أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علي محمود - التاريخ بين السرد والسلطة














المزيد.....

التاريخ بين السرد والسلطة


حسين علي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 20:38
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ربما حتى قصة ليلى والذئب، هي ان ليلى رأت زوجة أباها تخونه، فهربت الى الغابة، فتبعها الحطاب عشيق زوجة اباها ليقتلها، لكن الذئب انقذها في اللحظات الأخيرة وقتل العشيق، وبعدها هربت الى جدة أباها التي لا تسمع ولا تتكلم، وعندما علم الناس بإن الذئب قاتل الرجل الحطاب الذي أراد انقاذ ليلى من الحيوان المفترس، قتلوا الذئب، وهنا اختفت الحقيقة، هذا مختصر القصة، وحتى عندما قصت الحكاية للناس، الجميع قالوا بأن الذئب هو الشرير، لذا يا عزيزي التاريخ يكتبه المنتصر دائماً.
وهكذا لا تموت القصة عند حدود الحكاية، بل تتحول إلى مرآة كاشفة لطريقة اشتغال الوعي الجمعي وللآلية التي يُعاد بها إنتاج المعنى بما يخدم الأقوى لا الأصدق.
فليلى لم تُقتل جسدياً، لكنها قُتلت رمزياً، قُتلت حين سُحبت منها روايتها وحين فُرضت عليها قصة جاهزة أكثر راحة للمجتمع، ذئب شرير، وحطاب طيب، وطفلة ساذجة تحتاج إلى إنقاذ.
هذه الصيغة البسيطة تُريح الضمير العام لأنها لا تُجبر أحداً على مواجهة الخيانة، أو العنف الأسري، أو التواطؤ الأخلاقي، أو كذب الجماعة على نفسها.
المجتمع بطبيعته، يميل إلى القصص الواضحة ذات الأدوار المحددة سلفاً، لأنه يخشى المناطق الرمادية.
الذئب في المخيال الجمعي، رمز جاهز للشر، لا يحتاج إلى تحقيق ولا إلى استماع، أما الإنسان، حتى لو كان قاتلاً أو خائناً، فيحظى بامتياز "النية الحسنة" ما دام يقف داخل الإطار المقبول اجتماعياً.
وهنا تتجلى المفارقة في الحيوان الذي أنقذ الحياة عُوقب، والإنسان الذي خان وكاد يقتل مُنح صفة البطل.
إن ما حدث مع الذئب ليس سوى نموذج مبكر لما يحدث في كل زمن حيث تُختزل الوقائع، تُنتقى الشهادات، وتُقصى الأصوات غير المرغوب فيها، حتى تتشكل رواية رسمية قادرة على العيش طويلاً.
لا لأنّها صحيحة، بل لأنها قابلة للتداول وقابلة للتعليم وقابلة للتحويل إلى "قيمة أخلاقية" تُلقّن للأطفال دون أن تطرح أسئلة مزعجة.
أما ليلى، فقد تعلمت مبكراً أن الحقيقة وحدها لا تكفي. يمكنك أن تقول الحقيقة كاملة ومع ذلك لا يصدقك أحد، لأن المشكلة ليست في الكلام، بل في الأذن التي تسمع وفي العقل الذي قرر مسبقاً ما يريد أن يسمعه.
جدتها التي لا تسمع ولا تتكلم ليست مجرد شخصية عابرة، إنها رمز لمجتمع يرى ولا يريد أن يرى، يسمع ولا يريد أن يسمع، ويصمت حين يكون الصمت شراكة في الجريمة.
من هنا، لا يعود التاريخ مجرد سجل للأحداث، بل ممارسة للسلطة.
من يملك القوة يملك السرد ومن يملك السرد يحدد من هو الضحية ومن هو الجلاد.
ومع مرور الزمن، تتحول الرواية المنتصرة إلى حقيقة بديهية، وأي محاولة لإعادة قراءتها تُعد خيانة، أو تشويشاً، أو خطراً على النظام الرمزي القائم.
لهذا، فإن إعادة تأويل الحكايات القديمة ليست عبثاً فكرياً، بل فعل مقاومة، إنها محاولة لرد الاعتبار للأصوات التي سُحقت وللكائنات التي وُسمت بالشر لأنها لم تكن تملك لغة البشر ولا أدواتهم.
وربما كان الذئب في نهاية المطاف أقل وحشية من الجماعة التي قتلته باسم الفضيلة.

