أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عادل محمود - التأشيرة والثورة .. جوستافو بيترو يهز عرش الإمبراطورية














المزيد.....

التأشيرة والثورة .. جوستافو بيترو يهز عرش الإمبراطورية


عادل محمود
محامِ مصري

(Adel Mahmoud)


الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 10:52
المحور: القضية الفلسطينية
    


في ذلك الركن القصي من جبل الأنديز، حيث تتحول الجغرافيا إلى ذاكرة، خرج رجل يشبه الشظية التي أفلتت من قبضة التاريخ. لم يأت من قصور الطبقة المطمئنة، بل من الأزقة التي كانت تشق طريقها بين إرث الاستعمار ورائحة البارود. ومع ذلك صعد إلى منصة الأمم المتحدة كمن يمضي إلى امتحان العالم لا امتحان بلاده وحدها. هذا الرجل هو جوستافو بيترو، الرئيس الذي قرر أن يتكلم لا بلسان كولومبيا فقط، بل بلسان الجنوب الذي ظل طويلا تحت وصاية الشمال.
وحين قررت الولايات المتحدة سحب تأشيرته، بدا الأمر كأن مؤسسة كبرى رفعت غطاءها عن آلية السيطرة الحديثة. لم تعد الإمبراطوريات بحاجة إلى الأساطيل، فقد أصبحت التأشيرة نفسها أداة تأديب. نافذة تُفتح لمن يسير في الإيقاع المطلوب، وتُغلق حين يحيد الخطاب عن النص المقرر. القرار لم يكن إداريا، بل إعلانا عن مدى الانزعاج الذي يسببه صوت صريح في لحظة دولية يختلط فيها الغبار بالدخان.
خطاب بيترو في الجمعية العامة لم يكن خطابا دبلوماسيا، بل مشهدا من مسرحية تراجيدية يتصارع فيها الإنسان مع آلة عملاقة بلا وجه. رفع الرجل كفه كما لو أنه يوقف جرافة، وقال إن ما يحدث في غزة ليس نزاعا، بل سحق لإنسان أعزل. لم يستدع قاموس اليسار القديم، بل استدعى ضمير العالم الذي توارى خلف النموذج الأمريكي للقانون الدولي. وبدت كلماته كأنها تُسقط ستارا سميكا عن مسرح تتكرر فيه الجرائم بلغة الشرعية.
ولم يقف عند حدود نقد السياسات، بل ذهب لجوهر العقل الإمبراطوري الذي أعاد رسم خرائط الأرض وفقا لمقاييس القوة، مانحا شرعية لمن يشاء، نافيا الإنسانية عمن يشاء. بيترو في تلك اللحظة كان أشبه بمؤرخ يتلو وثيقة اتهام بعدما وصلت الوقائع إلى نقطة لا يصلح معها الصمت.
في نيويورك، بين ناطحات السحاب التي تشبه نصبا للسلطة، ارتدى الكوفية ولف العلم الفلسطيني حول معصمه. كان المشهد أقرب إلى حركة شعرية منه إلى إجراء بروتوكولي. ولما نطق بعبارته الشهيرة التي هاجم فيها إخضاع الجندي لإرادة رئيس أمريكي، ارتجت القاعة كما لو أنها سمعت لأول مرة خطابا لا يطلب التصفيق.
ومن فوق المنصة دعا إلى تشكيل قوة عالمية هدفها الأول تحرير الفلسطينيين، مؤكدا أن الفيتو الأمريكي شل أعصاب الدبلوماسية. هنا لم يعد رئيسا لدولة، بل شاهدا على زمن ينهار فيه نظام القيم الذي وعدت به الحداثة الغربية. بدا كأن العالم يسمع صدى قديم، صدى بوليفار وهو يفتح الطريق أمام جمهوريات لم تولد بعد.
ثم جاءت الضربة المتوقعة. التأشيرة سُحبت، وقدمت واشنطن فعلها كما يقدم الموظف ورقة إجراء. غير أن الإجراء كان كافيا لفضح ما يجري تحت الطاولة. فالمنع من السفر أصبح وسيلة لإلغاء الصوت، وإعادة وضع الحدود حول من يحق له الكلام ومن يُنفى صوته إلى الفراغ. ورد بيترو بجملة قصيرة بدت كأنها تقطع الحبل السري بينه وبين هذا النظام: قال إنه لا يحتاج إلى إذن كي يمر في العالم، وأن الإنسان الحر لا يُحاصر.
ولم يكن بيترو أول من يتعرض لهذه الأداة، فقد سبقه قضاة برازيليون ورؤساء لاتينيون سابقون. لكن تأثير العقاب هذه المرة بدا مختلفا، لأن الرجل لم يدخل معركة شخصية، بل دخل في قلب التوازنات الجيوسياسية. فمع اقتراب كولومبيا من مبادرة الحزام والطريق منتصف 2025، ومع إعادة توزيع النفوذ بين الشرق والغرب، شعرت واشنطن بأن رقعة الشطرنج تهتز تحت أصابعها. وجاء رد بيترو على تهديدات قطع المساعدات واضحا كأنما يخرج من مدرسة ثورية لا تزال رائحتها عالقة في الكتب القديمة. قال إن كولومبيا تريد علاقة ندية، لا علاقة تُكتب ملاحظاتها في مكاتب السفارات.
في تلك اللحظة بدا أن القارة التي كانت تسمى الحديقة الخلفية تعيد تصميم نفسها. لا على قاعدة العداء، بل على قاعدة الاستقلال. وكأن دماء جيفارا لم تتبخر تماما، بل بقيت كحبر خفيف على هامش التاريخ.
وفي سبتمبر من العام نفسه، حين انطلق من صقلية أسطول الصمود العالمي، كان المشهد امتدادا رمزيا لخطاب بيترو. خمسون قاربا شراعيا تحمل متطوعين من قارات العالم، يتجهون إلى غزة عبر البحر المفتوح. كان الحدث أشبه بكتابة سطر أخير في رواية تحاول إيقاظ العالم. أحد المشاركين تحدث عن سبعمائة يوم من الحصار، وعن رغبة في إثبات أن الإنسانية لم تُنس حقها في الحياة. كأن فعل الإبحار نفسه كان احتجاجا على عالم يتقلص ضميره بقدر ما تتسع شاشاته.
هكذا يتجاوز بيترو صورة الرئيس. يتحول إلى شاعر سياسي، وإلى شاهد على زمن تتآكل فيه قيم الليبرالية الغربية عند أول اختبار للعدل. وعندما يقول إن الإنسان الحر أقوى من إمبراطورية من الصمت، فإن العبارة لا تبدو شعارا، بل خلاصة لقرن كامل من التناقضات بين الصورة والواقع.
المعركة التي يخوضها ليست معركة دولة، بل معركة مفردة في مواجهة منظومة. فالعالم الذي يتسلل فيه الاقتصاد إلى روح السياسة يفقد القدرة على رؤية الإنسان. وبيترو يعيد التذكير بأن الحرية ليست امتيازا، بل شرط وجود. وأن الكلمة التي تُقال في وجه السلطة تصبح فعلا، مهما بدا ضعيفا، لأنها تكسر الصمت مرة واحدة، وربما تفتح بوابة يمكن أن يمر منها مستقبل مختلف.
وفي النهاية، يبدو الرجل كمن يكتب قصيدة على هامش سجل الدول. قصيدة تحاول إنقاذ ما تبقى من فكرة العدالة. ليس بوصفه بطلا، بل بوصفه إنسانا قرر أن يقول لا في اللحظة التي يهرب فيها الجميع من قولها.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ورقة جمعية- ...الأمهات اللواتي يصنعن العالم ثم يغيبن في صمت
- -ولاد الشمس- ... محمود حميدة وموسيقى الشر السيمفوني
- -قهوة المحطة- .. تراجيديا معاصرة في فضاء القهوة المظلم
- -6 أيام- .. سينما العاشق المتأخر
- عروستي .. حين يتوه الإبداع في متاهات الترفيه السهل
- فوز ممداني .. انعطافة سياسية في عاصمة المال الأمريكي
- مؤتمرا شرم الشيخ : سلام حقيقي أم حلقة مفرغة ؟ قراءة في استمر ...
- ن أجل زيكو : حين يضحكك الفقر وتخفى الحقيقة
- الأسرة في مرآة الشاشة ... من حلم جماعي إلى عزلة وجودية ، قرا ...
- العبودية المختارة .. الكتاب الذي هز عرش الطغاة
- قراءة في كتاب -الثورة المضادة في مصر
- العلاقة الاردنية السورية والقلق المشترك
- حوار مع الشاعر والكاتب المسرحي مهدى بندق
- الحضارة الشرقية غنية بأشكال ما قبل المسرح


المزيد.....




- أشبه بمركبة فضائية..تونسية تخوض تجربة فريدة داخل فندق كبسولة ...
- تحليل: ترامب يواجه تصدعات في قاعدته المؤيدة MAGA مع عودته إل ...
- ارتكبت -جرائم ضد الإنسانية-.. الحكم على رئيسة وزراء بنغلاديش ...
- مراسلة CNN تتعقّب الفتى الفرنسي -الأنيق- الذي ظهر في صورة بع ...
- للتوقيع بيان مشترك: محاكمة هدى عبد المنعم للمرة الثالثة
- من هي الشيخة حسينة التي حكم عليها قضاء بنغلاديش بالإعدام؟
- -المجد أوروبا-.. تحقيق يكشف عن شبكة مشبوهة تهجر الفلسطينيين ...
- تطور مفاجئ .. ترامب يدعو إلى التصويت لصالح نشر وثائق إبستين ...
- زيلينسكي أمام تحدي الصمود أمام روسيا وقضايا الفساد في الداخل ...
- مسلسل El cuco de cristal: زراعة قلب واختفاء طفل وأسرار دفينة ...


المزيد.....

- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي ... / غازي الصوراني
- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عادل محمود - التأشيرة والثورة .. جوستافو بيترو يهز عرش الإمبراطورية