الأفق ممكنًا أو مستحيلًا جزئيًا. وهذا ليس نقصًا ذاتيًا، بل حدًّا تاريخيًا لمرحلة كانت لا تزال ترى الدولة بوصفها أفق استعادة، أكثر مما تراها بوصفها حقل أزمة معقّد.

بهذا المعنى، فإن إعادة قراءة الوثيقة الثانية لا تبدأ بتفنيد أطروحاتها، بل بتثبيت وظيفتها: لقد كانت محاولة انتقال من النقد إلى البناء. غير أن البناء، لكي لا يتحول إلى خطاب عام، يحتاج اليوم إلى أن يُعاد تأسيسه على تحليل بنيوي أعمق، يبيّن حدود المشروع الوطني كما يبيّن إمكاناته.

يتركّز الثقل المفهومي في الوثيقة التأسيسية الثانية حول المشروع الوطني الديمقراطي بوصفه الإطار السياسي الجامع الممكن للخروج من المأزق التاريخي. وقد جرى تقديم هذا المشروع آنذاك بوصفه بديلًا عن المكوناتية، وعن الاستقطابات الطائفية والقومية، وعن هيمنة الخارج. وإعادة القراءة اليوم لا تنقض هذا الطرح، لكنها تفرض نقله من مستوى الشعار الجامع إلى مستوى التحليل البنيوي المشروط.

فالتحليل البنيوي الشرطي يقتضي طرح سؤال لم يكن مطروحًا بحدّته الكاملة في الوثيقة الثانية:
ما هي البنية الاجتماعية–الاقتصادية التي يمكن أن تحمل مشروعًا وطنيًا؟
ذلك أن المشروع الوطني لا يتشكّل بالإرادة السياسية وحدها، ولا بمجرد الاتفاق على شعارات عامة، بل يحتاج إلى قاعدة اجتماعية، ووسائط تنظيم، ودولة قادرة على التحوّل من موزّع ريعي إلى إطار عام منتج.

في دولة ريعية–مكوناتية، يصبح “الوطني” مفهومًا متنازعًا عليه. فالوطن، في هذه الشروط، لا يُختبر بوصفه فضاءً عامًا للمصلحة المشتركة، بل بوصفه حقل توزيع للموارد والفرص. ومن هنا، فإن الدعوة إلى مشروع وطني ديمقراطي من دون تفكيك منطق الريع الذي يحكم الدولة، ومن دون تحليل الشبكات التي تدير التوزيع، تبقى عرضة للتحول إلى خطاب أخلاقي أو تعبوي، لا إلى استراتيجية تغيير.

وينطبق الأمر نفسه على مفهوم الدولة المدنية كما ورد في الوثيقة الثانية. فقد استُخدم هذا المفهوم بوصفه نقيضًا للدولة الطائفية والعسكرية، وحاملًا لأفق قانوني ومؤسسي. غير أن إعادة القراءة تفرض هنا تمييزًا ضروريًا: الدولة المدنية ليست وصفًا قانونيًا مجردًا، بل شكل تاريخي للدولة يتطلب شروطًا مادية وسياسية محددة. فالدولة التي تعمل بمنطق الريع والشبكات لا تتحول إلى “مدنية” بمجرد تبني خطاب قانوني، لأن بنيتها العميقة تظل تعيد إنتاج اللامساواة والزبائنية.

ومن هنا، يصبح من الضروري نقل النقاش من سؤال: كيف نطالب بدولة مدنية؟
إلى سؤال أعمق: كيف يمكن تفكيك الشروط البنيوية التي تمنع تشكّل دولة عامة؟
وهذا التصويب لا يُضعف مطلب الدولة المدنية، بل يمنحه أساسًا واقعيًا، ويمنع تحويله إلى شعار فضفاض قابل للتوظيف من قوى متناقضة.

أما المرحلية، وهي من أكثر المفاهيم حساسية في الوثيقة الثانية، فقد طُرحت آنذاك بوصفها أداة سياسية لتنظيم المهام، وتجنب المغامرات، وبناء توازنات مرحلية تخدم هدفًا استراتيجيًا أبعد. غير أن إعادة القراءة تكشف خطرًا كامنًا في هذا الطرح إذا لم يُقيَّد منهجيًا: خطر تحوّل المرحلية إلى أفق دائم للتكيّف بدل أن تكون أداة مؤقتة لتنظيم الصراع.

