أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل محمود - إقتصاد البقاء .. حين كانت الحضارة تعني الخلود














المزيد.....

إقتصاد البقاء .. حين كانت الحضارة تعني الخلود


عادل محمود
محامِ مصري

(Adel Mahmoud)


الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 00:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في زمن تقاس فيه الحضارات بعدد صفقاتها لا بعدد أفكارها حيث تتحول البورصات إلى معابد والعلامات التجارية إلى آلهة والأرباح إلى ديانة عالمية لا تقام طقوسها إلا بلغة الأرقام .
يغدو استدعاء مصر القديمة أكثر من حنين أثري ، إنه وقفة للتأمل في فكرة بديلة عن العالم .
لم تعرف مصر القديمة منطق المنفعة الذي يحكم عالمنا الحديث بل أقامت حضارتها على منطق المعنى ، رؤية جعلت من الفكر شكلا من أشكال المقاومة الهادئة قبل أن تولد الرأسمالية بقرون طويلة .

المصري القديم - ذلك الفلاح الفيلسوف الذي يزرع الأرض كما يزرع الكلمة - لم يفهم "الحياة" بوصفها صفقة بل طقسا أخلاقيا مستمرا . لم يكن الغني عنده يقاس بمقادير الذهب بل بـ "الماعت" تلك الفكرة المعجزة التي تجمع بين العدالة والانسجام والحق والتوازن الكوني .
كانت الثروة هي التناغم بين الإنسان والعالم بين الأخذ والعطاء . كانت القيمة مرادفة للبقاء لا للربح العاجل .

في مصر القديمة لم تكن المقبرة نهاية بل استثمارا في الأبد . لم يكن الجسد سلعة قابلة للاستهلاك بل وعاء مقدسا للروح . ولم تكن العلاقات الاجتماعية عقودا مدنية بل عهودا أخلاقية تربط الفرد بالجماعة والأسرة بالكون .
كانت العمارة فعل عبادة والكتابة صلاة والزراعة حوارا وديا مع الزمن والطبيعة .
ذلك كان اقتصاد المعنى : حيث لا تختزل القيمة في الربح بل في البقاء . كان الخلود - لا الملكية - أعلى أشكال النجاح .
هذا الوعي الجماعي جعل من الحضارة المصرية أول مقاومة بشرية صامتة ضد روح الرأسمالية قبل أن تولد .
فبينما يحتفي العالم الحديث بالسرعة كانت مصر تبني على مهل صروحا لتبقى آلاف السنين .
وبينما تقاس القيمة اليوم بما يباع ويشترى كانت تقاس آنذاك بما يخلد ويبقي في ذاكرة الزمن .
وبينما يعبد الإنسان المعاصر "السوق" كإله جديد كان المصري يعبد الـ"ماعت" النظام الأخلاقي الكوني الذي يوازن بين الفوضى والنظام بين الفرد والجماعة بين الأرض والسماء .

تأمل الأهرام من هذا المنظور لا تكشف عن حجارة متراصة بمهارة بل عن بيانا حجريا ضد ثقافة الاستهلاك كل حجر فيها يصرخ : البقاء للمعنى لا للربح ..!
كما يشير عالم المصريات "جون أ. ويلسون" في كتابه The Culture of Ancient Egypt ، فإن هذه الأبنية العملاقة لم تكن شواهد على قدرة مادية فحسب بل تجسيدا لقيم دينية وفلكية وأخلاقية عميقة .
وإذا كان العالم الحديث يختنق تحت دوامة الإنتاج والاستهلاك فإن مصر القديمة عاشت في ظل فكرة أكثر رحمة : أن الإنسان ليس مالكا للعالم بل شريكا في إيقاعه وأمينا على تراثه .

