أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسين علي محمود - تفكيك العلاقة السلطوية بين المسؤول والمواطن في مجتمعات العالم الثالث














المزيد.....

تفكيك العلاقة السلطوية بين المسؤول والمواطن في مجتمعات العالم الثالث


حسين علي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 16:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


منذ عقود طويلة، تتكرر في مجتمعاتنا العربية نفس المشهد مسؤول متورم بالسلطة، ومواطن هزيل تحت وطأة الحاجة. مشهد يبدو وكأنه قانون ثابت لا يتغير بتبدل الحكومات أو الأنظمة، بل يعيد إنتاج نفسه في كل حقبة بأسماء جديدة ووجوه مختلفة.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس سياسيا فحسب، بل سوسيولوجي ونفسي وأخلاقي في آنٍ واحد:

- لماذا هذه العلاقة العدائية والمستمرة لعقود بين المسؤول المنتفخ المتورم والمواطن الهزيل ؟!
- لماذا المنصب يعمي البصيرة ؟!
- لماذا المسؤول يشعر بخشونة ثوب الأمانة الذي يلبسه إلى الحد الذي يضطره لخلعه وارتداء الناعم من الأثواب المنزوعة الأمانة ؟!

هذه الأسئلة الثلاثة تشكل مدخلا لتحليل ديناميات السلطة في المجتمعات التي لم تنجح بعد في تحويل المنصب من امتياز إلى واجب، ومن سلطة إلى خدمة عامة.

■ البنية السلطوية وعقدة الهرم الاجتماعي
لفهم العلاقة المتوترة بين المسؤول والمواطن، لا بد من تفكيك البنية العميقة التي تنتجها، وهي ما يمكن تسميته بـ "الهرمية السلطوية".
هذه الهرمية تقوم على مبدأ غير معلن مفاده أن المسؤول هو المصدر، والمواطن هو الفرع، أن الأول يمنح، والثاني يتلقى. وفي ظل غياب مؤسسات مساءلة قوية، يتحول المنصب إلى ملك خاص، لا وظيفة عامة.

في التحليل السوسيولوجي، هذه الظاهرة تفسر بما يعرف بـ "الثقافة الأبوية للسلطة" وهي ثقافة تتعامل مع الدولة باعتبارها ملكية شخصية تدار بالعلاقات لا بالقوانين.
في هذه الثقافة، لا ينظر إلى المواطن باعتباره شريكاً في الدولة، بل تابعاً لرموزها.
ومع مرور الزمن، تتحول العلاقة بين الطرفين إلى علاقة عدائية كامنة : المواطن يرى في المسؤول خصماً مستبداً، والمسؤول يرى في المواطن عبئاً دائم الشكوى، هكذا تتكرس دائرة الريبة المتبادلة التي تجعل من الإصلاح أمراً صعباً حتى مع تغير الوجوه.

■ كيف تُعمي السلطة البصيرة؟!
تظهر دراسات علم النفس السياسي أن السلطة تُحدث تغيراً فعلياً في الإدراك والسلوك.
الباحث الأميركي داشر كيلتنر يشير إلى أن السلطة تقلل من النشاط العصبي في المناطق المسؤولة عن التعاطف والوعي الاجتماعي داخل الدماغ، ما يجعل صاحب السلطة أقل حساسية تجاه مشاعر الآخرين وأكثر ميلاً للهيمنة.
بمعنى آخر، المسؤول لا يفقد ضميره بين ليلة وضحاها، بل يفقد تدريجياً قدرته على رؤية الواقع كما يراه الناس العاديون.
ثم تأتي البيئة المحيطة لتكمل عملية العمى الإدراكي، فالمسؤول لا يعيش بين الناس، بل داخل فقاعة من المجاملات والولاءات.
حيث كل من حوله يقدم له الواقع مصفى من شوائبه، مليئاً بالمديح والإطراء، وهكذا يصاب بما يمكن تسميته بـ "الانفصال الإدراكي عن الواقع" حالة يرى فيها العالم من خلال نوافذ مصنوعة من الزجاج اللامع، لا من الطين الحقيقي.
وفي هذه اللحظة، يصبح الكرسي ليس مجرد أداة إدارة، بل أداة عزلة، ويصبح المنصب لا يرفع المسؤول بقدر ما يفصله عن مجتمعه.

■ الأمانة بوصفها عبئاً وجودياً

حين يصف النص القرآني الإنسان بقوله : "إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب: 72)
فهو لا يتحدث عن ضعف عابر، بل عن نزعة بشرية أصيلة تجاه التهرب من الأمانة حين تصبح ثقيلة على النفس.
المسؤول الذي يدخل المنصب بلا تربية ضميرية كافية، يشعر أن الأمانة تقيده، فهي تمنعه من إشباع رغباته، وتلزمه بمعايير صارمة للعدالة والشفافية، فيبدأ بمحاولة تخفيف هذا الثوب الخشن، شيئاً فشيئاً، حتى يخلعه تماماً.

من زاوية علم النفس الأخلاقي، ما يحدث هنا يعرف بـ "التبرير الأخلاقي" فحين يخطئ المسؤول أو يختلس أو يتجاوز، فإنه لا يرى نفسه فاسداً، بل مبرراً.
يقول في داخله : "الكل يفعل ذلك"، أو "هذا حقي بعد التعب"، أو "أنا أستحق أكثر مما آخذ" وهكذا يتحول الانحراف الفردي إلى سلوك جماعي مبرر داخل منظومة كاملة فقدت حسها بالواجب.