فالمرحلية، في معناها الجدلي، لا تعني القبول بالبنية القائمة، ولا تعليق الصراع الطبقي، بل تعني تحديد نقطة الاشتباك الممكنة داخل بنية معقّدة. وإعادة القراءة هنا تشدد على ضرورة ربط المرحلية بتحليل بنيوي صارم يبيّن: ما الذي يمكن تغييره في هذه المرحلة؟ ما الذي لا يمكن؟ وما الذي يجب العمل على تفكيكه طويل الأمد؟ ومن دون هذا الربط، تصبح المرحلية خطابًا مفتوحًا للتأجيل.

بهذا المعنى، فإن الوثيقة التأسيسية الثانية تظل وثيقة شجاعة في محاولتها الانتقال من النقد إلى الأفق، لكنها تحتاج اليوم إلى أن تُعاد قراءتها بوصفها محاولة أولى لبناء استراتيجية، لا استراتيجية مكتملة. وإعادة القراءة لا تسحب منها مشروعيتها، بل تمنحها عمقًا إضافيًا، وتمنع استخدامها لاحقًا لتبرير سياسات لم تكن تقصدها.

تبلغ إعادة القراءة في هذا القسم لحظتها الحاسمة عند تثبيت ما يبقى صالحًا من الوثيقة التأسيسية الثانية، وتمييزه عمّا يحتاج إلى رفع مستوى أو إعادة إدراج بنيوي. فالغرض من هذه القراءة ليس تفكيك الوثيقة أو إضعافها، بل تحريرها من الالتباسات التي راكمها الزمن، ومن الاستخدامات التي قد تُحمَّل بها خارج سياقها.

أول ما يبقى صالحًا، وبقوة، هو الإصرار على الأفق الوطني الديمقراطي بوصفه نقيضًا جوهريًا للمكوناتية السياسية. فهذا الإصرار لا يُلغى ولا يُخفَّف، لأن المكوناتية ما زالت تمثل نمط الحكم المهيمن، ولأن تفكيكها يظل شرطًا لأي مشروع تحرري. غير أن ما يُرفع اليوم إلى مستوى أعلى هو طريقة فهم هذا الأفق: لم يعد المشروع الوطني يُفهم بوصفه توافقًا سياسيًا عامًا أو تحالفًا واسعًا بذاته، بل بوصفه نتيجة محتملة لمسار تفكيك بنيوي طويل يطال الدولة، والاقتصاد، وآليات التمثيل.

ثاني ما يبقى صالحًا هو الرهان على الدولة بوصفها ساحة صراع لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها. فالوثيقة الثانية كانت محقّة في رفض خطاب “ما بعد الدولة”، وفي التشديد على أن التغيير في العراق لا يمكن أن يتم خارج سؤال الدولة. غير أن إعادة القراءة تفرض هنا تصويبًا: الدولة ليست فقط أفق استعادة، بل حقل أزمة معقّد، والعمل داخلها لا يعني بالضرورة الاقتراب من المصلحة العامة، بل قد يعني الاندماج في منطقها الريعي–الشبكي. ومن هنا، فإن التعامل مع الدولة يحتاج اليوم إلى تحليل أدق لوظائفها، لا إلى افتراض حيادها.

ثالث ما يبقى صالحًا هو استخدام المرحلية بوصفها أداة تنظيم للصراع، لا قفزة مغامِرة ولا انتظارًا سلبيًا. غير أن ما يُرفع إلى مستوى أعلى هو إخضاع المرحلية لقيد منهجي صارم يمنع تحولها إلى سياسة دائمة للتكيّف. فالمرحلية التي لا تُربط بتحليل بنيوي يحدد شروط تجاوزها تتحول، مع الزمن، إلى ذريعة لإعادة إنتاج القائم. وهذا ما لم يكن مقصودًا في الوثيقة الثانية، لكنه أصبح احتمالًا قائمًا في قراءاتها اللاحقة.

