أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للحزب















المزيد.....



الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للحزب


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 15:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


دراسة في الاقتصاد السياسي والتحليل الطبقي ونقد مفهوم المدنية في سياق الدولة الريعية (2003–2025)

د. علي عبد الرضا إطبله
26 كانون الأول/ديسمبر 2025

الفصل الأول: المقدّمة

تشهد التجربة السياسية في العراق منذ عام 2003 حالةً مركّبة من التعددية الشكلية والاختناق البنيوي في آنٍ معاً. فمن جهة، أُقرت دساتير وقوانين انتخابية تنظم العملية السياسية وتؤسس لآليات تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع. ومن جهة أخرى، نشأت بنيات سياسية–اقتصادية متشابكة أعادت إنتاج النفوذ داخل الدولة والمجتمع بطرقٍ تجعل العملية الانتخابية عاجزةً — في كثير من الأحيان — عن إحداث تغييرٍ نوعي في موازين القوى الفعلية. وفي هذا السياق، جاءت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة لتكشف ليس فقط عن الأزمة العامة للنظام السياسي، بل أيضاً عن أزمة داخلية يعاني منها الحزب — بوصفه أحد أهم الفاعلين المدنيين واليساريين في العراق — حيث بدا تأثيره الانتخابي محدوداً بصورة لافتة تستحق دراسة تحليلية معمّقة.

ولا تسعى هذه الدراسة إلى قراءة الأزمة بوصفها واقعة انتخابية عابرة، أو خطأً تنظيمياً يمكن تجاوزه عبر تحسين الخطاب الدعائي أو أدوات التعبئة السياسية. بل تنطلق من فرضيةٍ مركزية مفادها أنّ أزمة الحزب — كما تكشفها نتائج الانتخابات — هي تعبير عن تفاعل معقد بين الاقتصاد الريعي، والتحولات الطبقية، والبنية المؤسسية للعملية الانتخابية، ومفهوم المدنية ذاته بوصفه إطاراً سياسياً وفكرياً. ومن ثمّ فإن أي مقاربة جادة للأزمة ينبغي أن تتجاوز النقد الأخلاقي أو الإجرائي إلى تحليلٍ بنيويٍّ أعمق يربط بين الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، والسياسة.

وتسعى الدراسة إلى معالجة هذه الإشكالية ضمن إطار الاقتصاد السياسي للدولة الريعية، الذي يرى أن اعتماد الدولة على الريع الخارجي — وفي مقدّمته النفط — يغيّر طبيعة العلاقة بينها وبين المجتمع، ويؤثر في مسار تشكل الطبقات الاجتماعية وشبكات النفوذ السياسي (Bernard 2015). كما تستند إلى التحليل الطبقي الذي يسعى إلى فهم المواقع الاجتماعية للفئات المختلفة ضمن علاقات الإنتاج والثروة، وإلى مقاربة نقدية لمفهوم “المدنية” بوصفه أحد المفاهيم الأكثر تداولاً في الخطاب السياسي المعاصر، ولكن أيضاً من أكثرها تعرّضاً للتشويش الدلالي والتوظيف الخطابي.

وتأتي هذه الدراسة كذلك امتداداً لحوارٍ فكري–وطني مفتوح شارك فيه عدد من الرفاق — وفي مقدمتهم الرفيق جاسم الحلفي — عبر مقالات وتحليلات نقدية تناولت أزمات العملية الانتخابية، وصعود المال السياسي، وتراجع الثقة الشعبية، وانتشار ما يُسمّى بـ “مرشحي الصدفة”. غير أنّ الهدف هنا لا يتمثل في الردّ على هذه الطروحات أو مصادرتها، بل في تطوير نقاشٍ جدليٍّ متوازن يستفيد منها، ويعيد ربطها بالسياق الطبقي–الاقتصادي الأوسع.

ومن أجل الحفاظ على الدقة المفهومية والحساسية الوطنية، تعتمد الدراسة مصطلح «المكوّنات» بوصفه توصيفاً محايداً لبنية المجتمع العراقي، وتحرص على تجنّب أي لغةٍ قد تُفهم باعتبارها طعناً بأي مكوّن اجتماعي أو ثقافي أو ديني. فالتحليل موجّه إلى شبكات المصالح السياسية–الاقتصادية لا إلى الجماعات الاجتماعية ذاتها.

كما تعتمد الدراسة أسلوب الاستشهاد بنمط شيكاغو (Chicago Author–Date) داخل النص، باعتباره النمط الأكثر شيوعاً في المجلات الأكاديمية المحكمة. وتم توزيع الفصول على النحو الآتي:
الفصل الأول: المقدّمة — صياغة الإشكالية العلمية وتأطيرها.
الفصل الثاني: مراجعة أدبيات مختارة حول الدولة الريعية والسلوك الانتخابي.
الفصل الثالث: الإطار النظري — الاقتصاد السياسي والتحليل الطبقي.
الفصل الرابع: المنهجية النقدية–التشكيكية.
الفصل الخامس: السياق التاريخي للعملية الانتخابية (2005–2025).
الفصل السادس: التحولات الطبقية والبنية الاجتماعية في العراق المعاصر.
الفصل السابع: نقد مفهوم “المدنية” — من الشعار إلى المشروع الاجتماعي.
الفصل الثامن: الأزمة الداخلية للحزب على ضوء نتائج الانتخابات.
الفصل التاسع: قراءة نقدية في طروحات عدد من الرفاق — مع التركيز على الرفيق جاسم الحلفي.
الفصل العاشر: تحليل بيان الاجتماع الاستشاري الموسّع للحزب.
الفصل الحادي عشر: نحو مشروع مدني–يساري متجدد.
الخاتمة العامة.

وبذلك تحاول الدراسة تقديم قراءة علمية جادة تتوازن فيها الحساسية الوطنية مع الصرامة المنهجية، ويجري فيها النقد بوصفه فعلاً إصلاحياً يهدف إلى تجديد المشروع المدني–اليساري وإعادة وصلِه بقاعدته الاجتماعية الطبيعية، في مجتمعٍ تتقاطع فيه أزمات الاقتصاد والسياسة والتمثيل الانتخابي بصورة معقدة تستحق التفكيك والدراسة.

الفصل الثاني: مراجعة الأدبيات حول الدولة الريعية والسلوك الانتخابي

تُعدّ أدبيات الدولة الريعية إحدى أكثر المقاربات تأثيراً في تحليل النظم السياسية المعتمدة على الموارد الطبيعية، ولا سيما النفط. وقد قامت هذه المقاربة على فرضية مركزية مفادها أنّ اعتماد الدولة على دخلٍ ريعي خارجي لا ينتج عن نشاطٍ إنتاجي داخلي — كالنفط والغاز والمساعدات — يؤدي إلى تغيّرٍ جوهري في طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفي آليات تشكّل السلطة وبنية الاقتصاد (Bernard 2015). ففي الدول الريعية لا تعتمد السلطة السياسية على الجباية بوصفها المصدر الرئيس للإيرادات، ما يعني أن صلة المساءلة بين المجتمع والدولة تصبح أضعف، لأن القاعدة التاريخية القائلة بأن “لا ضرائب بلا تمثيل” تفقد الكثير من مدلولها العملي.

وتشير هذه الأدبيات إلى أنّ الريع النفطي يميل إلى خلق شبكات واسعة من التوزيع الريعي تشمل الرواتب الحكومية، والعقود، والمناصب الإدارية، وبرامج الدعم الاجتماعي، وغيرها من القنوات التي تتحول تدريجياً إلى أدواتٍ لإعادة إنتاج النفوذ السياسي. وبهذا المعنى، لا تصبح السياسة مجالاً للتنافس البرنامجي بين رؤى وأفكار متباينة فحسب، بل مجالاً للتنافس على الولوج إلى موارد الدولة وتوزيعها. وتوضح دراسات الاقتصاد السياسي أنّ هذا النمط يقود غالباً إلى إضعاف القطاعات الإنتاجية، وتكريس التبعية المالية للدولة، وتعميق هشاشة المجتمع أمام تقلبات أسعار النفط (Habermas 1989؛ Bernard 2015).

أما فيما يتعلق بـ السلوك الانتخابي في الدول الريعية، فتذهب الأدبيات إلى أنّ التصويت لا يتحدد غالباً وفق الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار أو بين البرامج الاقتصادية المختلفة، بل يتأثر إلى حدٍّ كبير بـ موقع الفرد أو الجماعة من شبكات الوصول إلى الريع. فشرائح واسعة قد ترى في التصويت مساراً للحفاظ على موارد أو امتيازات قائمة، فيما قد ينظر آخرون إلى العملية الانتخابية بوصفها آلية ضعيفة الجدوى للتغيير البنيوي، الأمر الذي يفسّر ـ جزئياً ـ ظاهرة العزوف الانتخابي أو التصويت الاحتجاجي في كثير من الدول ذات الاقتصادات الريعية.

كما تشير الأدبيات إلى أنّ الإعلام السياسي، في هذه السياقات، لا يعمل بوصفه فضاءً محايداً للنقاش العام، بل يصبح جزءاً من بنية النفوذ ذاتها، عبر امتلاكه أو تمويله من قوى سياسية–اقتصادية قادرة على التأثير في تشكيل الرأي العام وتوجيه السلوك الانتخابي. وهذا بدوره يخلق لا تكافؤاً هيكلياً في فرص المنافسة، بحيث لا تقف القوى المدنية واليسارية — على سبيل المثال — على أرضية متساوية مع القوى المتمكنة مالياً وإعلامياً وتنظيمياً.

وتبرز في الأدبيات كذلك مناقشات واسعة حول العلاقة بين الدولة الريعية والديمقراطية الانتخابية. فبينما لا تنفي هذه الدراسات إمكان قيام انتخابات دورية وتعددية حزبية في الدول الريعية، فإنها تؤكد أنّ جوهر العملية السياسية يظل مقيداً بالبنية الاقتصادية، وأنّ الانتخابات قد تتحول — في بعض الحالات — إلى آلية لإدارة التوازنات داخل النخب أكثر من كونها وسيلةً فعليةً لتجديد التمثيل السياسي أو إعادة توزيع السلطة اجتماعياً (Tilly 2004).

ومن هذا المنظور، يمكن القول إن فهم نتائج الانتخابات في العراق لا يستقيم دون إدراجها في سياق الدولة الريعية، والتحولات الطبقية المرتبطة بها، وتقاطع ذلك مع بنية قانونية–إجرائية للانتخابات كثيراً ما تعرّضت للتعديل دون أن تمسّ الجذور الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة فيها. وهنا يأتي دور هذه الدراسة لتصل بين المستوى البنيوي الاقتصادي والمستوى السياسي التنظيمي، خصوصاً فيما يتعلق بأزمة الحزب وتأثيرها في المشهد المدني–اليساري العراقي.


