رانية مرجية
كاتبة شاعرة ناقدة مجسرة صحفية وموجهة مجموعات
(Rania Marjieh)
الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 12:06
المحور:
الادب والفن
في المصنع المحمي، حيث تُختصر الحياة في جداول إنتاج، وحيث تُدار الهشاشة بعناوين كبيرة وميزانيات صغيرة، لم تقع حادثة عمل عابرة. ما حدث كان لحظة كاشفة، فاضحة، ومؤلمة بما يكفي لتُسائل الجميع.
كانت المُدرِّبة هناك، واقفة في المنتصف:
بين آلةٍ صُمِّمت بلا قلب، وإنسانٍ لم يُمنَح الأدوات ليحمي قلبه. امرأة تعرف أنّ التدريب ليس تلقينًا، وأنّ من يعمل مع أشخاص ذوي إعاقة ذهنية تطورية لا يملك ترف الاستعجال ولا حق الغضب.
ثم جاءت الضربة.
قوية. فجائية. بلا قصدٍ واعٍ.
يدٌ لم تتعلّم الانتظار، خرجت من ارتباكٍ داخلي، من عقلٍ حين يُحاصَر، ينهار. لم تكن الضربة فعل عنف بقدر ما كانت ترجمة فادحة لعجزٍ طويل.
تراجعت المُدرِّبة خطوة واحدة.
ليس لأن الألم أسقطها، بل لأن السؤال أسقط كل ما حولها:
من المسؤول حين يعجز الإنسان عن التعبير؟
ومن يُحاسَب حين نضع الهشّ في بيئةٍ لا تُشبهه ثم نطلب منه الانضباط؟
لم تصرخ.
لم تستدعِ الإدارة.
لم تحوّل اللحظة إلى ملفٍّ بارد.
وضعت يدها على موضع الألم، لتتأكد أنّ الجسد ما زال قادرًا على الاحتمال، ثم رفعت عينيها إليه. لم ترَ معتديًا، بل إنسانًا عالقًا بين ما يُطلب منه وما يستطيع احتماله. خوفًا بلا لغة. توترًا بلا مخرج. روحًا تُدفع إلى الحافة يومًا بعد يوم.
اقتربت ببطء، كما يقترب المرء من حقيقةٍ لا يجوز كسرها.
خفضت صوتها، لأن العلوّ لا يصنع فهمًا.
قالت:
“أنا هنا.”
كانت تلك الجملة، في مصنعٍ مليء بالضجيج، أقوى من أي إجراء.
في تلك اللحظة، سقطت فكرة القوّة بوصفها سيطرة،
وصعدت فكرة الاحتواء بوصفه أعلى أشكال المسؤولية.
لم يعتذر بالكلمات.
لكن جسده انكمش.
وعيناه قالتا ما تعجز اللغة عن قوله.
في المصنع المحمي، تعلّم الجميع درسًا لا يُكتب في لوائح السلامة:
أنّ الإعاقة لا تضرب وحدها،
بل تضرب حين نُديرها بلا فهم،
وحين نُطالب بالضبط قبل أن نوفّر الأمان،
وحين نُجمّل الهشاشة بالشعارات ونتركها وحيدة في الميدان.
أما المُدرِّبة، فغادرت المكان بوجعٍ عابر في الجسد،
لكن بوعيٍ ثقيل في القلب.
أدركت أن ما حدث لم يكن استثناءً،
بل نتيجة نظام يُحبّ الأرقام أكثر مما يحتمل البشر.
في ذلك اليوم، لم تُسجَّل الحادثة كخطأ فردي.
سُجِّلت كإدانة جماعية.
إدانة لمؤسسات تُدرّب دون أن تُنصت،
ولسياسات تُشغّل دون أن تحتوي،
ولمجتمعٍ يرفع شعار “الدمج” ثم ينسحب عند أول اختبار حقيقي للإنسانية.
لأن السؤال لم يكن:
لماذا ضرب؟
بل:
كم مرّة ضُرب هو… قبل أن يرفع يده؟
#رانية_مرجية (هاشتاغ)
Rania_Marjieh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