وبهذا التثبيت، يصبح من الممكن القول إن الوثيقة التأسيسية الثانية كانت وثيقة انتقالية بامتياز: انتقلت بالمشروع من لحظة التشخيص الصدامي إلى لحظة البحث عن أفق سياسي، لكنها لم تكن قد امتلكت بعد أدوات التحليل البنيوي التي تسمح بتحديد شروط هذا الأفق بدقة. وإعادة القراءة اليوم لا تنتقص من قيمتها، بل تضعها في موقعها الصحيح داخل مسار التطور.

إن ما يُنقل اليوم إلى مستوى أعلى ليس مضمون المشروع الوطني ذاته، بل أساسه التحليلي. فالمشروع الوطني لا يُلغى، لكنه يُفكَّك ويُعاد تركيبه داخل فهم أعمق لبنية الدولة الريعية–المكوناتية، ولتحولات الطبقات، ولأزمة التنظيم. وبهذا، يتحول من شعار سياسي عام إلى أفق مشروط يتطلب أدوات، ومراحل، وصراعًا طويل النفس.

وبهذا الإغلاق، يتضح أن الوثيقة التأسيسية الثانية لم تكن دعوة إلى التكيّف ولا إلى التسوية، بل محاولة صادقة لفتح أفق سياسي داخل واقع مأزوم. وإعادة قراءتها اليوم، عبر المنهج التشكيكي النقدي التجديدي، تحميها من الاستخدام الاختزالي، وتمنحها موقعًا أوضح داخل المشروع ككل.

القسم الثالث

إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الثالثة

التنظيم، التحالفات، وحدود الفعل السياسي بين الضرورة والوهم

تُعدّ الوثيقة التأسيسية الثالثة أكثر الوثائق الثلاث اقترابًا من مسألة الفعل السياسي المباشر، وأكثرها انشغالًا بأسئلة التنظيم، والتحالفات، وإمكانات الاشتباك داخل الواقع القائم. وإذا كانت الوثيقتان الأولى والثانية قد اشتغلتا أساسًا على التشخيص والأفق، فإن الوثيقة الثالثة حاولت أن تجيب عن سؤال ملحّ: ماذا نفعل؟ وكيف نتحرك؟ ومع من؟

ولهذا السبب بالذات، كانت هذه الوثيقة الأكثر عرضة لسوء الفهم، والأكثر قابلية للاستخدام الانتقائي. فهي كُتبت في لحظة ضغط سياسي وتنظيمي عالٍ، حيث بدا الفراغ التنظيمي كبيرًا، والحاجة إلى مقترحات عملية ملحّة. ومن هنا جاءت صياغاتها أكثر مباشرة، وأحيانًا أكثر انفتاحًا على احتمالات متعددة، وهو ما يفرض اليوم إعادة قراءة دقيقة تفصل بين الضرورة التكتيكية والافتراض الاستراتيجي.

من حيث مستوى النص، تتحرك الوثيقة التأسيسية الثالثة على خط رفيع بين التحليل والتنظيم. فهي ليست لائحة تعليمات تنظيمية، ولا برنامج عمل جاهز، بل محاولة أولى لرسم حدود الفعل الممكن داخل واقع شديد التعقيد. غير أن هذا الطابع الانتقالي هو ما يجعلها عرضة لأن تُقرأ، لاحقًا، إما بوصفها دعوة مفتوحة للتحالفات غير المشروطة، أو بوصفها تبريرًا للعجز التنظيمي. وإعادة القراءة هنا ضرورية لتصويب هذين الفهمين معًا.

في الوثيقة الثالثة، جرى التأكيد على أهمية العمل داخل المجتمع، وعدم الانكفاء إلى خطاب نخبوي معزول، وضرورة البحث عن أشكال اشتباك واقعية مع القوى الفاعلة. وكان هذا التأكيد ردًّا مباشرًا على تاريخ طويل من العزلة والقمع والانكسار. غير أن التحليل البنيوي الشرطي يفرض اليوم إعادة طرح السؤال: أي مجتمع؟ وبأي وسائط؟ وتحت أي شروط؟

فالمجتمع الذي نتحرك داخله ليس كتلة متجانسة، ولا فضاءً مفتوحًا للفعل الحر، بل مجتمع أعيد تشكيله عبر الريع، والعنف، والمكوناتية، والشبكات. والعمل داخله لا يمكن أن يُفهم بوصفه “نزولًا إلى الجماهير” بالمعنى الكلاسيكي، بل بوصفه اشتباكًا مع أنماط عيش متشظية، ومع حاجات جزئية، ومع مخاوف حقيقية. وهذا ما لم يكن ممكنًا بلورته بالكامل في لحظة كتابة الوثيقة الثالثة.