الفصل الثالث: الإطار النظري — الاقتصاد السياسي والتحليل الطبقي

يُعد الاقتصاد السياسي أحد أهم المداخل النظرية لفهم العلاقة المتشابكة بين الدولة والمجتمع والموارد والسلطة. فبدلاً من التعامل مع الظواهر السياسية على أنها نتاج لإراداتٍ فردية أو صراعاتٍ خطابية فحسب، يؤكد هذا المدخل أن طبيعة النظام الاقتصادي ومصادر الثروة وأنماط توزيعها تشكّل الإطار الأعمّ الذي تتبلور داخله أنماط السلوك السياسي والتحالفات الاجتماعية والتوازنات الطبقية (Bernard 2015). وعليه، فإن فهم الانتخابات، والأحزاب، والخطاب المدني، لا يمكن فصله عن طبيعة الاقتصاد الريعي الذي يقوم عليه العراق المعاصر.

وتنطلق هذه الدراسة من أنّ الاقتصاد الريعي لا يُنتج فقط مؤشراتٍ مالية أو تنموية معينة، بل يخلق بنية اجتماعية–سياسية متفردة، حيث تتركز الموارد في يد الدولة، وتتوزع عبر قنوات متعددة تشمل الرواتب الحكومية، والمقاولات، والعقود، والرعاية الاجتماعية، والامتيازات الإدارية. ومع مرور الزمن، تتحول هذه القنوات إلى شبكات مصالح سياسية–اقتصادية تؤثر مباشرة في تشكيل التحالفات، وتحدد إلى حد كبير من يملك القدرة على الوصول إلى السلطة أو التأثير فيها.

ومن جهة أخرى، يعتمد هذا البحث على التحليل الطبقي بوصفه أداة نظرية لفهم مواقع الفئات الاجتماعية المختلفة داخل هذه البنية. فالطبقة هنا لا تُفهم بوصفها تصنيفاً ثقافياً أو أخلاقياً، بل بوصفها موقعاً موضوعياً داخل علاقات الإنتاج والوصول إلى الموارد والثروة. ومن ثمّ، فإن الشرائح المرتبطة مباشرة بموارد الدولة — عبر التوظيف العام أو الامتيازات أو العقود — تمتلك مصلحة موضوعية في استقرار قنوات توزيع الريع، حتى وإن كانت غير راضية عن أشكال الإدارة أو الفساد أو سوء الخدمات.

وفي المقابل، تتسع داخل المجتمع شرائح أخرى تعيش على هامش هذه القنوات، مثل العاملين في الاقتصاد غير الرسمي، والشرائح الفقيرة أو العاطلة عن العمل، إضافة إلى أجزاء واسعة من الطبقة الوسطى المتآكلة التي فقدت جزءاً من أمنها الاقتصادي والاجتماعي. وتميل هذه الفئات إلى فقدان الثقة بالعملية الانتخابية كلما تزايد إحساسها بأن نتائج الانتخابات — مهما تغيّرت القوائم والأسماء — لا تُحدث تحولاً ملموساً في شروط حياتها اليومية أو في بنية توزيع الثروة والفرص.

يضاف إلى ذلك أنّ القوى المدنية واليسارية — ومنها الحزب موضوع هذه الدراسة — حاولت تقليدياً التوجه نحو الطبقة الوسطى المتعلمة، والشرائح العاملة، والفئات الاجتماعية المتضررة من الاستغلال والاحتكار والفساد. غير أنّ البنية الريعية — في صورتها الحالية — أضعفت القاعدة الاجتماعية التاريخية لهذه القوى عبر تفتيت سوق العمل، وتوسيع الفوارق بين الفئات، وخلق حالة من الاعتمادية الاقتصادية على الدولة، الأمر الذي جعل بناء قواعد اجتماعية مستقرة مهمةً شاقة ومعقدة.

ويتيح لنا هذا الإطار النظري الجمع بين مستويين من التحليل:
المستوى البنيوي–الاقتصادي
الذي يدرس دور الريع في تشكيل الدولة والسلطة والنفوذ.
المستوى الاجتماعي–الطبقي
الذي يدرس كيف يعيد الريع تشكيل الوعي والمواقف والسلوك الانتخابي،
ومن ثمّ إعادة إنتاج السلطة السياسية عبر الانتخابات ذاتها (Tilly 2004).

وبذلك، لا تُفهَم أزمة الحزب الانتخابية بوصفها مجرد ضعف تعبوي أو تنظيمي، بل بوصفها نتيجةً لهذا التفاعل المركب بين الاقتصاد الريعي، والتحولات الطبقية، ومحدودية التنافس الانتخابي المتكافئ، وتآكل المساحات المستقلة داخل المجال العام (Habermas 1989). وهنا تكتسب الدراسة معناها التحليلي: إحلال القراءة البنيوية محل التفسير الأخلاقي أو الانطباعي للأزمة.

كما يسمح هذا الإطار بفهمٍ أعمق لمفهوم «المدنية» ذاته. فإذا كان هذا المفهوم يعني — في أحد مستوياته — بناء دولة قانون ومؤسسات وفصل سلطات، فإنه لا ينفصل — في مستواه الأعمق — عن القواعد الاجتماعية–الاقتصادية التي تقوم عليها هذه الدولة. ومن ثمّ، فإن مشروعاً مدنياً لا ينفتح على العدالة الاجتماعية وإعادة التوازن الطبقي سيظل مهدداً بأن يتحول إلى خطاب أخلاقي بلا قاعدة اجتماعية متينة — أو إلى عنوان واسع قابل للتوظيف من قوى متباينة المصالح.

وباختصار، يقوم الإطار النظري لهذا البحث على فكرة مركزية مفادها أنّ:

الأزمة السياسية–الانتخابية للحزب هي انعكاس لأزمةٍ أوسع في بنية الدولة الريعية، والتحولات الطبقية، ومحدودية التنافس الانتخابي المتكافئ، والتباسات مفهوم المدنية ذاته.

وهذا ما سيجري تفصيله في الفصول اللاحقة عبر مزيدٍ من التحليل التاريخي والتطبيقي.


الفصل الرابع: المنهجية — المنظور النقدي–التشكيكي وأدوات التحليل

تعتمد هذه الدراسة منهجاً نقدياً–تشكيكياً يقوم على مساءلة المسلّمات الراسخة في الخطاب السياسي حول الديمقراطية والانتخابات والعمل الحزبي، ومحاولة إعادة تركيبها ضمن سياق الاقتصاد السياسي والتحولات الطبقية. ولا يعني هذا المنهج تبنّي موقفٍ عدمي أو رفضٍ شاملٍ للممارسة الانتخابية، بل يسعى إلى كشف الحدود البنيوية التي تحكمها، وإلى تمييز ما هو ممكن فعلاً ضمن بيئةٍ سياسية–اقتصادية محددة عمّا يُقدَّم — أحياناً — بوصفه “إمكاناً مفتوحاً” غير مشروط.

ويستند هذا المنهج إلى عدة مرتكزات أساسية:

1. تحليل السياق لا النصّ وحده
فلا يُقرأ خطاب الحزب أو مقالات الرفاق — وفي مقدمتهم الرفيق جاسم الحلفي — بوصفها مجرّد مواقف فكرية معزولة، بل بوصفها نتاجاً لسياق اجتماعي–اقتصادي محدد، يتداخل فيه الريع النفطي، والتحولات الطبقية، وطبيعة المجال العام والإعلام السياسي. ومن ثمّ فإن أي نقد لهذه الخطابات ينبغي أن يظل جزءاً من نقد السياق، لا استهدافاً شخصياً للمنتجين لها.

2. الجمع بين التحليل التاريخي–الوصفي والتحليل البنيوي
إذ تعتمد الدراسة على قراءةٍ تاريخية لمسار العملية الانتخابية منذ عام 2005، مع تحليلٍ بنيويٍّ لدور الريع والتحولات الطبقية. وهذا الجمع ضروري حتى لا يسقط البحث في اختزال الاقتصاد في التاريخ أو العكس، بل يربط الماضي بالحاضر داخل إطار تفسيري متكامل.

3. الحساسية المفهومية تجاه المكوّنات
تلتزم الدراسة مصطلح «المكوّنات» بوصفه توصيفاً محايداً لبنية المجتمع العراقي المتنوع، وتحرص على أن يكون النقد موجهاً إلى شبكات المصالح السياسية–الاقتصادية وليس إلى الجماعات الاجتماعية ذاتها. وهذا خيارٌ أخلاقي وعلمي في آنٍ معاً.

4. استخدام أسلوب الاستشهاد بنمط شيكاغو (Author–Date)
حيث تُدمج الإشارات المرجعية داخل النص، وتُدرج قائمة المراجع في نهاية البحث، بما ينسجم مع المتطلبات القياسية للمجلات الأكاديمية المحكمة.

أدوات التحليل المستخدمة
تعتمد الدراسة على ثلاث مجموعات رئيسية من أدوات التحليل:

أ. تحليل البنية الطبقية والاجتماعية
وذلك عبر رصد التحولات التي أصابت:
الشرائح المرتبطة بموارد الدولة
العاملين في الاقتصاد غير الرسمي
أجزاء الطبقة الوسطى
الفئات الشابة والبطالة
الفئات المهمشة اقتصادياً واجتماعياً

مع محاولة فهم كيف يؤثر موقع هذه الفئات من الريع والدولة في مواقفها من الانتخابات والأحزاب.

ب. تحليل الخطاب المدني–السياسي
من خلال قراءة نقدية لنصوصٍ ومقالاتٍ لعددٍ من الرفاق — وفي مقدمتهم الرفيق جاسم الحلفي — مع التركيز على:
مفردات الخطاب
افتراضاته النظرية
تمثّله لمفهوم المدنية
قراءته للانتخابات
علاقته بالبنية الطبقية

مع التأكيد أنّ هذا التحليل ليس هجوماً على الأشخاص، بل تفكيكاً للأفكار ضمن سياقها.

ج. تحليل نتائج الانتخابات ودلالاتها
ليس من حيث الأرقام فقط، بل من حيث ما تكشفه هذه النتائج عن حدود المشروع المدني–اليساري في ظل الدولة الريعية، وعن أزمة الحزب التنظيمية والاجتماعية التي أظهرتها النتائج بصورة أكثر وضوحاً.

حدود الدراسة
تعترف الدراسة بأن لها حدوداً بحثية، أهمها:
محدودية الوصول إلى بعض البيانات الكمية الدقيقة
صعوبة قياس التحولات الطبقية بدقة بسبب هشاشة الإحصاءات الرسمية
تشابك العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية بما يصعّب الفصل بينها تماماً

لكنها — رغم ذلك — تسعى إلى تطوير قراءة تفسيرية عقلانية متماسكة تستند إلى أدوات الاقتصاد السياسي والتحليل الطبقي.

هدف المنهج
الغاية النهائية من هذا المنهج ليست فقط تشخيص الأزمة الداخلية للحزب، وإنما أيضاً:

إعادة بناء السؤال المدني–اليساري داخل المجتمع العراقي على أسسٍ اجتماعية–اقتصادية واضحة،
بعيداً عن التبسيط والخطاب الشعاراتي.

