أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين علي محمود - التسول الممنهج وتفكيك المجتمع














المزيد.....

التسول الممنهج وتفكيك المجتمع


حسين علي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 12:47
المحور: المجتمع المدني
    


لم يعد التسول في الشوارع والأزقة والتقاطعات المرورية ظاهرة فردية ناتجة عن الحاجة والفقر فحسب، بل تحول في العديد من البلدان ومنها بعض البلدان العربية إلى منظومات منظمة تدار بعقلية مافيوية تمتلك القدرة على التخطيط، والانتشار، والتحكم بالمشهد العام.
ومع تعقد البنى الاجتماعية وغياب الرقابة الفعّالة وجدت هذه الشبكات فسحة واسعة لتتجذر وتتمدد، حتى أصبحت جزءاً من المشهد اليومي في المدن.

حين تراقب المتسولين في الشوارع والتقاطعات، سرعان ما تكتشف أن هناك إدارة محكمة تقف خلف هذه الظاهرة.
- توزيع دقيق للمواقع الحيوية.
- متابعة يومية للعائدات.
- نقل منظم للمتسولين من مكان لآخر.
- إشراف وفرض حصصاً مالية على كل فرد.
لو نلاحظ إنها ليست حالات فردية، بل مشروع اقتصادي غير قانوني يستثمر في هشاشة الإنسان ويحول الألم إلى مورد ربحي طويل الأمد.

قد يستغرب البعض من صمود هذه المافيات رغم الحملات الأمنية المتكررة، لكن الحقيقة التي تؤكدها الوقائع الاجتماعية أن الجهات ذات النفوذ من بعض السياسيين، وشخصيات اجتماعية، وحتى بعض المنتمين إلى مؤسسات الدولة، تُقدم لهذه الشبكات الحماية والدعم مقابل حصص مالية أو خدمات أخرى بالطرائق التالية :
- غض الطرف عن نشاطهم في مناطق محددة.
- تسوية قضايا قانونية تتعلق بأفراد هذه الشبكات.
- توفير وثائق ثبوتية تُسهل الحركة والتنقل.
- إشراك هذه المجموعات في أعمال أخرى كالتهريب والترويج أو نقل المعلومات.
وهكذا يتزاوج الفساد الاجتماعي بالفساد المؤسسي، فتولد بنية متماسكة يصعب تفكيكها.

■ كيف تُعيد هذه المافيات تشكيل الوعي الجمعي؟!
لا يتوقف التأثير عند حدود الفوضى البصرية أو الإزعاج العام، بل يمتد إلى النسيج الثقافي والمعرفي للمجتمع عن طريق التالي :
- حين يرى الطفل منذ صغره عشرات المتسولين في كل إشارة مرور، تتشكل لديه صورة مشوهة عن المجتمع، فيصبح الفقر شيئاً عادياً، والعجز يتحول إلى قدر، والعمل يتراجع أمام سهولة الحصول على المال عبر استعطاف الآخرين.
- من المعروف أن التسول قائم على اللعب بالمشاعر وهذا ينتج مجتمعاً يميل إلى التعاطف العشوائي بدلاً من التضامن البناء.
ومع الوقت يتحول هذا التعاطف إلى سلوك مستنزف يجعل المواطن عاجزاً عن التمييز بين المحتاج الحقيقي والمستغل.
- حين يلاحظ الناس أن هذه الشبكات تعمل بلا رقيب، وأن القانون لا يطبق على الجميع، تتآكل الثقة بالدولة وقدرتها على ضبط الشارع.
وهنا تبدأ عملية خطيرة، تحويل القانون إلى فكرة هشة، والإيحاء بأن القوة والمال أهم من النظام.
- في مجتمع تحكمه شبكات من هذا النوع، تظهر ثقافة موازية، مثل (ثقافة السرية، الخضوع للمتنفذين، وقبول الظلم باعتباره قدراً اجتماعياً.)
هذه الثقافة تخلق أجيالاً تنمو في هامش الدولة، لا تنتمي لمدارسها الفكرية ولا لمؤسساتها.

إن وجود مافيات التسول في الشوارع هو في الحقيقة اعتداء على المجال العام، أي على المساحة المشتركة التي يفترض أن يشعر فيها المواطن بالأمان، لكن هذه المافيات تُحول تلك المساحة إلى بيئة خانقة، فيشعر المواطن بالمطاردة والاستنزاف، الحركة في الشوارع تصبح أقل راحة، النساء والأطفال يتعرضون لتحرش لفظي أو مضايقات متكررة، والسياح يُصدمون بمشهد يُظهر المدينة وكأنها بلا نظام.
إنها ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل احتلال بطيء للفضاء الحضري.
لا يمكن فهم هذه المافيات من دون الإشارة إلى البيئة التي تسمح لها بالانتعاش، فعدنما يكون هناك فقر حقيقي يدفع بعض العائلات إلى ترك أطفالها في أيدي العصابات، ضعف القانون وقلة المتابعة، تداخل الفساد مع العمل الأمني والإداري، واقتصاد غير رسمي ضخم يوفر لهذه العصابات مصادر تمويل وحماية، كل هذه العناصر تشكل أرضاً خصبة للتمدد.

إن ما يخسره المجتمع ليس مالياً فقط، بل :

- خسارة أخلاقية حين يتحول الإنسان إلى سلعة.
- خسارة ثقافية حين تشوه العصابات صورة الفقر والعمل.
- خسارة تربوية حين ينشأ الأطفال وهم يشاهدون الغش باعتباره عملاً يومياً.
- خسارة سياسية حين يتعايش المجتمع مع نفوذ موازٍ لنفوذ الدولة.

لا يكفي جمع المتسولين من الشوارع، فهذه المافيات ستعود في اليوم التالي بأفراد جدد، فالحل يحتاج :
- تجفيف منابع القوة عبر ملاحقة الداعمين والجهات المتنفذة.
- برامج حماية اجتماعية حقيقية تُنقذ الفئات الضعيفة من براثن العصابات.
- حملات توعية تعيد ضبط العلاقة بين الفقر والكرامة والعدالة.
- تفعيل القانون بلا استثناءات.

لذا، إن مافيات التسول ليست مجرد مجموعات من المحتاجين في الشوارع، بل تجسيد لصراعٍ أكبر بين المجتمع والقوى التي تُنتج الفوضى وتستثمر فيها.
وحين تتغلغل هذه الشبكات في الشوارع والأزقة والتقاطعات، فإنها لا تسرق المال فقط، بل تسرق الوعي وتشوه الثقافة وتضعف النسيج الاجتماعي.
ومواجهة هذا الخطر تتطلب إرادة سياسية ووعياً مجتمعياً ورؤية ثقافية تعيد الاعتبار لفكرة الدولة وللقانون وللكرامة الإنسانية.



#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استعراض المسؤول وصناعة الوهم السلطوي
- طغيان الولاء وموت العقل
- خرائط الشخصية وأنماط الذات
- هندسة الوعي في الفضاء الرقمي
- زيارة محمد بن سلمان لواشنطن، مقاربة في العلاقات الدولية
- دور الأسرة ضمن منظومة الأمن الفكري والمجتمعي، مقاربة تحليلية ...
- سفاري الموت، الحرب والوحشية الإنسانية
- الموصل وصراع التمثيل السياسي
- تفكيك العلاقة السلطوية بين المسؤول والمواطن في مجتمعات العال ...
- زهران ممداني وتجسيد فكرة -أميركا الممكنة- في مواجهة -أميركا ...
- الدين والمجتمع بين الوعي والإخضاع، قراءة في آليات الاستغلال ...
- قراءة سياسية وإستراتيجية لإنسحاب حزب العمال الكردستاني إلى ش ...
- المواطنة الرقمية بين الحرية والمسؤولية
- عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك
- هرم ماسلو بين الإنسان والمجتمع، مقاربة في مأزق الصعود العربي
- قمة شرم الشيخ 2025، إعادة هندسة النظام الإقليمي من بوابة غزة
- نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان
- جيل Z في المغرب والعراق، من العالم الرقمي إلى الميدان الاجتم ...
- جيل Z والمظاهرات في المغرب، من العالم الرقمي إلى الميدان
- عودة العقوبات الأممية عبر -آلية الزناد-، تداعيات اقتصادية وس ...


المزيد.....




- من هو برهم صالح الذي تولى منصب مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللا ...
- تقييم لاستراتيجية الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين .. ما الجدي ...
- السعودية.. الداخلية تعلن إعدام مواطن -تعزيرا- وتكشف عن اسمه ...
- العراق يؤكد شراكته مع الأمم المتحدة رغم انتهاء بعثة يونامي
- الأمم المتحدة: التوسع الاستيطاني الإسرائيلي يبلغ مستوى قياسي ...
- الإغاثة الطبية في غزة: موجة الأمطار الأخيرة كشفت فشل الحلول ...
- عائلات الأسرى الإسرائيليين تتهم نتنياهو بالإهمال بعد وفاة مح ...
- لجنة الأمم المتحدة تصل القنيطرة لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلي ...
- كاتب بريطاني: على أوروبا فتح الأبواب أمام المهاجرين
- يونيسف تحذر من تفشي الأمراض بين أطفال غزة


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين علي محمود - التسول الممنهج وتفكيك المجتمع