كذلك، طُرحت في الوثيقة الثالثة مسألة التحالفات بوصفها أداة لتوسيع الفعل السياسي، وكسر العزلة، والتأثير في موازين القوى. وهذا الطرح كان مفهومًا في سياقه، لكنه يحتاج اليوم إلى إعادة إدراج بنيوي صارم. فالتحالف، في دولة ريعية–مكوناتية، ليس مجرد تقاطع برامج، بل اندماج محتمل في شبكات سلطة قد تعيد إنتاج المنطق نفسه الذي يُراد تغييره.

ومن هنا، فإن إعادة قراءة الوثيقة التأسيسية الثالثة لا تبدأ برفض أطروحاتها، بل بتحديد وظيفتها: لقد حاولت فتح أفق للفعل في لحظة انسداد. غير أن هذا الأفق، لكي لا يتحول إلى وهم، يحتاج اليوم إلى أن يُعاد ضبطه داخل تحليل بنيوي يحدّد بدقة ما هو ممكن، وما هو محفوف بالاحتواء، وما هو مستحيل في هذه المرحلة.

بهذا المعنى، فإن الوثيقة الثالثة ليست نصًا تنظيميًا نهائيًا، بل محاولة أولى للإجابة عن سؤال الفعل قبل اكتمال أداة الفهم. وإعادة قراءتها اليوم هي جزء من استكمال هذه الأداة، لا من نقض المحاولة.

تُعدّ مسألة التحالفات المحور الأكثر إشكالية في الوثيقة التأسيسية الثالثة، ليس لأنها طُرحت خطأً، بل لأنها طُرحت في لحظة لم تكن فيها بنية الدولة الريعية–المكوناتية قد انكشفت بعد بكل آلياتها. فقد جرى التعامل مع التحالف، آنذاك، بوصفه أداة سياسية يمكن توظيفها لتوسيع الحضور، والتأثير في القرار، وفتح مساحات للعمل داخل واقع مغلق. وهذا الفهم كان مفهومًا ضمن شروط ضغط واقعي شديد، لكنه يحتاج اليوم إلى إعادة إدراج بنيوي صارم.

فالتحليل البنيوي الشرطي يفرض هنا سؤالًا حاسمًا:
داخل أي حقل تتم التحالفات؟
في دولة تعمل بوصفها حقل إعادة إنتاج للسلطة الريعية، لا تكون التحالفات السياسية تقاطعات برامجية بريئة، بل تتحول، في الغالب، إلى آليات اندماج تدريجي في شبكات السلطة. فالحقل نفسه لا يسمح بعمل “محايد” داخله، وكل اقتراب من مركزه يفرض كلفة بنيوية على الفاعل الداخل إليه.

في الوثيقة الثالثة، طُرح أحيانًا وهمُ “التأثير من الداخل”، أي افتراض إمكانية تعديل مسار قوى مهيمنة أو شبكات سلطة عبر الانخراط الجزئي معها أو الضغط من داخلها. وإعادة القراءة هنا لا تُدين هذا الطرح أخلاقيًا، لكنها تُخضعه لتحليل واقعي صارم. فالتجربة العراقية، كما كشفتها السنوات اللاحقة، تُظهر أن منطق الشبكات أقوى من أي تأثير جزئي، وأن الداخل إلى هذه الشبكات غالبًا ما يُعاد تشكيله وفق قواعدها، لا العكس.

وهنا يظهر الفرق الجوهري بين التحالف بوصفه أداة صراع والتحالف بوصفه آلية احتواء. فالتحالف الأول يفترض وجود قوة اجتماعية وتنظيمية مستقلة نسبيًا، قادرة على فرض شروطها، أو على الأقل على الانسحاب من دون أن تُبتلع. أما التحالف الثاني، وهو الشكل الغالب في دولة ريعية–مكوناتية، فيفترض ضعفًا بنيويًا في الطرف الداخل، ما يجعل التحالف مسارًا أحادي الاتجاه نحو التكيّف.