وبذلك يكون المنهج النقدي–التشكيكي — كما نستخدمه هنا — وسيلة إصلاح لا وسيلة هدم، وفضاءً للحوار الهادئ والمسؤول بين الرفاق والتيارات الفكرية المختلفة.

الفصل الخامس: السياق التاريخي للعملية الانتخابية في العراق (2005–2025)

تمثل الانتخابات في العراق، منذ عام 2005 وحتى 2025، سلسلةً من التحولات السياسية التي جرت جميعها داخل إطار دولةٍ ريعيةٍ آخذة في التشكل بعد عقود من الحروب والعقوبات والاضطرابات. ولا يمكن فهم أي قراءة نقدية لأزمة الحزب أو لضعف فاعلية المشروع المدني–اليساري دون تتبّع المسار التاريخي لهذه الانتخابات، ليس بوصفها أحداثاً سياسية معزولة، بل بوصفها محطات متتالية لإعادة تنظيم النفوذ السياسي والاجتماعي في ظل اقتصاد يعتمد بصورة شبه كاملة على الموارد النفطية.

1. انتخابات 2005: التأسيس في ظل الانقسام والصراع
جرت الانتخابات الأولى في مناخٍ يتسم بحدة الاستقطاب، وغياب الاستقرار الأمني، وضعف مؤسسات الدولة. وقد طغى على العملية الانتخابية آنذاك البعد الهوياتي والسياسي–الأمني، فيما كانت المشاركة السياسية مشروطة إلى حدٍّ كبير بالقدرة على الحركة والتنظيم والحماية. ونتيجة لذلك، تشكّلت الكتلة الناخبة بصورة غير متكافئة، ما انعكس على بنية التمثيل السياسي داخل مجلس النواب.
في هذا السياق، برزت القوى التقليدية الأكثر قدرةً على التنظيم والحشد، فيما كانت القوى المدنية واليسارية محدودة التأثير بحكم ضعف الموارد، وتشتت القاعدة الاجتماعية، وهيمنة البعد الأمني–الهوياتي على السلوك الانتخابي.

2. انتخابات 2010 و2014: رسوخ شبكات النفوذ
مع تحسّن نسبي في الوضع الأمني واستمرار الاعتماد على الريع النفطي، بدأت تتبلور شبكات مصالح سياسية–اقتصادية أكثر رسوخاً داخل مؤسسات الدولة. وقد تزامن ذلك مع توسّع التوظيف الحكومي، وارتفاع الموارد النفطية في بعض السنوات، مما عزز من اعتمادية شرائح واسعة على الدولة معاشياً.
في هذه المرحلة، لم تعد الانتخابات مجرد تنافس سياسي، بل أصبحت في أحد وجوهها آلية لإعادة توزيع الريع عبر القنوات السياسية. ومع رسوخ هذه البنية، صارت فرص القوى المدنية واليسارية أكثر هشاشة، لأن المنافسة البرنامجيّة البحتة أصبحت أقل تأثيراً من القدرة على الوصول إلى الموارد وتنظيم شبكات الدعم.

3. انتخابات 2018: ذروة العزوف وتراجع الثقة
مثّلت انتخابات 2018 نقطة تحوّل مهمة؛ إذ شهدت تراجعاً ملحوظاً في نسب المشاركة، بما يعكس ازدياد الشك في جدوى العملية الانتخابية ذاتها. وقد ترافق ذلك مع شعورٍ واسع بأن التداول الانتخابي لا يقود إلى تغييرٍ جوهري في إدارة الدولة أو توزيع النفوذ السياسي–الاقتصادي.
القوى المدنية حققت حضوراً ملحوظاً في الشارع، لكن هذا الحضور لم يتحول بالكامل إلى كتلة انتخابية صلبة بسبب طبيعة البنية الانتخابية، وتشتت الخطاب المدني، ومحدودية الأدوات التنظيمية.

4. انتخابات 2021: بين الاحتجاج والتمثيل
بعد حركة احتجاج واسعة طالبت بالإصلاح والعدالة والوظائف ومكافحة الفساد، جاءت انتخابات 2021 لتعكس التناقض بين الحراك الاجتماعي والطابع المؤسسي للعملية السياسية. فبينما ظهر واضحاً عمق الأزمة الاجتماعية، فإن القدرة الحقيقية على ترجمة هذا الحراك إلى تغيير انتخابي واسع بقيت محدودة، لأسباب تتعلق بـ:
طبيعة القانون الانتخابي
تشتت القوى المدنية
ومحاولات استيعاب المطالب داخل بنية النظام السياسي دون تغيير جذري فيه

5. انتخابات 2025: تكثيف الأزمة
مع حلول انتخابات 2025، بدت ملامح الأزمة أكثر وضوحاً:
العزوف الانتخابي اتسع بوصفه شكلاً من أشكال الاحتجاج السلبي
شبكات النفوذ السياسي–الاقتصادي أصبحت أكثر رسوخاً
الثقة بالتمثيل البرلماني تراجعت لدى شرائح واسعة
والقوى المدنية — ومنها الحزب — واجهت حدوداً متزايدة للتأثير الانتخابي المباشر

هذه النتيجة لا يمكن عزلها عن السياق الريعي العام، حيث تتحول الانتخابات تدريجياً إلى آلية لإدارة النفوذ داخل الدولة، أكثر من كونها آلية لإعادة توزيع السلطة اجتماعياً (Bernard 2015؛ Tilly 2004). ومع مرور الوقت، يصبح الوصول إلى مجلس النواب نفسه مشروطاً بقدرات تنظيمية وإعلامية ومالية لا تتوفر عادةً للقوى المدنية–اليسارية بالدرجة ذاتها التي تتوفر فيها للقوى المرتبطة بشبكات النفوذ.

6. ما الذي يعنيه هذا المسار تاريخياً؟
يكشف هذا المسار عن ثلاث حقائق أساسية:
أن العملية الانتخابية تعمل داخل بنية ريعية لا خارجها، ولذلك تتأثر بميزان الوصول إلى الموارد أكثر من تأثرها بالتنافس البرنامجي الخالص.
أن التحولات الطبقية والاجتماعية — ولا سيما تآكل الطبقة الوسطى وتوسع الاقتصاد غير الرسمي — قد أضعفت القاعدة الاجتماعية التقليدية للقوى المدنية واليسارية.
أن الثقة الشعبية بالانتخابات تراجعت تدريجياً، ما خلق فجوة بين الشارع والقوى السياسية، انعكست مباشرةً على قدرة الحزب على تحقيق نتائج انتخابية ملموسة.

وبذلك، لا تكون أزمة الحزب انعكاساً لأخطائه الداخلية وحدها — وإن كانت موجودة ومؤثرة — بل نتيجةً لتفاعلٍ بنيوي أعقد بين الدولة الريعية، والطبقات الاجتماعية، والسلوك الانتخابي، وبنية النظام السياسي ذاته.

الفصل السادس: التحولات الطبقية والبنية الاجتماعية في العراق المعاصر

لا يمكن فهم تطور السلوك الانتخابي في العراق، ولا أزمة الحزب بوصفه أحد المكونات الأساسية للمشهد المدني–اليساري، دون تحليلٍ عميقٍ للتحولات التي أصابت البنية الطبقية والاجتماعية خلال العقدين الأخيرين. فالعراق، بوصفه دولةً ريعية تعتمد بصورة رئيسية على النفط، شهد سلسلة من التحولات التي أعادت تشكيل علاقات الإنتاج، وأنماط العيش، ومصادر الدخل، وبالتالي أعادت تشكيل المصالح الموضوعية للفئات الاجتماعية المختلفة، ومنها موقفها من الانتخابات والعمل الحزبي.

1. الطبقات المرتبطة مباشرةً بموارد الدولة
توسّعت، منذ عام 2003، شرائح اجتماعية أصبح دخلها يرتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بموارد الدولة، عبر:
الوظائف الحكومية
المقاولات والعقود
الامتيازات الإدارية
الرواتب التقاعدية
برامج الرعاية الاجتماعية
أشكال متعددة من التحويلات المالية

وقد أسهم ارتفاع أسعار النفط في سنوات عديدة في توسيع هذه الشريحة وتعميق اعتمادها على الدولة معاشياً. ومع أنّ هذا الارتباط لا يلغي التفاوت داخل هذه الشريحة، فإنه يخلق — بمرور الزمن — حساسية خاصة تجاه الاستقرار المؤسسي للدولة وقنوات توزيع الريع.

وهذا يعني — في السياق الانتخابي — أنّ جزءاً مهماً من هذه الطبقات قد يميل إلى:
الحفاظ على البنى القائمة التي تضمن استمرار تدفق الريع
أو دعم القوى الأكثر قدرة على حماية هذه القنوات

حتى إن كانت تلك القوى لا تمثل بالضرورة طموحاً تحوّلياً أو إصلاحياً جذرياً.

وبهذا المعنى، تصبح المنافسة الانتخابية مرتبطة — جزئياً — بالقدرة على تقديم ضمانات مباشرة أو غير مباشرة لهذه الشرائح، وليس فقط بالبرامج الإصلاحية أو المدنية العامة.

2. توسّع الاقتصاد غير الرسمي وهشاشة العمل
بالتوازي مع ذلك، شهد العراق اتساعاً كبيراً للاقتصاد غير الرسمي، الذي يعمل فيه ملايين المواطنين خارج منظومات الحماية الاجتماعية والضمانات القانونية. وتشمل هذه الفئة:
العمالة اليومية
الأعمال الصغيرة غير المسجلة
الباعة المتجولين
العمل المنزلي والخدمي غير الرسمي
أشكال العمل الهجين بين الرسمي وغير الرسمي

وتتميز هذه الفئة بـ:
غياب الأمان الوظيفي
تقلب الدخل
ضعف القدرة التفاوضية
هشاشة الانتماء المؤسسي

هذه الشريحة، بحكم هشاشتها الاقتصادية، لا ترى في الانتخابات قناة مباشرة لتحسين شروط حياتها، خاصة في ظل غياب سياسات اجتماعية واضحة أو ضمانات عمل مستقرة.

ومن ثمّ، فإن العزوف الانتخابي يصبح — بالنسبة لها — ليس مجرد موقفٍ سياسي، بل انعكاساً لشعورٍ عميقٍ بالهامشية داخل النظام الاقتصادي والاجتماعي ككل.

3. تآكل الطبقة الوسطى وإعادة تشكّلها
لطالما كانت الطبقة الوسطى — في تاريخ كثير من البلدان — قاعدةً اجتماعية مهمة للقوى المدنية واليسارية والتقدمية. غير أنّ هذه الطبقة في العراق تعرّضت خلال العقدين الأخيرين إلى:
ضغط اقتصادي نتيجة التضخم
تذبذب الدخل
ارتفاع كلفة الحياة
ضعف جودة الخدمات العامة
تراجع الأمان الوظيفي المهني
الهجرة الأكاديمية والطبية والثقافية

وبدلاً من طبقة وسطى مستقرة ذات هوية اقتصادية وثقافية واضحة، بدأنا نرى تشظياً داخل هذه الطبقة بين:
فئات استفادت من مواقعها داخل الدولة أو الاقتصاد الريعي
وفئات فقدت مكانتها وتراجعت إلى حدود الهشاشة الاقتصادية

وهذا التشظي انعكس على السلوك السياسي، إذ لم تعد الطبقة الوسطى كتلة اجتماعية موحدة يمكن للقوى المدنية أن تخاطبها بسهولة.