وها نحن اليوم في زمن ما بعد الأهرام أحوج ما نكون إلى قراءة معكوسة للتاريخ أن نفهم الحضارة لا كمتحف للتفاخر بل كقيم حية قادرة على إلهام حلول لأزمتنا المعاصرة .
أن نعيد إلى الاقتصاد بعده الأخلاقي وإلى العمل روحه وإلى العمارة معناها وإلى الزمن إيقاعه الطبيعي .
كما يؤكد الفيلسوف "روجيه جارودي" في كتابه "من أجل انتصار الحياة" أن الحضارة الغربية القائمة على الجشع الرأسمالي تقتات على تدمير المعنى بينما الحضارات الشرقية القديمة - وفي مقدمتها الحضارة المصرية - أقامت نظرتها للعالم على وحدة المادة والروح .

إن مصر القديمة بهذا المفهوم ليست ماضيا منقوشا على الجدران بل مستقبلا مؤجلا .
نداء يرافقنا في متاهة هذه الحضارة العالمية المتعثرة ويقول لنا :
لا تبنوا ناطحات السحاب بل معاني تعلو عليها .
لا تسعوا لتملكوا كل شئ بل لتكونوا جزءا من كل .
وتذكروا دائما لقد بنى أجدادكم بالحجر ما يبقي بينما تبنون أنتم بالأرقام ما يزول .
وتلك هي المفارقة الكبرى : أن نملك العلم ونفقد الحكمة .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ديسمبر : شهر البدايات والنهايات .. الأسطورة التي تعيد نبض ال ...
- محمد صبحي، عمرو أديب، وأم كلثوم .. في زمن الترفيه الموجه
- فصل الشتاء .. حين يقول الجسد ما تخفيه السياسة
- دراما رمضان … محظورات تكتب السيناريو قبل المبدعين
- فيلم -الست- … علي صفيح ساخن
- جورجيا ميلوني .. امرأة هزت عرش أوروبا
- -مستقبل الثقافة في مصر- ..بين أسطورة التنوير وأزمة النهضة ال ...
- متى تشعر الأنظمة الديكتاتورية بالقلق؟ .. الصراع الداخلي على ...
- التأشيرة والثورة .. جوستافو بيترو يهز عرش الإمبراطورية
- -ورقة جمعية- ...الأمهات اللواتي يصنعن العالم ثم يغيبن في صمت
- -ولاد الشمس- ... محمود حميدة وموسيقى الشر السيمفوني
- -قهوة المحطة- .. تراجيديا معاصرة في فضاء القهوة المظلم
- -6 أيام- .. سينما العاشق المتأخر
- عروستي .. حين يتوه الإبداع في متاهات الترفيه السهل
- فوز ممداني .. انعطافة سياسية في عاصمة المال الأمريكي
- مؤتمرا شرم الشيخ : سلام حقيقي أم حلقة مفرغة ؟ قراءة في استمر ...
- ن أجل زيكو : حين يضحكك الفقر وتخفى الحقيقة
- الأسرة في مرآة الشاشة ... من حلم جماعي إلى عزلة وجودية ، قرا ...
- العبودية المختارة .. الكتاب الذي هز عرش الطغاة
- قراءة في كتاب -الثورة المضادة في مصر


المزيد.....




- محاولة تسميم بقرة في المغرب.. محاكمة مواطن بالسجن لمدة سنة م ...
- لقاء الأحد بين ترامب وزيلينسكي - هل هي بداية نهاية الحرب؟
- الشرطة الفرنسية توقف مشتبها به في سلسلة اعتداءات بسلاح أبيض ...
- -أيام الله-.. قراءة إيمانية للحرب في غزة والسودان خلال الأشه ...
- مسؤولون أميركيون: نتنياهو يخرّب اتفاق غزة قبل لقائه ترامب
- الصين تفرض عقوبات على أفراد وشركات أميركية بسبب تايوان
- لماذا تعجز استخبارات إسرائيل عن وقف عمليات الضفة؟
- زيلينسكي مستعد للاستفتاء على خطة ترامب وموسكو تتهمه بتقويض ا ...
- عاجل | سانا: الجيش يسقط مسيرات معادية أطلقتها قسد باتجاه موا ...
- شعبية ماكرون في أدنى مستوياتها منذ انتخابه عام 2017


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل محمود - إقتصاد البقاء .. حين كانت الحضارة تعني الخلود