كما تطرح إعادة القراءة ضرورة التمييز بين العمل المشترك والتحالف السياسي. فالعمل المشترك حول قضايا محددة، أو مطالب جزئية، أو معارك اجتماعية موضعية، لا يحمل المخاطر البنيوية نفسها التي يحملها التحالف السياسي طويل الأمد داخل بنية سلطة قائمة. والخلط بين هذين المستويين هو ما جعل بعض أطروحات الوثيقة الثالثة قابلة لأن تُقرأ لاحقًا بوصفها دعوة مفتوحة للاندماج، وهو ما لم يكن مقصودًا بالضرورة.

أما في ما يخص حدود الفعل السياسي الممكن، فقد سعت الوثيقة الثالثة إلى كسر خطاب العجز، والتأكيد على أن الفعل ممكن حتى في الشروط الصعبة. وهذا تأكيد صحيح ومهم. غير أن إعادة القراءة تفرض هنا تصويبًا دقيقًا: الفعل ممكن، نعم، لكن ليس كل فعل سياسي ممكنًا، وليس كل حضور في المشهد فعلًا تقدميًا. فبعض أشكال الحضور قد تعني إعادة إنتاج الهامش داخل المركز، لا كسره.

ومن هنا، يصبح من الضروري إعادة تعريف الفعل السياسي الممكن بوصفه فعلًا يبني شروطه ببطء، لا فعلًا يبحث عن نتائج سريعة. وهذا ما لم يكن ممكنًا تأكيده بقوة في لحظة كتابة الوثيقة الثالثة، حين كانت الحاجة إلى ردّ فعل مباشر ضاغطة. وإعادة القراءة اليوم تسمح لنا بالتمييز بين ما كان ضرورة تكتيكية آنذاك، وما أصبح وهمًا استراتيجيًا لاحقًا.

تصل إعادة القراءة في هذا القسم إلى لحظة الحسم عند تثبيت ما يبقى صالحًا من الوثيقة التأسيسية الثالثة، وتمييزه بدقة عمّا يجب تقييده أو رفع مستواه التحليلي. فالوثيقة الثالثة، أكثر من سواها، عُرضة لأن تُقرأ إما بوصفها تبريرًا للاندماج في القائم، أو بوصفها إعلان عجز تنظيمي. وإعادة القراءة هنا تهدف إلى قطع الطريق على القراءتين معًا.

أول ما يبقى صالحًا، وبلا تردد، هو رفض الانكفاء والعزلة. فالوثيقة الثالثة كانت محقّة في تشخيص أن الانسحاب إلى خطاب نخبوي معزول، أو الاكتفاء بنقد أخلاقي من الخارج، لا يشكّل سياسة، بل انسحابًا مقنّعًا. هذا الدرس يظل صحيحًا اليوم، وربما أكثر إلحاحًا، لأن الفراغ لا يبقى فراغًا، بل تملؤه دائمًا قوى تعمل بمنطق الشبكات والريع.

ثاني ما يبقى صالحًا هو الإصرار على الفعل داخل المجتمع، لا خارجه. غير أن ما يُرفع اليوم إلى مستوى أعلى هو فهم “المجتمع” نفسه. فالمجتمع ليس كتلة جاهزة تنتظر التنظيم، ولا ساحة مفتوحة للفعل الحر، بل فضاء مُعاد تشكيله عبر الخوف، والحاجة، والاعتماد على شبكات الحماية. والعمل داخله لا يعني الحضور الإعلامي أو الرمزي فقط، بل الاشتباك الطويل النفس مع شروط العيش اليومية، ومع مطالب جزئية يمكن أن تتحول، بالتراكم، إلى مداخل سياسية.

أما ما يحتاج إلى تقييد صارم فهو الحديث عن التحالفات السياسية. فالتحالف، كما تكشفه إعادة القراءة، لا يمكن أن يُطرح كأداة عامة أو خيار دائم. إنما يُفهم، إن وُجد، بوصفه إجراءً استثنائيًا، محدودًا زمنيًا وموضوعيًا، ومشروطًا بامتلاك حدّ أدنى من الاستقلال التنظيمي. وأي تحالف لا يستوفي هذه الشروط يتحول، في دولة ريعية–مكوناتية، إلى مسار احتواء لا إلى رافعة تغيير.