4. الشباب والأجيال الجديدة: بين الطموح والإحباط
يشكل الشباب نسبة كبيرة من المجتمع العراقي، لكن هذه الفئة واجهت:
بطالة مرتفعة
فرصاً محدودة للاستقرار المهني
نظاماً تعليمياً وخدماتياً مضغوطاً
فضاءً عاماً تضيق فيه قنوات المشاركة الفعالة

في ظل ذلك، أصبح جزء مهم من الشباب ميالاً إما للاحتجاج غير المؤطر تنظيمياً، أو للعزوف السياسي كنوع من الرفض الصامت. وهذه ظاهرة رأينا ملامحها في السنوات الأخيرة.

القوى المدنية — ومنها الحزب — لم تنجح دائماً في تحويل هذا الوعي الاحتجاجي إلى تنظيمٍ اجتماعي مستقر، partly بسبب هشاشة الأدوات التنظيمية، partly بسبب بنية الدولة الريعية التي لا تكافئ العمل السياسي الجماعي المستقل بقدر ما تكافئ الفردية والبحث عن فرص داخل قنوات الريع.

5. أثر هذه التحولات على الحزب والمشروع المدني–اليساري
هذه التحولات الطبقية والاجتماعية لها انعكاسات مباشرة على الحزب، أهمها:

أولاً: تضييق القاعدة الاجتماعية الطبيعية
فالقوى المدنية–اليسارية تاريخياً تتوجه إلى:
العمال
الطبقة الوسطى
الفئات المتضررة من عدم العدالة الاجتماعية

لكن هذه الفئات نفسها أصبحت:
إما مرتبطة بقنوات الريع
أو هشة اقتصادياً واجتماعياً وغير مستقرة
أو مفتتة وغير متماسكة تنظيمياً

مما يجعل بناء قاعدة حزبية مستقرة مهمة شاقة للغاية.

ثانياً: انفصال الخطاب المدني عن الواقع الاجتماعي أحياناً
حين يتحول خطاب المدنية إلى لغةٍ قيمية عامة غير مرتبطة بمطالب اقتصادية–اجتماعية ملموسة، فإنه يفقد قدرته على التعبئة الواسعة، ويظل محصوراً في دوائر ثقافية محدودة.

ثالثاً: ميل العزوف الانتخابي لتقويض فرص الحزب أكثر من غيره
لأن القوى المرتبطة بالريع تمتلك:
شبكات تنظيمية
أدوات حشد
موارد مالية وإعلامية

بينما يفقد الحزب نسبةً أكبر من ناخبيه المحتملين بسبب اليأس أو اللامبالاة أو الإحباط السياسي.

خلاصة هذا الفصل
يمكن تلخيص التحولات الطبقية والاجتماعية في العراق خلال العقدين الأخيرين في النقاط الآتية:
توسّع الارتباط المباشر بموارد الدولة
اتساع الاقتصاد غير الرسمي والهشاشة الاجتماعية
تآكل وتشظي الطبقة الوسطى
صعود جيلٍ شاب يعاني من ضعف القنوات السياسية الفاعلة
فقدان الثقة بالتمثيل الانتخابي لدى شرائح واسعة

وهذه كلها عوامل لا تعمل ضد الحزب فحسب، بل تعمل ضد أي مشروع مدني–يساري مستقل يسعى إلى إعادة بناء المجال العام على أسس العدالة الاجتماعية والحقوق الديمقراطية.

ومن ثمّ، فإنّ نتائج الانتخابات — بما فيها الانتخابات الأخيرة — ليست سوى تعبير عن هذه التحولات العميقة، لا سببها الوحيد ولا عرضاً جانبياً لها.


الفصل السابع: نقدُ مفهومِ «المدنية» — من الشِّعار إلى المشروعِ الاجتماعي

يُعدُّ مفهومُ «المدنية» أحد أكثر المفاهيم حضوراً في الخطاب السياسي العراقي خلال العقدين الماضيين. وقد ارتبط — في الوعي العام — بجملة من القيم مثل دولة القانون، وفصل السلطات، واحترام الحقوق والحريات، ومناهضة الفساد، ورفض العنف، والاحتكام إلى الآليات الديمقراطية. غير أنّ هذا الثراء الدلالي تحوّل — في كثير من الأحيان — إلى غموضٍ نظري وتوظيفٍ خطابي واسع جعلا المفهوم عرضةً للتأويلات المتباينة، بل والمتناقضة أحياناً، الأمر الذي يستوجب قراءة نقدية متأنية.

1. المدنية بوصفها خطاباً أخلاقياً عاماً
في جزءٍ مهم من التداول السياسي، تظهر «المدنية» بوصفها خطاباً أخلاقياً يركّز على قيم عامة مثل النزاهة، والشفافية، والسلم الأهلي، واحترام الاختلاف. وهذه القيم — بلا شك — ضرورية لأي مشروع ديمقراطي. غير أنّ الاكتفاء بها يجعل المدنية أشبه بـ«لغةٍ معيارية» لا ترتبط دائماً بالبنية الاجتماعية–الاقتصادية التي يجب أن تتجسّد فيها تلك القيم.

وبهذا المعنى، يمكن للمدنية أن تتحول — من حيث لا نقصد — إلى خطابٍ فوق اجتماعي، يبدو كما لو كان معلقاً في فضاء القيم، دون أن يجيب بوضوح عن أسئلة جوهرية مثل:
كيف تُعادُ هيكلة الاقتصاد بما يضمن العدالة الاجتماعية؟
ما موقع الفئات الفقيرة والهشة من المشروع المدني؟
كيف تتوازن الحريات السياسية مع الحقوق الاجتماعية؟
كيف تُبنى دولةُ مواطنةٍ داخل اقتصادٍ ريعيٍّ؟

وحين يغيب هذا البعد الاجتماعي–الاقتصادي، تصبح المدنية أقرب إلى «نصيحة أخلاقية» منها إلى مشروعٍ سياسي تاريخيّ قادر على التعبئة والتنظيم.

2. المدنية بين التعددية والاختزال
من نقاط قوة مفهوم المدنية أنه جامعٌ ومفتوحٌ نظريًا، ما يجعله صالحًا لتأسيس أرضية سياسية مشتركة. لكن هذه القوة تتحول إلى ضعف حين تُختزل المدنية إلى هوية سياسية ضيقة، أو حين تُستخدم كذراعٍ خطابي لنزع الشرعية عن منافسين سياسيين بوصفهم «غير مدنيين».

هذا الاستخدام — وإن كان في ظاهره دفاعاً عن قيمٍ نبيلة — قد يقود إلى:
استقطابٍ ثقافي بدلاً من الحوار الاجتماعي
ترميزٍ أخلاقيٍّ للسياسة (Civilized vs Non-civilized)
تجاهُلِ العوامل الطبقية والاقتصادية التي تشكّل السلوك السياسي

في هذه الحالة، تتآكل قدرة المدنية على أن تكون جسراً بين المكوّنات والفئات الاجتماعية المختلفة، وتتحول إلى عنوانٍ هويّاتي آخر، وهو ما يتعارض مع جوهرها.

3. المدنية والطبقة: حين ينفصل الخطاب عن القاعدة الاجتماعية
من منظور الاقتصاد السياسي، لا يمكن لأي مشروعٍ سياسي أن يترسخ دون قاعدة اجتماعية واضحة. وقد واجه خطاب المدنية — في السياق العراقي — مشكلة بنيوية تتمثل في غياب التحديد الطبقي لخطابه ومشروعه.

ففي كثير من الأحيان، تُطرح المدنية باعتبارها:
دعوة إلى دولة قانون
ومؤسسات شفافة
وانتخابات نزيهة
وحريات عامة

وكلها أهداف مشروعة ومطلوبة. لكنّ الفئات الهشّة اقتصادياً — من عمّالٍ وشرائحٍ عاملةٍ في الاقتصاد غير الرسمي، وشبابٍ عاطل — لا تجد في هذا الخطاب إجابة مباشرة عن أسئلة الخبز والعمل والسكن والعدالة الاجتماعية.

وبذلك، يحدث انفصال تدريجي بين:
مدنيةٍ بلا قاعدة اجتماعية
ومجتمعٍ بلا شعورٍ بأن المدنية تعبّر عن مصالحه المادية المباشرة

وهو انفصالٌ يضعف — موضوعياً — فرص القوى المدنية واليسارية في الوصول إلى تمثيلٍ انتخابي واسع ومستقر.

4. المدنية بين الاستقلال والتناظر داخل بنية الدولة الريعية
يواجه الخطاب المدني تحدياً إضافياً يتمثل في احتمال امتصاصه داخل بنية الدولة الريعية ذاتها. فحين تُطرح المدنية دون رؤيةٍ لمستقبل الريع، وعلاقته بالاقتصاد والإنتاج والعمل، فإنها قد تتحول — موضوعياً — إلى غطاءٍ إصلاحي ليبراليّ ناعم داخل بنيةٍ اقتصادية–سياسية لا تتغير جذرياً.

وبمعنى آخر:
يمكن للمدنية أن تتحول إلى «تجميلٍ نُظمي» بدلاً من أن تكون مشروعاً لإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس العدالة الاجتماعية.

وهذا لا يعني رفض المدنية، بل يعني التأكيد على أنّ المدنية لا تتحقق إلا حين تتجسد مادياً في سياساتٍ اجتماعية–اقتصادية عادلة، لا في لغةٍ معيارية وحدها.

5. موقع الحزب من مفهوم المدنية
يحمل الحزب — تاريخياً — رصيداً أخلاقياً وسياسياً كبيراً في الدفاع عن:
الحريات الديمقراطية
الدولة الدستورية
حقوق العمل
العدالة الاجتماعية
المساواة بين المواطنين

ومن ثمّ، فقد كان جزءاً أصيلاً من التيار المدني في العراق. لكنّ التطورات الأخيرة كشفت عن مفارقة حساسة: فبينما حافظ الحزب على اتساقه الأخلاقي، فإن تأثيره الاجتماعي–الانتخابي بقي محدوداً.

هذا الواقع يشير إلى أنّ المعضلة لا تتعلق بصدق الخطاب، بل بفاعليته الاجتماعية. فالناس — ولا سيما الفئات المهمشة — لا تبحث فقط عن قيم مجردة، بل عن مشروع اجتماعي يوفر الأمان الاقتصادي، والحماية، والعمل، والحقوق في سياقٍ وطني جامع يحترم المكوّنات.