■ المواطن الهزيل، الضحية الصامتة
المواطن، في المقابل، يعيش حالة من الهزال المعنوي، ناجمة عن فقدان الثقة في جدوى المطالبة أو التغيير، هذا الهزال ليس جسدياً فقط، بل هو أيضاً هزال في الوعي والكرامة.
حين يرى المواطن أن السلطة لا تسمع، وأن الشكوى لا تُثمر، يبدأ في الانسحاب التدريجي من الفضاء العام، ويتحول إلى كائن رمادي يعيش بين الخوف واللامبالاة.
وهكذا تُغذي البنية السلطوية نفسها، مسؤول متضخم يواجه مواطناً منكمشاً، فيستمر اختلال التوازن بين الطرفين بلا نهاية.

■ من التورم إلى التوازن، نحو مفهوم جديد للمسؤولية

الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بتبديل الأشخاص، بل بإعادة تعريف فكرة المنصب ذاتها.
المنصب ليس وسيلة لتحقيق الذات، بل اختبار لها. والمسؤول الحقيقي هو من يدرك أن الكرسي لا يمنحه قيمة، بل يختبر قيمته.
ولكي يحدث هذا التحول، لا بد من ثلاث عمليات متزامنة :
- إعادة بناء الوعي الإداري، وذلك بترسيخ ثقافة أن المنصب تكليف لا تشريف، وأن الأمانة ليست زينة أخلاقية بل جوهر القيادة.
- إرساء مؤسسات المساءلة، فغياب الرقابة يفتح الباب أمام تضخم الذات.
- إحياء الضمير الجمعي عبر إعلام وتربية ومجتمع مدني يعيدون تعريف المسؤولية في وجدان الناس كواجب إنساني، لا غنيمة سلطوية.


الخلاصة :
العلاقة العدائية بين المسؤول والمواطن ليست قدراً جغرافياً ولا لعنة تاريخية، بل نتيجة بنية فكرية يمكن كسرها.
حين يدرك المسؤول أن الأمانة، مهما كانت خشنة، هي ثوبه الحقيقي أمام الله والتاريخ، وحين يدرك المواطن أن وعيه وكرامته هما مصدر شرعية السلطة، عندها فقط تُستعاد المعادلة المفقودة بين الواجب والحق، بين القوة والضمير.
فالمسؤول بلا أمانة مجرد جسد منتفخ بالفراغ، والمواطن بلا وعي مجرد ظل هزيل لا يؤثر في مساره.
وحين يلتقي الوعي بالضمير، يمكن أن تُبنى الدولة التي يخدم فيها المسؤول شعبه، لا ذاته.



#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهران ممداني وتجسيد فكرة -أميركا الممكنة- في مواجهة -أميركا ...
- الدين والمجتمع بين الوعي والإخضاع، قراءة في آليات الاستغلال ...
- قراءة سياسية وإستراتيجية لإنسحاب حزب العمال الكردستاني إلى ش ...
- المواطنة الرقمية بين الحرية والمسؤولية
- عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك
- هرم ماسلو بين الإنسان والمجتمع، مقاربة في مأزق الصعود العربي
- قمة شرم الشيخ 2025، إعادة هندسة النظام الإقليمي من بوابة غزة
- نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان
- جيل Z في المغرب والعراق، من العالم الرقمي إلى الميدان الاجتم ...
- جيل Z والمظاهرات في المغرب، من العالم الرقمي إلى الميدان
- عودة العقوبات الأممية عبر -آلية الزناد-، تداعيات اقتصادية وس ...
- الشرع وبتريوس، مشهد يختصر تبدل موازين السياسة الدولية
- باغرام جوهرة استراتيجية، دلالات الموقع وابعاد الصراع في معاد ...
- اتفاقية الدفاع السعودي الباكستاني، قراءة تحليلية في إعادة تش ...
- اليوم العالمي للديمقراطية، قراءة نقدية للواقع العراقي
- الخطاب الديني والسياسي واثرهما في تشكيل الوعي الجمعي
- تشارلي كيرك وصراع النخب الأمريكية
- الضربة الإسرائيلية على قطر، قراءة في الأبعاد الاستراتيجية وا ...
- الاستعراض العسكري الصيني 2025، بين رسائل الردع وإعادة تشكيل ...
- ازدراء الأديان، دراسة تحليلية في الأبعاد الفكرية والاجتماعية ...


المزيد.....




- تقرير يكشف عتاد أمريكا بحربها ضد زوارق تهريب المخدرات
- قطار لا يسير على سكّة بل يتدلى منها..عراقي يوثق تجربة فريدة ...
- غارات إسرائيلية على بيت لاهيا شمال قطاع غزة.. أزمة مقاتلي حم ...
- تحطم طائرة شحن عسكرية تركية في جورجيا يودي بحياة عشرين جنديا ...
- تحول الفاشر.. السودان بين التقسيم والتصعيد
- ما تمويل المناخ وكيف يخطط العالم لدفع تكاليفه؟
- خبير توظيف: 10 مهارات تحميك من خطر الذكاء الاصطناعي
- بريطانيا تعلق التعاون الاستخباراتي مع أميركا في الكاريبي
- مقتل 20 عسكريا في تحطم طائرة شحن تركية بجورجيا
- -معجزة طبية-.. أميركية وُلدت بلا دماغ تحتفل اليوم بعيدها الـ ...


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسين علي محمود - تفكيك العلاقة السلطوية بين المسؤول والمواطن في مجتمعات العالم الثالث