وفي ما يخص التنظيم، تبيّن إعادة القراءة أن الوثيقة الثالثة لم تكن تقدّم نموذجًا تنظيميًا محددًا، بل كانت تحاول فتح النقاش حول أشكال تنظيم ممكنة خارج القوالب الجامدة. وهذا يظل عنصر قوة فيها. غير أن ما يُضاف اليوم هو ضرورة ربط هذا النقاش بتحليل بنيوي يحدّد لماذا تفشل بعض الأشكال قبل أن تُجرَّب، ولماذا تنجح أشكال أخرى جزئيًا، ولماذا لا يمكن استيراد نماذج تنظيمية من سياقات مختلفة.

وبهذا المعنى، فإن التنظيم الممكن لا يُقاس بحجمه أو حضوره الإعلامي، بل بقدرته على الاستمرار، والتعلّم، وبناء الثقة في بيئات معادية. والتنظيم الذي لا يمتلك هذه الخصائص، مهما كانت نواياه راديكالية، يبقى عرضة للتفكك أو الاحتواء. وهذا ما لم يكن ممكنًا بلورته بالكامل في الوثيقة الثالثة، لكنه أصبح اليوم واضحًا بفعل التجربة.

وبهذا الإغلاق، يمكن القول إن الوثيقة التأسيسية الثالثة كانت محاولة جادة للإجابة عن سؤال الفعل في لحظة انسداد، لكنها لم تكن تمتلك بعد الأداة التحليلية الكافية لتمييز الضروري من الوهم. وإعادة قراءتها اليوم، عبر المنهج التشكيكي النقدي التجديدي، لا تُدينها، بل تضعها في موقعها الصحيح داخل مسار التطور.

إن ما يُستخلص من هذا القسم هو أن الفعل السياسي في العراق المعاصر لا يمكن أن يُبنى على الرغبة وحدها، ولا على الشجاعة وحدها، بل على فهم دقيق لشروط الحقل الذي نتحرك داخله. وهذا الفهم هو ما تسعى الوثيقة الخامسة، في مجملها، إلى ترسيخه: ليس لإغلاق أفق الفعل، بل لمنحه أرضية واقعية تمنع تحوّله إلى مغامرة أو تكيّف.

خاتمة الوثيقة الخامسة

إعادة القراءة بوصفها ارتقاءً منهجيًا لا استدارة سياسية

لا تُختَتم هذه الوثيقة بوصفها خلاصة رأي أو قرار سياسي جديد، بل بوصفها تثبيتًا لمنعطف منهجي واعٍ داخل مشروع إعادة التأسيس الشيوعي في العراق. فهي لا تقول “ماذا نفعل الآن؟” بقدر ما تقول: كيف نفكّر فيما نفعل، وكيف نقرأ ما فعلناه، وكيف نمنع أنفسنا من تكرار الأخطاء ذاتها بأدوات لغوية جديدة.

لقد بيّنت هذه الوثيقة، عبر إعادة قراءة الوثائق التأسيسية الثلاث، أن الإشكال المركزي لم يكن في النوايا، ولا في المواقف العامة، ولا حتى في تشخيص العدو، بل في مستوى التحليل الذي كانت تتيحه اللحظة التاريخية آنذاك. وما بدا لاحقًا لبعض القرّاء تناقضًا أو استدارة أو تراجعًا، يتبيّن، في ضوء التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات، أنه تطور طبيعي في أداة الفهم، لا انقلاب على الذات.

إن الوثائق التأسيسية الثلاث أدّت وظائفها التاريخية على نحو مشروع:
الأولى سمّت الأزمة وكسرت الصمت.
الثانية حاولت فتح أفق سياسي وطني.
الثالثة اشتبكت مع سؤال الفعل والتنظيم.

غير أن الزمن، والتجربة، وتحوّلات الدولة، وانكشاف منطق الريع والمكوناتية والشبكات، فرضت الانتقال من مستوى التسمية السياسية إلى مستوى التفكيك البنيوي، ومن لغة الموقف إلى لغة الأداة. وهذا الانتقال لم يكن ممكنًا القفز إليه من البداية، ولا يمكن إنكاره اليوم من دون الوقوع في الجمود.