ومن ثمّ، فإن التحدي أمام الحزب — وسائر القوى المدنية — يتمثل في تحويل المدنية من خطابٍ قيمي إلى مشروعٍ اجتماعي ملموس يرتبط بحياة الناس اليومية، ويقدّم حلولاً اقتصادية–اجتماعية جريئة، وفي الوقت نفسه يحافظ على الاستقلال الوطني ووحدة المجتمع.

6. نحو تعريفٍ إجرائيٍّ للمدنية
استناداً إلى ما سبق، يمكن اقتراح تعريفٍ إجرائيٍّ لمفهوم المدنية بوصفه:

مشروعاً وطنياً–اجتماعياً يقوم على الربط بين دولة القانون والمؤسسات
وبين العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الفرص والثروة،
في إطار احترام تنوّع المكوّنات وضمان المساواة في المواطنة.

هذا التعريف يُخرج المدنية من فضاء الخطاب العام إلى فضاء السياسة الاجتماعية، ويجعلها قادرة على بناء قاعدة اجتماعية حقيقية، بدلاً من أن تبقى عنواناً ثقافياً أو أخلاقياً عاماً.

خلاصة هذا الفصل
إنّ نقد مفهوم «المدنية» هنا لا يهدف إلى نزع الشرعية عنه، بل إلى إنقاذه من التبسيط والاختزال، وإعادته إلى جذره التاريخي بوصفه جزءاً من مشروعٍ تحرريٍّ مرتبط بالعدالة الاجتماعية والمساواة والوحدة الوطنية.

ومن دون هذا الربط، ستظل المدنية قويةً أخلاقياً — ضعيفةً سياسياً، وهو ما يكشف جانباً مهماً من الأزمة التي واجهها الحزب والقوى المدنية في الانتخابات الأخيرة.


الفصل الثامن: الأزمة الداخلية للحزب على ضوء نتائج الانتخابات — قراءة تحليلية

تكشف نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة عن أزمة داخلية مركّبة يعاني منها الحزب، لا بمعنى الانهيار التنظيمي أو التلاشي السياسي، بل بمعنى تآكل القدرة على تحويل الرصيد التاريخي والأخلاقي إلى تأثيرٍ انتخابي ملموس ومستدام. وهذه الأزمة ليست آنية ولا عابرة، بل هي حصيلة تفاعل طويل بين البنية الريعية للاقتصاد، والتحولات الطبقية، وطبيعة المجال السياسي والإعلامي، وخيارات الحزب الفكرية والتنظيمية.

1. الأزمة بوصفها انعكاساً لخللٍ في موقع الحزب داخل البنية الاجتماعية
ظل الحزب، تاريخياً، يحمل مشروعاً تحررياً يسعى إلى العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق العمل والديمقراطية السياسية. غير أنّ الخريطة الاجتماعية التي تشكّلت بعد 2003 لم تعد مطابقة — بالضرورة — للخريطة التي تشكّلت حولها أدوات الحزب التقليدية.

فمع توسّع الشرائح المرتبطة بالدولة ريعيًا، وتفتت الطبقة الوسطى، وتضخم الاقتصاد غير الرسمي، أصبح المجتمع أقل استقراراً طبقيًا، وأكثر ميلاً إلى البحث عن حلول فردية داخل قنوات الريع، بدلاً من الانخراط في مشاريع سياسية جماعية بعيدة المدى. وهذا التحول قلّص عملياً من القاعدة الاجتماعية الطبيعية للحزب، دون أن ينجح — بالمستوى الكافي — في ابتكار أدوات تنظيمية جديدة تتلاءم مع هذا الواقع المتحوّل.

2. الفجوة بين الرصيد الأخلاقي والوزن الانتخابي
يمتلك الحزب رصيداً أخلاقياً كبيراً في الوعي الوطني، قائمًا على:
نظافة اليد
النزاهة المبدئية
الموقف المسؤول من قضايا الحريات والديمقراطية
تاريخ طويل من النضال والتضحية

غير أنّ هذا الرصيد لم يتحول إلى تمثيلٍ انتخابي متناسب معه. وهذا يشير إلى وجود فجوة بين:

قيمة الحزب الرمزية في الوعي العام،
وقدرته العملية على التعبئة والتنظيم في الواقع الانتخابي.

وتعود هذه الفجوة — جزئياً — إلى ضعف الإمكانات المالية والإعلامية، وإلى عدم تكافؤ فرص المنافسة داخل بنية انتخابية تفضّل القوى الأوسع نفوذًا. لكنها تعود أيضاً إلى تحولات اجتماعية عميقة جعلت من الصعب تحويل التعاطف العام إلى اختيار انتخابي مستقر.

3. مأزق الخطاب: بين المدنية العامة والبرنامج الاجتماعي المحدد
كما أشرنا في الفصل السابق، فإن خطاب المدنية حين يُطرح بشكلٍ قيمي عام قد يفقد ارتباطه المباشر بمطالب الفئات الاجتماعية المتضررة. وقد وجد الحزب نفسه — موضوعياً — داخل هذا المأزق:
فإذا شدّد على المدنية بوصفها خطاباً أخلاقياً – ديمقراطياً عاماً،
اتسعت دائرة التعاطف الرمزي، لكن ضَعُفت القدرة على التعبئة الاجتماعية المنظّمة.
وإذا ركّز على المطالب الطبقية والاقتصادية المباشرة،
واجه شبكةً معقدة من المصالح القائمة داخل الدولة الريعية، وعراقيل سياسية–إدارية وإعلامية.

هذا التوتر بين المدنية القيمية والعدالة الاجتماعية المادية لم يُحسم — تنظيراً وممارسة — بما يكفي، وهو ما انعكس على موقع الحزب داخل المشهد العام.

4. حدود التحالفات السياسية وأثرها
خاض الحزب — في مراحل معينة — تجارب تحالفية مع قوى سياسية أخرى، بهدف تعزيز فرص التأثير والإصلاح. وقد أثارت هذه التحالفات نقاشاً داخل القاعدة اليسارية والمدنية حول:
حدود الاستقلال السياسي
طبيعة التحالفات الممكنة
العلاقة بين التكتيك المرحلي والهدف الاستراتيجي
ومخاطر الذوبان في مشروعات سياسية لا تتبنى بالكامل رؤية الحزب الاجتماعية

ومع أن هذه التحالفات كانت — في بعض لحظاتها — محاولة واقعية لاختراق بنية النظام السياسي، فإنها لم تُترجم إلى توسعٍ اجتماعي–تنظيمي دائم للحزب، بل خلق بعضها التباساتٍ في الوعي العام حول هويته السياسية.

5. أزمة التنظيم: ضعف الامتداد الأفقي والعمق الاجتماعي
تبدو الأزمة كذلك تنظيمية–هيكلية في جانب منها، ويمكن تلخيص أبرز ملامحها في:
محدودية الانتشار الأفقي داخل بعض الشرائح الشبابية والعمالية
ضعف القواعد المحلية الفاعلة في مناطق عديدة
اعتماد جزء من النشاط التنظيمي على الحماس الفردي لا على بنية مؤسساتية راسخة
محدودية الموارد التي تُعيق تطوير الإعلام الحزبي الحديث
صعوبة مواكبة أنماط التعبئة الجديدة عبر الفضاء الرقمي

ولا يعني هذا غياب العمل التنظيمي — فهو قائم ومهم — لكنه غير كافٍ لبناء قاعدة جماهيرية بحجم وتاريخ الحزب.

6. الانتخابات كمرآة للأزمة لا كسبب لها
من المهم التأكيد على أنّ الانتخابات لا تُنتج الأزمة — بل تكشفها. فالنتائج الضعيفة لا تُقرأ كفشلٍ عرضي، وإنما بوصفها دلالة على:
اضطراب القاعدة الاجتماعية
محدودية الأدوات التنظيمية
ضعف فرص المنافسة داخل بنية غير متكافئة
ووجود مأزق فكري يتعلق بترجمة المدنية إلى مشروع اجتماعي جذري

وهذا الفهم ضروري حتى لا تُختزل الأزمة في خطاب اعتذاري أو تبريري، أو في جلدٍ ذاتي غير منتج. المطلوب هو تفكير نقدي واقعي يوازن بين الاعتراف بالخلل وبين الدفاع عن قيمة المشروع اليساري–المدني ذاته.

7. أثر الأزمة على صورة الحزب ودوره التاريخي
أثّرت هذه الأزمة على صورة الحزب ودوره في نقطتين أساسيتين:

أ. تقلّص الوزن البرلماني والسياسي المباشر
ما يعني ضعف القدرة على التأثير في التشريعات وصنع القرار.

ب. بقاء الحزب — رغم ذلك —
ضميرًا نقديًا وطنيًا حيًا
حيث لا تزال مواقفه الأخلاقية والمبدئية مرجعًا مهمًا للكثيرين، حتى خارج صفوفه التنظيمية.

وهذا التناقض — بين الضعف الانتخابي والقوة الرمزية — هو أحد المفاتيح التفسيرية الجوهرية لفهم المرحلة الراهنة.

8. نحو تجاوزٍ نقدي للأزمة
لا تتعامل هذه الدراسة مع الأزمة بروح الإحباط، بل ترى فيها فرصةً لإعادة البناء، شرط أن تُقرأ ضمن إطارها البنيوي لا التكتيكي فقط. ويعني ذلك:
ربط المشروع المدني بالعدالة الاجتماعية ربطًا عضويًا
إعادة تعريف القاعدة الاجتماعية للحزب في ضوء التحولات الطبقية الجديدة
تطوير أدوات التنظيم والعمل الجماهيري
المحافظة على الاستقلال السياسي مع قراءة تكتيكية مرنة للتحالفات
وتجديد الخطاب بما يوازن بين الأخلاقي والسياسي، وبين القيمي والمادي

وبهذا يصبح النقد سبيلاً لإحياء المشروع لا لمهاجمته.

خلاصة هذا الفصل
إنّ الأزمة الداخلية للحزب، كما كشفتها نتائج الانتخابات الأخيرة، ليست مجرد أزمة برامج أو حملات انتخابية أو تحالفات، بل هي أزمة موقع اجتماعي داخل دولة ريعية متحوّلة. ومع ذلك، فإن المشروع الذي يحمله الحزب لا يزال يمتلك قوة أخلاقية وفكرية عميقة، يمكن — إذا ما أعيد وصلها بقاعدة اجتماعية حقيقية — أن تستعيد دورها التاريخي في بناء دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.


الفصل التاسع: مقارنات نقدية في طروحات عدد من الرفاق — مع التركيز على كتابات الرفيق جاسم الحلفي

شكّلت مساهمات عدد من الرفاق، وفي مقدّمتهم الرفيق جاسم الحلفي، جزءاً مهماً من النقاش الوطني حول طبيعة العملية الانتخابية، وأزمة التمثيل السياسي، وحدود المشروع المدني–الديمقراطي في العراق. وقد تميّزت هذه الطروحات بجرأةٍ نقدية لافتة في مواجهة ظواهر المال السياسي، وتوظيف موارد الدولة انتخابياً، وصعود ما يمكن تسميته بـ«مرشحي الصدفة»، إضافة إلى التشديد على خطورة تزييف الوعي السياسي وتهميش الكفاءات الوطنية.

