أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين علي محمود - نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان














المزيد.....

نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان


حسين علي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 22:49
المحور: المجتمع المدني
    


إن نظرية النوافذ المكسورة (Broken Windows Theory) التي وضعها جيمس كيو ويلسون وجورج كيلنغ في الثمانينيات، وهي واحدة من أكثر النظريات الاجتماعية إثارة للجدل والتأمل في آنٍ معاً.
في أصلها، كانت النظرية تفسيراً لسلوك المجتمعات الحضرية، وكيف يمكن لإهمال تفصيل بسيط مثل نافذة مكسورة في شارع أن يقود إلى سلسلة من الفوضى والانحلال، لأن الفوضى الصغيرة تزرع رسالة خفية "لا أحد يهتم."

■ من الفكرة إلى النظرية
طرح ويلسون وكيلنغ فرضيتهما الشهيرة عام 1982 في مقال بمجلة The Atlantic Monthly.
شبّها المجتمع بمبنى، إذا كُسرت نافذة ولم تُصلح، فإن بقية النوافذ سرعان ما تُكسر، لأن الإهمال يرسل إشارة بأن النظام غائب والرقابة منعدمة.
الفكرة الجوهرية إذن، أن المظاهر الصغيرة للفوضى (كالكتابة على الجدران، تراكم النفايات، التسول، الضجيج، أو السلوكيات غير المنضبطة) تُضعف شعور الناس بالانتماء والمسؤولية، وتخلق بيئة مشجعة للجريمة.

تُعرف هذه الآلية في علم الاجتماع بـ تآكل الضبط الاجتماعي وفي علم النفس بـ الإشارات الرمزية، التي تبرمج سلوك الإنسان ضمن محيطه.
فإذا كانت البيئة فوضوية، شعر الفرد أن لا أحد يراقب، وأن تجاوز القواعد أمر مألوف.

■ التجربة التطبيقية، من النظرية إلى الممارسة العملية
أشهر تطبيق عملي للنظرية جرى في نيويورك في التسعينيات، حين تبنت الشرطة سياسة "الشرطية المجتمعية" القائمة على محاربة المخالفات الصغيرة، القفز فوق بوابات المترو، الكتابة على الجدران، والتشرد في الشوارع.
وبالفعل، انخفضت معدلات الجريمة بشكل ملحوظ، فظن البعض أن النظرية أثبتت نجاحها الكامل.
لكن لاحقاً تبين أن الانخفاض ارتبط أيضاً بعوامل اقتصادية وديموغرافية أخرى، ما جعل العلاقة بين النظرية والنتائج محل جدل علمي واسع.

■ النقد والتحولات الحديثة
رغم حضورها القوي، تعرضت النظرية إلى انتقادات أكاديمية متعددة :
- إنها تخلط بين السبب والنتيجة، إذ يرى بعض الباحثين أن الفوضى والجريمة كلاهما نتيجة للفقر وضعف المؤسسات، لا أن الفوضى سبب مباشر للجريمة.
- كما أن بعض تطبيقاتها الميدانية أدت إلى تمييز اجتماعي ضد الفقراء والمهمشين، عندما فُسرت على نحو عقابي لا إصلاحي.
- وأخيراً، يرى آخرون أن التركيز على المظهر النوافذ المكسورة دون الجوهر (العلاقات الاجتماعية، العدالة، التعليم، والخدمات) يجعلها علاجاً شكلياً لمشكلة بنيوية.

مع ذلك، لم تمت النظرية، بل تطورت، فالبحوث الحديثة تؤكد أن معالجة الفوضى المادية تنجح فقط حين تدمج بسياسات العدالة الاجتماعية وبناء الثقة بين المواطن والدولة.
بمعنى آخر، إصلاح النوافذ ضروري، لكن الأهم أن يكون هناك من يسكن البيت بكرامة.

■ من المدينة إلى الإنسان، النوافذ الداخلية المكسورة
لكن حين نتأمل أعمق، نكتشف أن النظرية لا تتحدث فقط عن المدن، بل عن الإنسان ذاته.
ففي داخل كل منا نوافذ مكسورة قد لا نلتفت إليها، فكرة مهملة، عادة سيئة صغيرة، علاقة مؤذية، أو تهاون بسيط في احترام ذواتنا.
نتركها لأننا نظن أنها لا تؤذي، لكنها ببطء تُفسد النظام الداخلي الذي يمنحنا السلام والاتزان.
وهكذا تبدأ الفوضى النفسية، لا من الصدمات الكبرى، بل من التهاون المتكرر في التفاصيل الصغيرة التي نظن أنها لا تعني شيئاً.
وكما أن مدينة نظيفة تشع بالنظام فتدفع أهلها إلى السلوك المسؤول، فإن الإنسان الذي يرمم نوافذه الداخلية، أفكاره، عاداته، كلماته، يصبح أكثر انضباطاً وثقة وسلاماً.