إن أهم ما أنجزته الوثيقة الخامسة هو أنها فصلت بين النص وتاريخه من دون فصله عن مساره. فلم تُقدَّم الوثائق السابقة بوصفها أخطاء يجب تصحيحها، ولا بوصفها نصوصًا مكتملة يجب الدفاع عنها، بل بوصفها محطات في مسار تفكير حيّ. وهذا الفصل هو ما يحصّن المشروع من تهمتين قاتلتين: تهمة التناقض، وتهمة الجمود.

كما أكدت هذه الوثيقة أن النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية ليس “موقفًا ثالثًا” ولا تلفيقًا بين مدارس، بل ممارسة معرفية صارمة ترفض الاختزال من أي جهة أتى:
ترفض الاختزال الاقتصادي الميكانيكي،
وترفض الاختزال الثقافوي،
وترفض أيضًا الاختزال السياسي الأخلاقي.

وهي، في الوقت نفسه، تُبقي الصراع الاجتماعي في مركز التحليل، لكنها ترفض افتراض أشكاله أو وسائطه مسبقًا، وتصرّ على قراءته كما يعمل فعليًا داخل شروط تاريخية محددة.

بهذا المعنى، لا تُغلق الوثيقة الخامسة باب المراجعة، بل تؤسّس لها. فهي تضع معيارًا واضحًا:

كل نص يُنتَج لاحقًا، وكل وثيقة تُكتب، وكل موقف يُتخذ، يجب أن يكون قابلًا لإعادة القراءة، لا بوصفه ضعفًا، بل بوصفه شرط حياة.

ومن هنا، فإن ما يلي هذه الوثيقة ليس “تصحيحًا” للوثائق التأسيسية، بل إعادة إدراجها داخل مستوى وعي أعلى، عبر:
إضافات تفسيرية،
قيود منهجية صريحة،
وهوامش توضيحية،
من دون المساس ببنيتها الأصلية أو إعادة صياغتها.

وهكذا، يُغلق هذا النص لا بوصفه نهاية، بل بوصفه نقطة ضبط (Calibration) لمسار طويل، ندرك فيه أن الفكر الذي لا يراجع أدواته يتحول إلى عقيدة، وأن السياسة التي لا ترفع مستوى فهمها تعيد إنتاج ما تعارضه.



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ...
- الوثيقة الثالثة: تشخيصُ السيادة والدين والطبقة في عراق ما بع ...
- الوثيقة الثانية: تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- ماذا يريد الشيوعيون؟
- الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي ...
- لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
- العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د ...
- أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
- الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما ...
- التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
- من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
- قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
- الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
- هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
- الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
- التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض ...
- تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية ...
- الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
- الاشتراكية والثورة: هل يمكن التحرر دون سلطة؟ رد على أحمد الج ...


المزيد.....




- -كوشنر سيحضرها-.. مصدر يكشف لـCNN تفاصيل جديدة عن محادثات مي ...
- العدل الدولية تنظر في قضية الإبادة الجماعية بميانمار في يناي ...
- العقوبات على الجنائية الدولية.. هل تجهز واشنطن على القانون ا ...
- 3 شهداء وعدة مصابين في قصف مدفعي إسرائيلي على مبنى يؤوي نازح ...
- خبير عسكري: إسرائيل تعيق قدرة الجيش اللبناني على نزع السلاح ...
- لماذا توصف المرحلة الثانية من اتفاق غزة بأنها الأكثر تعقيدا؟ ...
- الحب وترامب والغرب و3 ملايين سؤال.. عرض لوقائع وكواليس مؤتمر ...
- ساحل جزيرة هرمز الإيرانية يتحول إلى اللون القرمزي الداكن.. ش ...
- -من فوق جبل قاسيون-.. من هم القادة الذين شكرهم أحمد الشرع بع ...
- رئيس الوزراء المصري في بيروت.. القاهرة تدين الانتهاكات الإسر ...


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث في ضوء التحليل البنيوي الشرطي المتعدد المستويات