وترى هذه الدراسة أنّ قراءة هذه الطروحات قراءةً جدلية تتطلب فصل مستويين مترابطين، ولكن مختلفين:
المستوى الوصفي–النقدي المباشر
والمستوى البنيوي الأعمق المرتبط بالاقتصاد السياسي والتحولات الطبقية

1. في قوة التشخيص النقدي
لا شكّ أنّ الرفيق الحلفي — وغيره من الرفاق — قد قدّموا تشخيصاً قوياً وواقعياً لعدد من الظواهر التي رافقت العملية الانتخابية، ومنها:
توظيف النفوذ والمال في التأثير على الأصوات
تراجع المعايير المهنية والسياسية لدى بعض المرشحين
ضعف الثقافة السياسية لدى شرائح واسعة من المرشحين والناخبين على السواء
تحوّل المقعد النيابي — في بعض الأحيان — إلى سلعةٍ انتخابية لا وظيفةً تمثيلية

كما نبّهت هذه الطروحات — بحق — إلى أنّ الإصلاح الانتخابي لا ينفصل عن إصلاحٍ شامل للدولة والمجتمع، وأنّ الأزمة ليست شخصية أو جزئية، بل هي أزمة منظومة.

وهذا الجانب من الخطاب يشكّل رصيداً نقدياً وطنياً مهماً، أسهم في كشف مواطن الخلل، وفي الدفاع عن فكرة أنّ السياسة ليست تجارة ولا وسيلة للثراء، بل هي خدمة عامة ومسؤولية أخلاقية ووطنية.

2. حدود القراءة الأخلاقية–الخطابية للأزمة
غير أنّ هذه الدراسة ترى أنّ جزءاً من هذا الخطاب — رغم قوته النقدية — يميل أحياناً إلى الطابع الأخلاقي–الخطابي، بحيث تُقرأ الأزمة بوصفها نتيجة:
لفساد بعض الأفراد
أو لانحدارٍ ثقافي وأخلاقي عام
أو لضعف الوعي السياسي الشعبي

وهذا صحيح في جانب منه، لكنه لا يكفي تفسيرياً ما لم يُربط بالبنية الاقتصادية–الاجتماعية التي تنتج هذه الظواهر.

فالفساد — في الدولة الريعية — ليس مجرد انحرافٍ أخلاقي، بل هو آلية لتوزيع الريع وتثبيت النفوذ. وكذلك فإن «مرشحي الصدفة» ليسوا حادثة عرضية، بل هم نتيجة:
لبنيةٍ انتخابية تفضّل الحضور الإعلامي السطحي على التنظيم الاجتماعي العميق
ولمجالٍ عام تسيطر عليه قوى المال والنفوذ
ولمجتمعٍ يعاني من هشاشة اقتصادية تجعله أكثر عرضة للتأثير الدعائي

وبالتالي، فإن قراءة الظاهرة أخلاقياً فقط — رغم نُبلها — قد تُفوّت علينا تحليل آليات إنتاجها البنيوية.

3. العلاقة بين المدنية والوعي السياسي في الخطاب النقدي
تؤكد طروحات الرفيق الحلفي — وغيره — على ضرورة تعزيز الوعي المدني والديمقراطي بوصفه شرطاً لتصحيح مسار العملية السياسية. وهذا تشخيص صحيح. لكنّ هذه الدراسة تضيف أنّ الوعي السياسي لا ينفصل عن شروط العيش والعمل والدخل.

فالإنسان العامل في اقتصادٍ غير رسمي هش، أو الشباب العاطل بلا أفق اجتماعي، لا يمكن أن يُطالَب —واقعياً— بتبني خطابٍ مدني–قيمي عام دون أن يرى ترجمته في سياساتٍ اجتماعية تحميه وتوفّر له الأمن الاقتصادي.

ومن هنا، فإن نقد العملية الانتخابية ينبغي أن يقترن دوماً بنقد الاقتصاد الريعي الذي يجعل المواطنين معتمدين على قنوات توزيع غير عادلة للثروة والفرص، ويُضعف بالتالي قدرتهم على اتخاذ مواقف سياسية حرة ومستقلة.

4. أين يتقاطع تحليلنا مع طروحات الرفيق الحلفي؟
يمكن تحديد نقاط الالتقاء الجوهرية الآتية:
رفض تحويل السياسة إلى تجارة أو صفقة مالية
الدفاع عن الديمقراطية بوصفها قيمةً وأسلوب حياة
التأكيد على خطورة المال السياسي وتزييف الإرادة الشعبية
التحذير من تراجع الخطاب الوطني–المدني الجاد
الدعوة إلى نقدٍ صريح للمنظومة القائمة دون تبرير أو انحياز

وهذه نقاط أساسية تشكّل جزءاً من الضمير النقدي الوطني.

5. وأين نضيف أو نختلف منهجياً؟
تضيف هذه الدراسة بُعداً تفسيرياً يقوم على:
التحليل الطبقي والتحولات الاجتماعية
ربط المدنية بالعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة
النظر إلى الانتخابات كآلية لإعادة إنتاج السلطة داخل دولة ريعية، لا مجرد ساحة تنافس سياسي

وهذا لا يُنقص من أهمية الطرح النقدي الذي قدّمه الرفيق الحلفي، بل يوسّعه ويعمّقه بنيوياً، بحيث ينتقل من مستوى التشخيص الأخلاقي–الوصفي إلى مستوى التحليل الاقتصادي–الاجتماعي.

6. أثر هذا الخطاب في القاعدة الاجتماعية
من المهم ملاحظة أنّ الخطاب النقدي المدني — مهما كان قوياً — لا يتحول تلقائياً إلى قاعدة اجتماعية انتخابية. فالفئات المتضررة من هشاشة الاقتصاد تحتاج إلى:
رؤية واضحة للعدالة الاجتماعية
سياسات عملية قابلة للتحقق
تنظيم جماهيري فعّال
وضمانات طويلة الأمد

لا تكفي القيم وحدها في تعبئة هذه الفئات، بل لا بد من ربط القيم بالمصالح المادية المشروعة للناس. وهذه إحدى المهام الكبرى المطروحة على الحزب والتيار المدني–اليساري عموماً.

خلاصة هذا الفصل
إنّ طروحات الرفيق جاسم الحلفي — ومعه عدد من الرفاق — تمثل صوتاً نقدياً شجاعاً كشف الكثير من جوانب الخلل في العملية الانتخابية. غير أنّ تطوير هذا الصوت ليصبح مشروعاً اجتماعياً تغييرياً كاملاً يستلزم إدراج التحليل الأخلاقي–القيمي ضمن:

إطار الاقتصاد السياسي والتحولات الطبقية،
وربط المدنية بالديمقراطية الاجتماعية،
وبناء قواعد تنظيمية جماهيرية واسعة ومستقلة.

بهذا فقط يتحول النقد من شهادةٍ على الأزمة إلى أداةٍ للمساهمة في تجاوزها.


الفصل العاشر: قراءة تحليلية في بيان الاجتماع الاستشاري الموسَّع للحزب

يمثل بيان الاجتماع الاستشاري الموسَّع للحزب وثيقة سياسية بالغة الأهمية، ليس فقط لأنه يعرض موقفاً تنظيمياً من نتائج الانتخابات الأخيرة، بل لأنه يشكّل — في جوهره — لحظة مراجعة جماعية تحاول أن توازن بين الدفاع عن المشروع الحزبي وبين الاعتراف بالحدود الواقعية التي كشفتها العملية الانتخابية.

تسعى هذه القراءة إلى تحليل البيان من حيث منطقه الداخلي، ومفاهيمه الأساسية، وموقعه داخل الإطار الأوسع للاقتصاد الريعي والتحولات الطبقية، دون أن تتعامل معه بوصفه نصاً نهائياً مغلقاً، بل — على العكس — بوصفه حلقة في مسارٍ أطول من النقد الذاتي والتقييم الفكري والتنظيمي.

1. بين التقييم السياسي والحسّ التنظيمي
يقدّم البيان — في خطوطه العريضة — تقييماً صريحاً لمسار الانتخابات، ويشير إلى جملة عوامل أساسية أثّرت في النتائج، مثل:
هيمنة المال السياسي
ضعف تكافؤ الفرص
طبيعة القانون الانتخابي
دور الإعلام
تصاعد العزوف الشعبي

ويُحسب للبيان أنه لم يلجأ إلى خطاب تبريري مغلق، بل سعى — قدر الإمكان — إلى الاعتراف بحدود التأثير الواقعي للحزب في الانتخابات. غير أنّ القراءة التحليلية تكشف أيضاً أنّ البيان ظل حذراً في مقاربة الجوانب البنيوية العميقة للأزمة، واكتفى — في بعض المواضع — بمستوى وصفي–سياسي لا يبلغ تماماً مستوى التحليل الاقتصادي–الاجتماعي.

ومع ذلك، فإن هذا الحذر يمكن فهمه في سياق الحرص على الحفاظ على وحدة الصف التنظيمي، وعلى إبقاء النقد ضمن إطارٍ بنّاء لا يفضي إلى إحباطٍ أو قطيعة داخلية.

2. المفاهيم الأساسية في البيان
يعتمد البيان على مجموعة مفاهيم مركزية، أهمها:
الإصلاح الديمقراطي
الدفاع عن الدولة الدستورية
الالتزام بخيار المشاركة السياسية
مناهضة الفساد والهيمنة
التأكيد على الطابع السلمي للنضال السياسي

وهذه المفاهيم تمثل — بلا شك — العمود الفقري للمشروع المدني–اليساري الذي يحمله الحزب. غير أنّ الدراسة ترى أنّ الربط بين هذه المفاهيم وبين العدالة الاجتماعية والتحليل الطبقي لا يزال بحاجة إلى مزيدٍ من التفصيل، حتى لا تبقى هذه المفاهيم في مستوى الخطاب العام المنفتح على التأويلات المختلفة.

فالإصلاح الديمقراطي — مثلاً — لا يمكن عزله عن إعادة توزيع الفرص والثروة، وإلا فإنه قد يتحوّل إلى إصلاحٍ إجرائي دون مضمون اجتماعي واضح.

3. الموقف من الانتخابات: المشاركة أم إعادة التمركز؟
يلمح البيان إلى استمرار الإيمان بالانتخابات بوصفها إحدى أدوات التغيير الممكنة، مع الاعتراف بحدودها البنيوية. وهذه نقطة حساسة، لأن الحزب يجد نفسه أمام خيارين كلاسيكيين:
الاستمرار في المشاركة الانتخابية
بوصفها مساحة للنضال السياسي والتعبير الديمقراطي، رغم اختلال شروط المنافسة.
إعادة تمركز العمل النضالي حول الفضاءات الاجتماعية–المطلبية والنقابية والاحتجاجية
مع إبقاء الانتخابات خياراً تكميلياً لا مركزياً.

ولا يتعامل البيان مع هذه الثنائية كخيارٍ صفري، بل يسعى إلى الجمع المرن بين المسارين. غير أنّ الدراسة ترى أن الجمع يظل — في غياب تحديدٍ أوضح للقاعدة الاجتماعية ولطبيعة الصراع الطبقي — غامضاً عملياً، ويحتاج إلى بلورة نظرية وتنظيمية أكثر دقة.

4. مساحة النقد الذاتي في البيان
يتضمن البيان إشاراتٍ واضحة إلى الحاجة إلى:
تقييم الأداء التنظيمي
مراجعة أشكال التحالف
تطوير أدوات التعبئة
إعادة النظر في الخطاب السياسي

ويُعدّ هذا اعترافاً مهماً وضرورياً، لكنه — في معظم فقراته — يبقى عقلانياً عاماً أكثر منه تحليلاً تفصيلياً لمواضع الخلل التنظيمي والاجتماعي داخل الحزب.

وربما يعود ذلك إلى إدراك عميق بأن النقد الداخلي الصريح يجب أن يُدار في فضاءات تنظيمية مسؤولة، لا عبر المنابر العامة، تجنباً لأي استغلال سياسي. ومع ذلك، فإن البحث العلمي يظل معنيّاً بـ تفكيك هذه الإشارات وإعطائها بُعدها التحليلي الكامل، وهو ما حاولت فصول الدراسة السابقة القيام به.

5. حدود البيان وقيمته السياسية
مع الاعتراف بأن البيان لا يُغطي — بالضرورة — كل أبعاد الأزمة، فإنه يظل وثيقة ذات قيمة عالية لعدة أسباب:
لأنه لا ينكر الأزمة ولا يتجاهلها
ولأنه يحافظ على وضوح الخيار الديمقراطي المدني
ولأنه يدعو إلى النقد والمراجعة لا إلى الاكتفاء بالشكوى
ولأنه يحاول حماية وحدة الحزب وتماسكه التنظيمي

وهذه كلها مكاسب سياسية وأخلاقية مهمة، خصوصاً في سياقٍ شديد التعقيد كالواقع العراقي.

6. وضع البيان ضمن الإطار البنيوي الأوسع
ترى هذه الدراسة أن بيان الاجتماع الاستشاري الموسَّع يجب أن يُقرأ ضمن السياق الآتي:

إنّه محاولة صادقة لتطوير استجابة سياسية–تنظيمية لأزمةٍ جذورها أعمق اقتصادياً واجتماعياً من أن تُعالَج بخطابٍ سياسي وحده.

ومن ثمّ، فإن تطوير البيان — في المراحل المقبلة — يمكن أن يتجه نحو:
توضيح القاعدة الاجتماعية التي يخاطبها الحزب
إدراج التحليل الطبقي صراحةً في صياغة البرامج
الربط بين المدنية والعدالة الاجتماعية
تحديد موقع الحزب في الصراع الاجتماعي المعاصر
وتطوير رؤية عملية لبناء تنظيم جماهيري شبابي وعمّالي أوسع

خلاصة هذا الفصل
إنّ بيان الاجتماع الاستشاري الموسَّع للحزب يشكّل لحظة وعي نقدي داخل الحركة المدنية–اليسارية، يوازن بين الاعتراف بالأزمة وبين الحفاظ على وحدة التنظيم ومشروعية النضال الديمقراطي. غير أنّ تطوير هذا الوعي يتطلب توسيع التحليل من المستوى السياسي–الخطابي إلى المستوى الاجتماعي–الاقتصادي البنيوي، بحيث يصبح المشروع المدني أكثر رسوخاً في الواقع الطبقي للمجتمع.


الفصل الحادي عشر: نحو مشروعٍ مدني–يساري متجدِّد

إذا كانت الفصول السابقة قد انشغلت بتفكيك السياقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية للأزمة التي واجهها الحزب — وأظهرتها نتائج الانتخابات الأخيرة بوضوح — فإن هذا الفصل يحاول الانتقال من مستوى التشخيص والتحليل إلى مستوى الرؤية والاقتراح.
وهو لا يتقدّم بوصفه “برنامجاً جاهزاً”، بل إطاراً فكرياً–منهجياً عاماً يمكن البناء عليه وتطويره داخل أطر الحوار الحزبي والمدني.

1. إعادة تعريف المشروع المدني على قاعدة العدالة الاجتماعية
أظهرت التجربة أن المدنية وحدها — إذا طُرحت بوصفها خطاباً قيمياً عاماً — غير كافية لبناء قاعدة اجتماعية مستقرة. لذلك فإن الخطوة الأولى نحو مشروع متجدد تتمثل في:

الربط العضوي بين المدنية والعدالة الاجتماعية
بحيث لا تُختزل المدنية في قيم الإجرائية السياسية،
بل تتجسد في سياساتٍ ملموسة تمسّ حياة الناس اليومية.

ويعني ذلك أن المشروع المدني–اليساري ينبغي أن يقدّم رؤية واضحة حول:
الحق في العمل اللائق
الحماية الاجتماعية للعاملين في الاقتصاد غير الرسمي
السكن والتعليم والصحة بوصفها حقوقاً عامة
سياسات تقلّل اللامساواة الاجتماعية والجهوية
الضمانات القانونية والنقابية للعاملين والفئات الهشّة

بهذا المعنى، تصبح المدنية مشروعاً اجتماعياً وطنياً شاملاً، لا مجرد إطارٍ ثقافي أو أخلاقي.

2. تحديد القاعدة الاجتماعية للمشروع
لا بد للمشروع المدني–اليساري من تحديدٍ أوضح للفئات الاجتماعية التي يخاطبها، وفي مقدمتها:
الطبقات العاملة والشرائح الكادحة
العاملون في الاقتصاد غير الرسمي
الشباب الباحثون عن عمل وأمن اجتماعي
أجزاء الطبقة الوسطى المتآكلة
الفئات الهشّة والمهمشة اقتصادياً واجتماعياً

فهذه الفئات هي القاعدة الطبيعية لأي مشروع تحرّري–عدالي. وإذا لم يشعر هؤلاء بأن المشروع المدني يتبنّى مطالبهم المادية المباشرة، فإنه سيظل مشروعاً فوقياً مهما كان نبيلاً.

3. الاستقلال السياسي مع مرونة التحالفات
تؤكد التجربة أن الاستقلال السياسي والفكري للحزب يمثل قيمةً استراتيجية لا غنى عنها. لكنه — في الوقت نفسه — لا يعني الانغلاق أو العزلة، بل:
الإبقاء على إمكانية التحالفات المرحلية
شرط أن تكون واضحة الحدود
قائمة على أرضية برامجية
وأن لا تمسّ جوهر الاستقلال التنظيمي والفكري

فالتحالف — من منظورٍ نقدي — أداة تكتيكية لا هوية استراتيجية.

4. تطوير أدوات التنظيم والعمل الجماهيري
لا يمكن لأي مشروع اجتماعي أن يترسخ دون تنظيمٍ جماهيري حديث قادر على الوصول إلى:
أماكن العمل
الجامعات
الأحياء الشعبية
الفضاء الرقمي
النقابات والمنظمات المهنية

ويستلزم ذلك:
أساليب تواصل حديثة
إعلاماً رقمياً فعالاً
مرونة تنظيمية تستوعب طاقات الشباب
بيئةً ديمقراطية داخلية قائمة على الحوار
وآليات مستمرة للنقد الذاتي والمراجعة

إن إعادة بناء الامتداد الاجتماعي الأفقي للحزب هي — في جوهرها — أحد أهم شروط الخروج من الأزمة.

5. الثقافة السياسية: من الإدانة إلى التمكين
يعاني جزء من الخطاب السياسي العام — في العراق وغيره — من نزعة إدانة أخلاقية للناس بسبب خياراتهم الانتخابية أو موقفهم من المشاركة.
أما المشروع المدني–اليساري المتجدد، فإنه يتجاوز الإدانة إلى الفهم والتمكين:
يفهم ظروف الناس الاقتصادية والاجتماعية
يدرك أثر الهشاشة على السلوك السياسي
يسعى إلى توسيع قدرة المواطنين على الاختيار الحر عبر ضمان الحقوق الاجتماعية

وبذلك يصبح الوعي المدني نتاجاً للتمكين الاجتماعي لا مجرد الوعظ السياسي.

6. الديمقراطية كعملية اجتماعية لا إجرائية فقط
ترى هذه الدراسة أن الديمقراطية في الدولة الريعية لا تستقر إلا إذا تحولت إلى عملية اجتماعية شاملة، تشمل:
دمقرطة الاقتصاد
توسيع المشاركة في صنع القرار
بناء مؤسسات محايدة وعادلة
توزيعاً أكثر عدلاً للفرص والثروة
استقلاليةً حقيقية للمجال العام والإعلام

وهذا كله يضع على عاتق الحزب — بوصفه قوة مدنية–يسارية — دوراً مضاعفاً في الربط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.

7. الحساسية الوطنية تجاه المكوّنات
يبقى شرطاً أخلاقياً وعلمياً أن يُصاغ المشروع المدني بلغةٍ وطنية جامعة، تحترم تنوع المكوّنات العراقية، وتبتعد عن أي توصيفٍ قد يُفهم على أنه طعن أو استهداف لجماعةٍ بعينها.
فالخصومة — كما أكدت الدراسة مراراً — هي مع شبكات المصالح الضيقة وبنى الفساد والريع غير العادل، لا مع المكوّنات الاجتماعية والثقافية والدينية.

8. موقع الحزب في هذا المشروع
بما يمتلكه الحزب من:
رصيد تاريخي
أخلاقيات سياسية عالية
التزام واضح بالخيارات الديمقراطية
انحياز تاريخي للعدالة الاجتماعية

فإنه مؤهّل — أكثر من غيره — ليكون ركيزة طبيعية لهذا المشروع، إذا استطاع أن:
يُجدّد أدواته التنظيمية
يوسّع قاعدة ارتباطه بالفئات الشعبية
يطوّر خطابه المدني ليصبح اجتماعياً–طبقياً بامتياز
ويحافظ على استقلاله الفكري والتنظيمي

خلاصة هذا الفصل
إن المشروع المدني–اليساري المتجدد ليس دعوةً للقطيعة مع الماضي، بل هو امتداد نقدي–تاريخي له، يقوم على:

إعادة وصل المدنية بالعدالة الاجتماعية،
وتحديد قاعدة اجتماعية واضحة للمشروع،
وبناء تنظيمٍ جماهيري حديث ومستقل،
وتطوير خطابٍ وطني جامع يحترم المكوّنات،
ويرى في الديمقراطية عمليةً اجتماعيةً شاملة لا آلية انتخابية فقط.

بهذا فقط يمكن للأزمة أن تتحول من لحظة انكسار إلى لحظة تأسيس جديدة.


الفصل الثاني عشر: الخاتمة العامة — الاستنتاجات وحدود الدراسة وآفاق البحث

1. الخلاصة العامة
انطلقت هذه الدراسة من فرضيةٍ مركزية مؤداها أنّ الأزمة التي واجهها الحزب في الانتخابات الأخيرة ليست أزمةً انتخابيةً تقنية فحسب، بل هي انعكاس لأزمةٍ أعمق تتصل بطبيعة الدولة الريعية والتحولات الطبقية والبنية الاجتماعية–السياسية للمجتمع العراقي.
وقد أثبتت الفصول السابقة أنّ فهم الوزن الانتخابي المحدود للحزب لا يستقيم دون النظر إلى التفاعل المتشابك بين:
بنية الاقتصاد الريعي التي تجعل الدولة المصدر الرئيسي للدخل والفرص.
تحولات البنية الطبقية، بما في ذلك توسّع الشرائح المرتبطة بالريع، واتساع الاقتصاد غير الرسمي، وتآكل الطبقة الوسطى.
انخفاض الثقة بالتمثيل الانتخابي واتساع العزوف كأحد أشكال الاحتجاج الاجتماعي الصامت.
طبيعة الخطاب المدني حين يبقى أخلاقيًا عامًا أكثر منه مشروعًا اجتماعيًا مرتبطًا بالعدالة وإعادة توزيع الفرص.
حدود الأدوات التنظيمية للقوى المدنية–اليسارية في سياقٍ يفضّل المال والنفوذ والإعلام المسيطر.

وبذلك، يمكن القول إن نتائج الانتخابات الأخيرة لم “تُنتج” الأزمة، بل “كشفتها” بوضوحٍ غير قابلٍ للإنكار.

2. موقع الحزب بين الرصيد الأخلاقي والواقع الاجتماعي
أظهرت الدراسة أن الحزب يملك رصيدًا أخلاقيًا وتاريخيًا كبيرًا، لكنه يواجه — في المقابل — صعوبةً في تحويل هذا الرصيد إلى قاعدةٍ انتخابية واسعة ومستقرة.
ويرجع ذلك إلى:
الفجوة بين القيمة الرمزية للحزب وبين قدرته التنظيمية والإعلامية المحدودة داخل بنية غير متكافئة.
وإلى أنّ الفئات الاجتماعية التي يُفترض أنها قاعدته الطبيعية أصبحت مفتّتة أو مرتبطة بقنوات الريع أو أسيرة هشاشة اقتصادية لا تسمح بعملٍ سياسي جماعي طويل الأمد.

ورغم ذلك، فإن الحزب لا يزال ضميرًا وطنيًا نقديًا، وهو موقع بالغ الأهمية في أي مسار إصلاحي.

3. المدنيّة بين الخطاب والمشروع
انتهت الدراسة إلى أن المشكلة ليست في المدنيّة ذاتها، بل في اختزالها إلى خطابٍ قيمي غير مرتبطٍ بما يكفي بالعدالة الاجتماعية.
فالمدنية — حتى تكون مشروعًا تاريخيًا — يجب أن:

تربط بين دولة القانون والمواطنة المتساوية
وبين العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الفرص والثروة.

وإلا فإنها تبقى أخلاقيًا قوية، لكنها سياسيًا محدودة.

4. نحو أفقٍ بديل للمشروع المدني–اليساري
تشير نتائج البحث إلى أن تجاوز الأزمة يتطلب:
تجديدًا فكريًا يربط المدنية بالاقتصاد السياسي والتحليل الطبقي.
تحديد قاعدة اجتماعية طبيعية واضحة للمشروع — تضم العمال والفئات الهشّة والشباب والطبقة الوسطى المتآكلة.
تطوير أدوات تنظيمية حديثة تعزز الامتداد الاجتماعي الأفقي.
الحفاظ على الاستقلال السياسي للحزب مع مرونة التحالفات البرامجية.
بناء خطاب وطني جامع يحترم تنوّع المكوّنات ويبتعد عن التوصيفات التي قد تُفهم بوصفها إقصائية أو طائفية.

بهذه الشروط فقط يمكن للحزب — وللمشروع المدني–اليساري عمومًا — أن يتحول من قوة ضمير إلى قوة تأثير اجتماعي–سياسي واسع.

5. قيمة النقد الداخلي
تؤكد هذه الدراسة أن النقد ليس ترفًا ولا تجريحًا، بل هو فعل تأسيسي لإعادة البناء.
فالحزب الذي يراجع نفسه بوعي ومسؤولية هو حزب حيّ وقادر على التطور، شريطة أن يكون النقد:
رفاقيًا
علميًا
مرتبطًا بالواقع
موجّهًا نحو الحل لا الهدم

وهذا ما حاولت هذه الدراسة أن تلتزمه.

6. حدود الدراسة
تعترف هذه الدراسة بأنها ليست شاملة بصورةٍ مطلقة، فهي تواجه عدة حدود بحثية، منها:
محدودية البيانات الإحصائية الدقيقة حول التحولات الطبقية.
صعوبة الفصل بين العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية في الواقع العراقي.
غياب دراسات ميدانية واسعة حول اتجاهات التصويت المدني–اليساري.

لكنها — رغم ذلك — قدّمت إطارًا تفسيرياً متماسكًا يمكن البناء عليه وتطويره.

7. آفاق البحث المستقبلي
تفتح هذه الدراسة الباب أمام أبحاثٍ مستقبلية في مجالات مثل:
الدراسات الميدانية حول القاعدة الاجتماعية الفعلية للحزب والقوى المدنية.
تحليل دور الإعلام الرقمي في تشكيل السلوك الانتخابي لدى الشباب.
العلاقة بين المجتمع الريعي والعزوف الانتخابي.
نماذج مقارنة لدولٍ ريعية أخرى وكيف تعاملت قواها اليسارية والمدنية مع المشهد.

وكلها مسارات يمكن أن تُثري النقاش الوطني.

8. كلمة ختامية
يمكن تلخيص روح هذه الدراسة في العبارة الآتية:

إنّ الأزمة التي واجهها الحزب ليست نهاية الطريق،
بل فرصة تاريخية لإعادة تأسيس المشروع المدني–اليساري على أسسٍ اجتماعيةٍ أعمق،
تربط بين الحرية والعدالة، وبين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية،
في إطار وطني جامع يحترم المكوّنات ويخدم الإنسان العراقي حيثما كان.

وبهذا المعنى، فإن المستقبل — رغم صعوبته — لا يزال مفتوحًا أمام قوة فكرية–أخلاقية جادة قادرة على النقد الذاتي والبناء التاريخي الصبور.

•••

قائمة المراجع

أولاً: الكتب والدراسات الأجنبية

Bernard, Thomas. 2015. Political Economy of Rentier States. London: Routledge.

Habermas, Jürgen. 1989. The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society. Cambridge, MA: MIT Press.

Tilly, Charles. 2004. Social Movements, 1768–2004. Boulder, CO: Paradigm Publishers.

Beblawi, Hazem, and Giacomo Luciani, eds. 1987. The Rentier State. London: Croom Helm.

Ross, Michael L. 2012. The Oil Curse: How Petroleum Wealth Shapes the Development of Nations. Princeton: Princeton University Press.

Mahdavy, Hossein. 1970. “The Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States.” In Studies in the Economic History of the Middle East, edited by M. A. Cook, 428–467. London: Oxford University Press.

Diamond, Larry. 2019. Ill Winds: Saving Democracy from Russian Rage, Chinese Ambition, and American Complacency. New York: Penguin.

ثانياً: دراسات ومقالات أكاديمية عن العراق (أجنبية)

Dodge, Toby. 2012. Iraq: From War to a New Authoritarianism. London: Routledge.

Haddad, Fanar. 2014. “Sectarian Relations and Sunni Identity in Post–Civil War Iraq.” Third World Quarterly 35 (8): 1446–1460.

Al-Marashi, Ibrahim. 2020. “Iraq’s Political System: An Overview.” Middle East Review of International Affairs 24 (2): 1–18.

ثالثاً: مصادر عراقية وعربية

الحلفي، جاسم. 2018–2025. مقالات في الشأن السياسي والمدني والانتخابات العراقية. صحف ومواقع عراقية متعددة.

الحزب الشيوعي العراقي. 2025. بيان الاجتماع الاستشاري الموسّع. بغداد: موقع الحزب الرسمي.

مفوضية الانتخابات العراقية. 2025. تقارير وبيانات نتائج الانتخابات النيابية. بغداد.

وزارة التخطيط العراقية. تقارير سنوية متعددة.
حول مؤشرات الفقر، والبطالة، والتنمية البشرية.

رابعاً: مراجع نظرية عربية حول الدولة والعدالة الاجتماعية

العروي، عبد الله. 1995. مفهوم الدولة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

برهان غليون. 2011. اغتيال العقل. بيروت: دار الفكر.

سمير أمين. 2010. الرأسمالية في عصر العولمة. القاهرة: دار العين.

خامساً: مصادر مكملة عن الاقتصاد غير الرسمي والتحولات الاجتماعية

Portes, Alejandro, Manuel Castells, and Lauren A. Benton, eds. 1989. The Informal Economy: Studies in Advanced and Less Developed Countries. Baltimore: Johns Hopkins University Press.

Standing, Guy. 2011. The Precariat: The New Dangerous Class. London: Bloomsbury Academic.



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ...
- إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث ف ...
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ...
- الوثيقة الثالثة: تشخيصُ السيادة والدين والطبقة في عراق ما بع ...
- الوثيقة الثانية: تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- ماذا يريد الشيوعيون؟
- الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي ...
- لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
- العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د ...
- أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
- الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما ...
- التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
- من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
- قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
- الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
- هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
- الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
- التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض ...
- تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية ...


المزيد.....




- رغم قتلها أزواجهنّ.. أرامل ضحايا النمور يساهمن في استعادة مو ...
- 7 نجمات اخترن المخمل على السجّادة الحمراء في 2025
- الشرطة الإسرائيلية تعلن مقتل شخصين في هجوم دهس وطعن شمال الب ...
- مقتل شخصين في هجوم شمال إسرائيل يُشتبه في أن منفذه فلسطيني، ...
- 60% يريدون ترك السلاح؟ رواية إسرائيلية غير مسبوقة عن التصدّع ...
- سوريا: ثمانية قتلى وعشرات المصابين جراء انفجار في مسجد وسط ح ...
- كيف سيعالج الركراكي دفاع المنتخب المغربي -المصاب- لحماية عري ...
- مقتل إسرائيليين اثنين وإصابة 6 دهسا وطعنا في بيسان
- نيجيريا تؤكد توفير مساعدة استخباراتية للغارات الأميركية على ...
- اعتراف إسرائيلي بفشل الاستخبارات في اختراق حماس على مدى 20 ع ...


المزيد.....

- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ... / علي طبله
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للحزب