وإذا خرجنا من حدود الحكاية إلى ما يشبهها في التاريخ القريب، سنجد أن القصة لم تتغير، بل تغيّرت فقط أسماؤها.
وليس ما جرى في حكاية ليلى والذئب استثناءً بريئاً، بل نموذجاً أولياً لما تكرر لاحقاً في التاريخ، حيث طُمست أحداث كاملة وأُعيد تلوين الوقائع وقُسمت الشخصيات إلى بيضاء وسوداء بما يخدم الرواية الأقوى لا الحقيقة الأصدق.
كثير من القصص التي أحاطت بشخصيات وأحداث كُتبت بمداد المنتصر، فاختفت حقائق واستُبدلت بأخرى مغايرة تماماً، حتى بات الزيف مألوفاً والصدق موضع شك.
وما نعيشه اليوم ليس بعيداً عن ذلك، بل هو الدليل الأوضح على سرعة تبدل الفهم رغم أن الواقع ما يزال واقعاً، لم يمضِ عليه عقد من الزمن.
فكم من ليلى التهمها الذئب بحجة الجوع وباسم الطبيعة الحيوانية.
وكم من ذئب تربى على أشلائنا، بينما نقول لأنفسنا، إنها مجرد جثث من الماضي، دعوه يأكل.
وحتى الآن، ما يزال بيت الجدة محتلاً.
وما تزال ليلى مشردة في الغابة، تمشي بين ليلٍ مخيف، ونهارٍ حذر.
بينما تُروى الحكاية ذاتها، بذات البراءة المصطنعة وذات الذئب الجاهز وذات الصمت الذي يُقدم على أنه حكمة، وهو في حقيقته شراكة مؤجلة في الجريمة.

وهكذا يا عزيزي، لا يكتفي التاريخ بأن يكتبه المنتصرون، بل يدرّسونه ويقدّسونه ويعاقبون من يشكك فيه.
أما الحقيقة، فغالباً ما تبقى في الغابة، تنزف بصمت، بانتظار من يملك الشجاعة لا ليستمع إليها فقط، بل ليصدقها أيضاً.



#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القيم الإنسانية والتنظيم الديني
- السنافر كمنظومة رمزية سلطوية
- العلاقات العاطفية والذكاء الاصطناعي
- أوكرانيا وصراع المستقبل الجيوسياسي
- التسول الممنهج وتفكيك المجتمع
- استعراض المسؤول وصناعة الوهم السلطوي
- طغيان الولاء وموت العقل
- خرائط الشخصية وأنماط الذات
- هندسة الوعي في الفضاء الرقمي
- زيارة محمد بن سلمان لواشنطن، مقاربة في العلاقات الدولية
- دور الأسرة ضمن منظومة الأمن الفكري والمجتمعي، مقاربة تحليلية ...
- سفاري الموت، الحرب والوحشية الإنسانية
- الموصل وصراع التمثيل السياسي
- تفكيك العلاقة السلطوية بين المسؤول والمواطن في مجتمعات العال ...
- زهران ممداني وتجسيد فكرة -أميركا الممكنة- في مواجهة -أميركا ...
- الدين والمجتمع بين الوعي والإخضاع، قراءة في آليات الاستغلال ...
- قراءة سياسية وإستراتيجية لإنسحاب حزب العمال الكردستاني إلى ش ...
- المواطنة الرقمية بين الحرية والمسؤولية
- عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك
- هرم ماسلو بين الإنسان والمجتمع، مقاربة في مأزق الصعود العربي


المزيد.....




- -إحياء للقرصنة في الكاريبي-.. ماذا قالت روسيا عن الحصار الأم ...
- إصابة رضيعة فلسطينية في هجوم لمستوطنين بالضفة الغربية.. والش ...
- السلطات اليونانية تنقذ 52 مهاجراً وتواصل البحث عن قاصر مفقود ...
- صحافي إسرائيلي عند ضريح نصرالله.. كيف وصل؟
- زيلينسكي يشير إلى محادثات -جيدة للغاية- مع ويتكوف وكوشنر
- صراع الرهانات الدائر في إقليم دارفور
- مخاوف التقسيم.. ماذا بعد تمدد قوات الدعم السريع في دارفور؟
- قطر تعرب عن دعمها الكامل لجهود تعزيز السلم في اليمن
- بولندا تعترض طائرة استطلاع روسية فوق بحر البلطيق
- نتنياهو يحضّر لقمة ترامب ويكشف شرط الانتقال للمرحلة الثانية ...


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علي محمود - التاريخ بين السرد والسلطة