■ من النوافذ إلى المرايا، التحول الرمزي
لماذا تنجح مدن مثل سنغافورة أو طوكيو في الحفاظ على نظافتها رغم كثافة سكانها، بينما تفشل مدن أخرى رغم وجود قوانين صارمة؟!
النجاح لا يكمن في شدة العقوبة، بل في ثقافة الاحترام المتبادل للمكان العام.
حين يشعر المواطن أن الشارع ملك له كما هو ملك لغيره، يصبح حارساً طوعياً له، لا متعدياً عليه.

وربما حان الوقت لأن نعيد صياغة النظرية لتصبح "نظرية المرايا المكسورة"، لأن الشوارع الفوضوية ليست سوى مرايا تعكس تصدعنا الداخلي كمجتمعات وأفراد.
إصلاح مرايانا يبدأ بخطوة بسيطة :
- ألا نرمي علبة مشروب في الشارع
- ألا نضع إعلاناً عشوائياً على جدار عام
- ألا نقود بسرعة مميتة لإثبات التفوق
- وألا نلقي نفاياتنا من نافذة السيارة وكأننا فوق المحاسبة.

هذه ليست تفاهات، بل أساسات بناء المجتمع المدني الحديث، فالمدينة ليست فقط مكاناً نعيش فيه، بل مرآة لما نحمله في داخلنا.
وطالما كانت مرايانا الداخلية مكسورة، ستبقى نوافذ مدننا تُرزح تحت وطأة الفوضى التي صنعناها بأيدينا.

الخلاصة :
تعلمنا نظرية النوافذ المكسورة أن الإهمال في التفاصيل الصغيرة يولد كوارث كبيرة، سواء في عمران المدن أو في نفوس البشر.
إصلاح العالم يبدأ من إصلاح الأشياء الصغيرة التي نظنها تافهة من نافذة، من فكرة، من كلمة، من عادة.
فالمدينة التي تصلح نوافذها، والإنسان الذي يرمم نفسه، كلاهما يسهم في بناء عالم أكثر اتزاناً وعدلاً وسلاماً.



#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جيل Z في المغرب والعراق، من العالم الرقمي إلى الميدان الاجتم ...
- جيل Z والمظاهرات في المغرب، من العالم الرقمي إلى الميدان
- عودة العقوبات الأممية عبر -آلية الزناد-، تداعيات اقتصادية وس ...
- الشرع وبتريوس، مشهد يختصر تبدل موازين السياسة الدولية
- باغرام جوهرة استراتيجية، دلالات الموقع وابعاد الصراع في معاد ...
- اتفاقية الدفاع السعودي الباكستاني، قراءة تحليلية في إعادة تش ...
- اليوم العالمي للديمقراطية، قراءة نقدية للواقع العراقي
- الخطاب الديني والسياسي واثرهما في تشكيل الوعي الجمعي
- تشارلي كيرك وصراع النخب الأمريكية
- الضربة الإسرائيلية على قطر، قراءة في الأبعاد الاستراتيجية وا ...
- الاستعراض العسكري الصيني 2025، بين رسائل الردع وإعادة تشكيل ...
- ازدراء الأديان، دراسة تحليلية في الأبعاد الفكرية والاجتماعية ...
- إيران بين آلية السناب باك واحتمالات الحرب، قراءة في الدوافع ...
- سيداو من النص الدولي إلى الواقع الأسري، قراءة تحليلية نقدية
- نظرية البجعة السوداء، بين اللامتوقع وصناعة التحولات الكبرى
- إعادة التموضع الأميركي في العراق، قراءة استراتيجية لانسحاب 2 ...
- قمة ألاسكا 2025، توازنات كبرى وانعكاسات إقليمية
- الدولة والدولة العميقة، قراءة تحليلية في بنية السلطة الخفية
- نظرية تأثير الفراشة، قراءة فكرية في الفوضى والنظام
- الثعلب والقنفذ، رؤية استراتيجية معاصرة


المزيد.....




- مطالب بالإفراج عن مغربيين شاركا في أسطول الصمود ومعتقلين بإس ...
- آلة الإعدام الإيرانية.. فرط نشاط يحصد أرواح المئات
- مطالب بالإفراج عن مغربيين شاركا بـ-أسطول الصمود- ومعتقلين بإ ...
- تحذير من تفشي المجاعة في محافظة غزة نتيجة الحصار الإسرائيلي ...
- كم بلغ عدد المعتقلين في الضفة الغربية منذ طوفان الاقصى؟
- وفود جديدة وتبادل لكشوف الأسرى بثالث أيام التفاوض بشرم الشيخ ...
- مركز حقوقي: مهاجمة إسرائيل أسطول الحرية انتهاك جسيم للقانون ...
- حركة -جيل زد 212- يتظاهرون في المغرب لليوم العاشر تواليا
- إقلاع الطائرة الـ18 من الحرس الجوي الكويتي الثاني بـ10 أطنان ...
- السفير الأسعد: بحثنا مع مديرة الأونروا في لبنان سبل دعم المخ ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين علي محمود - نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان