أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين علي محمود - عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك














المزيد.....

عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك


حسين علي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 22:12
المحور: المجتمع المدني
    


يقول جورج كارلين :
"الوعي هو أن تدرك أن فقرك ليس قلة حظ، بل نتيجة خطة، إنهم لا يريدونك مواطناً متطوراً، بل عاملاً منهكاً. فالشخص المشغول بالبقاء على قيد الحياة لا يملك وقتاً للمطالبة بحقوقه."

هذا القول لا يمكن قراءته كمجرد نكتة سوداء أو نقد ساخر للنظام الرأسمالي، بل كمدخل فلسفي وسوسيولوجي لفهم البنية الذهنية التي تُنتج الخضوع الاجتماعي.
هنا، كارلين يلامس جوهر ما وصفه بيير بورديو بـ"العنف الرمزي"، أي تلك الآليات غير المرئية التي تعيد إنتاج الفقر والتبعية عبر أدوات ناعمة كالثقافة، والإعلام، والتعليم، والعمل.

إن الفقر، وفق هذا المنظور، لا يختزل في غياب المال، بل يتجلى كبنية ذهنية ونفسية تدار بإتقان لإبقاء الإنسان في حالة إنهاك دائم، فحين يصبح البقاء هو الهدف الأسمى، يتعطل التفكير النقدي، ويتحول الوعي من أداة للتحرر إلى وسيلة للبقاء. إنها، بتعبير هربرت ماركوز، حالة "الإنسان ذي البُعد الواحد" الذي لا يرى من العالم سوى الضروري لاستمراره.

من الزاوية النفسية، تشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن الحرمان المستمر يخلق ما يعرف بـ "الاحتراق الوجودي"، وهي حالة من الإنهاك الداخلي تفقد الإنسان قدرته على الحلم أو الثورة، فالعقل المنهك لا يفكر، بل يتكيف.
وهنا يتحول الفقر من حرمان مادي إلى تجويع للكرامة والإرادة.

أما على المستوى الاجتماعي والسياسي، فالفقر يدار كأداة ضبط، لا كخلل اقتصادي، فالمجتمع النيوليبرالي يقوم على ما يسميه علماء الاجتماع "الإشباع المؤجل"، أي منح الأفراد جرعات من الأمل الزائف تكفي لإبقائهم في حالة سعي دائم، من دون بلوغ حقيقي، وهكذا يصبح الفقر وظيفة بنيوية للنظام، وسيلة للحفاظ على اتزانه واستمراريته.

ولعل أخطر ما في هذه المنظومة أنها لا تكتفي بصناعة الفقر، بل تصنع القبول به، عبر خطاب ثقافي متكامل يُعيد تشكيل الوعي الجمعي. فوسائل الإعلام، ومناهج التعليم، وحتى الخطابات الدينية والمؤسسات الأخلاقية، تُسهم في تطبيع الفقر بوصفه نتيجة طبيعية للتفاوت في القدرات أو "ابتلاءً إلهيًا"، وليس كنتاجٍ لعلاقات قوة غير متكافئة.
هنا يتجلى ما يسميه أنطونيو غرامشي بـ "الهيمنة الثقافية"، أي السيطرة على العقول قبل السيطرة على الموارد. فحين يقتنع الناس بأن مواقعهم الطبقية قدر لا يُغيّر، تصبح المقاومة ضربًا من العبث، ويُعاد إنتاج النظام من داخل وعي المقهورين أنفسهم.

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى "الوعي الزائف" بوصفه أخطر أشكال الاستلاب، إذ يُفرغ الإنسان من قدرته على مساءلة ما حوله. إنه وعي مُدار ومُصمَّم بعناية، لا يفرضه القهر المباشر، بل يُغرس في النفس عبر منظومة الرموز والإعلانات والأحلام الجاهزة. فالفرد في المجتمع الاستهلاكي، كما يرى زيغمونت باومان، يُربّى على "الاشتهاء الدائم" بدل الفهم الدائم، وعلى البحث عن ذاته في ما يملك لا في ما يكون، ليبقى في دائرة الحاجة والقلق، وهي الدائرة التي تحفظ للنظام حيويته واستمراريته.

إنّ ما يطرحه كارلين يتجاوز نقد الرأسمالية بوصفها نظامًا اقتصاديًا إلى فضحها كمنظومة قيمية وأخلاقية تُنتج الإنسان على مقاس السوق. فالإنسان لم يعد كائنًا حرًّا يسعى إلى المعنى، بل مُستهلكًا يسعى إلى البقاء داخل اللعبة. ولذا، فإن استعادة الوعي لا تعني فقط إدراك الظلم، بل تفكيك الخطاب الذي يبرر هذا الظلم. وهذا ما يجعل من الفلسفة والاجتماع والنقد الثقافي أدوات للمقاومة بقدر ما هي أدوات للفهم.

إن مقاومة الفقر المعاصر ليست في الثروة وحدها، بل في القدرة على إعادة تعريف الغنى نفسه: أن يكون الغنى في الوعي، والقدرة على السؤال، والرفض، وإنتاج بدائل معرفية تعيد للإنسان مركزه في العالم. فالتحرر لا يبدأ من الجيب، بل من اللغة التي نصف بها أنفسنا والعالم. واللغة، كما يقول ميشيل فوكو، ليست أداة للتعبير فحسب، بل أداة للسلطة، ومن يمتلكها يمتلك تعريف الحقيقة.

من هنا، تصبح مهمة الوعي الجمعي هي كسر هذا التواطؤ الخفي بين السلطة والفقر، بين الخطاب والواقع. فالفقر ليس قدراً، بل بناء اجتماعيٌّ محكم الأركان، لا يُفكك إلا حين يعي الفقير أنه ليس وحده في معركته، وأن "النجاة الفردية" وهمٌ آخر من أوهام السوق.
وعند هذه اللحظة، يتحول الوعي من معرفة إلى قوة تحرر، ومن إدراك إلى فعل مقاومة، فليس أخطر على الأنظمة من إنسانٍ يفتح عينيه جيدًا على ما أرادوا له أن لا يراه.

من منظور أدبي وفلسفي، يمكن قراءة هذا النص كصرخة وجودية ضد العبودية الحديثة، حيث يختزل الإنسان إلى ترس في آلة ضخمة، يُنتج ويستهلك ولا يعي ذاته.
إنها عبودية ناعمة، تحكم لا بالسلاسل الحديدية، بل بقيود الوعي المزيف.
حين يقتنع الفقير بأن بؤسه قدر، يصبح هو السجان والمعذب في آنٍ واحد.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن معركة الإنسان المعاصر لم تعد فقط مع الجوع، بل مع المنظومة التي تعيد إنتاج وعي الجوع.
وحين يقول كارلين إنهم لا يريدونك مواطناً متطوراً، فهو يوجز الحقيقة كلها: فالمواطن الواعي يُسائل، والمثقف يُشكك، والمستنير لا يُقاد.
لذلك، فإن أول أشكال المقاومة ليست اقتصادية، بل معرفية. أن تدرك أن الفقر سياسة، وأن استعادة الوعي هي الفعل الثوري الأول، لذا التحرر يبدأ من العقل الذي يفهم من يُفقِره، وكيف، ولماذا.



#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هرم ماسلو بين الإنسان والمجتمع، مقاربة في مأزق الصعود العربي
- قمة شرم الشيخ 2025، إعادة هندسة النظام الإقليمي من بوابة غزة
- نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان
- جيل Z في المغرب والعراق، من العالم الرقمي إلى الميدان الاجتم ...
- جيل Z والمظاهرات في المغرب، من العالم الرقمي إلى الميدان
- عودة العقوبات الأممية عبر -آلية الزناد-، تداعيات اقتصادية وس ...
- الشرع وبتريوس، مشهد يختصر تبدل موازين السياسة الدولية
- باغرام جوهرة استراتيجية، دلالات الموقع وابعاد الصراع في معاد ...
- اتفاقية الدفاع السعودي الباكستاني، قراءة تحليلية في إعادة تش ...
- اليوم العالمي للديمقراطية، قراءة نقدية للواقع العراقي
- الخطاب الديني والسياسي واثرهما في تشكيل الوعي الجمعي
- تشارلي كيرك وصراع النخب الأمريكية
- الضربة الإسرائيلية على قطر، قراءة في الأبعاد الاستراتيجية وا ...
- الاستعراض العسكري الصيني 2025، بين رسائل الردع وإعادة تشكيل ...
- ازدراء الأديان، دراسة تحليلية في الأبعاد الفكرية والاجتماعية ...
- إيران بين آلية السناب باك واحتمالات الحرب، قراءة في الدوافع ...
- سيداو من النص الدولي إلى الواقع الأسري، قراءة تحليلية نقدية
- نظرية البجعة السوداء، بين اللامتوقع وصناعة التحولات الكبرى
- إعادة التموضع الأميركي في العراق، قراءة استراتيجية لانسحاب 2 ...
- قمة ألاسكا 2025، توازنات كبرى وانعكاسات إقليمية


المزيد.....




- إعلام الأسرى: جثامين مكبلة وعليها آثار تعذيب.. دعوات لتحقيق ...
- إصابة شاب واعتقال آخر في قباطية
- النيابة العامة في بنغلاديش تطالب بإعدام الشيخة حسينة
- قادة الحركة الأسيرة يعانون من التعذيب والاحتجاز في السجون ال ...
- تونس: الآلاف يتظاهرون للمطالبة بتفكيك مصنع كيميائي
- صحة غزة: جثامين أسرى القطاع أعيدت وعليها آثار تعذيب وحروق
- حماس: مشاهد التعذيب على جثامين الشهداء إبادة جماعية ارتكبها ...
- الاحتلال يمدد اعتقال الطبيب حسام أبو صفية 6 أشهر
- القرار رقم 2758 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يق ...
- الاحتلال يمدد اعتقال الطبيب حسام أبو صفية 6 أشهر


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حسين علي محمود - عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك