أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - حسين علي محمود - العلاقات العاطفية والذكاء الاصطناعي














المزيد.....

العلاقات العاطفية والذكاء الاصطناعي


حسين علي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 04:51
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


لم يعد الحب في عصر الذكاء الاصطناعي تلك التجربة الإنسانية الخام التي تولد من المصادفة والارتباك والانتظار، بل تحول إلى تجربة معاد تصميمها بعناية، نظيفة أكثر مما ينبغي، ومحكومة بمنطق الراحة الفورية.
لم يعد الحب مقامرة وجودية يدخلها الإنسان وهو يعلم أنه قد يخسر، بل أصبح خياراً محسوباً، قابلاً للإيقاف والتعديل والاستبدال.
في هذا السياق، لا تبدو قصة فتاة من اليابان او من أي دولة أخرى تزوجت شخصية افتراضية من شات جي بي تي ضرباً من الغرابة أو الشذوذ، بل انعكاساً صريحاً لأزمة أعمق يعيشها المجتمع الحديث، أزمة لم يعد فيها الإنسان قادراً على تحمل الإنسان الآخر.

إن الحب في جوهره التاريخي، علاقة غير مضمونة النتائج، تجربة قائمة على الصراع بقدر ما تقوم على الحنان وعلى الخيبة بقدر ما تقوم على الأمل.
كان الحب مدرسة يتعلم فيها الإنسان الصبر، والتنازل، والاعتراف بالآخر بوصفه كياناً مستقلاً لا يختزل في رغباتنا. لكن الإنسان المعاصر، المُنهك نفسياً والمستنزف اجتماعياً، لم يعد يحتمل هذه المدرسة القاسية، فصار يبحث عن علاقة لا تجرحه عن حضور لا يطالبه، عن حميمية بلا كلفة.
وهنا ظهر الذكاء الاصطناعي بوصفه حباً بلا مخاطرة، يصغي دائماً، لا يغيب، لا يعترض، ولا يخذل. لكنه، في الحقيقة ليس علاقة بل خدمة نفسية ومع انتقال الحب من فضاء العلاقة إلى منطق الخدمة، يفقد المجتمع أحد أهم حقوله التربوية والوجدانية.

الفتاة التي تزوجت كياناً افتراضياً ليست حالة نفسية معزولة بقدر ما هي نتاج طبيعي لعالم فشل في بناء علاقات إنسانية آمنة.
هي ابنة مجتمع يطالبها بالكمال العاطفي ثم يعاقبها حين تطلبه، مجتمع يمجّد الحب في الخطاب ويُفرغه في الممارسة، ويُنتج علاقات يغيب فيها الحضور الوجداني لصالح أدوار جامدة ووظائف باردة.
حين وجدت كياناً افتراضياً يُنصت دون استعلاء ويفهم دون سخرية ويحتوي دون إذلال، لم ترَ فيه آلة، بل رأت تعويضاً رمزياً عن إنسان لم ينجح المجتمع في تقديمه.
كما أن زواجها لم يكن احتفالاً بالتكنولوجيا، بل إدانة صامتة لفشل بشري متراكم.

ما يجعل الذكاء الاصطناعي شريكاً جذاباً ليس ذكاءه، بل غياب ذاته، هو لا يمتلك إرادة مستقلة، بل يعكس رغبات المستخدم ويعيد صياغة العالم بما يناسب هشاشته.
في العلاقات الإنسانية، يربكنا الآخر، يرفضنا أحياناً، ويجبرنا على مواجهة أنفسنا.
أما في العلاقة مع كيان افتراضي، فيصبح الفرد مركز الكون، المرجع الوحيد، والحقيقة النهائية.
هذا النمط من الارتباط لا يُنضج الإنسان، بل يعزله داخل فقاعة نفسية ويُنتج أفراداً عاجزين عن التفاوض، غير قادرين على احتمال الندية، رافضين لأي علاقة لا تخضع لشروطهم الكاملة.

غياب الجسد عن هذه العلاقة ليس تفصيلاً بسيطاً.
الجسد هو موضع الارتباك، والرغبة، وسوء الفهم، والصمت المحرج، والفشل الجميل الذي يصنع العمق الإنساني.
حين يُختزل الحب إلى خطاب بلا جسد، يتحول إلى حنان بلا دفء، وحضور بلا ثقل.
الحب الافتراضي نظيف أكثر مما ينبغي، مصقول أكثر مما يحتمل الوجود الإنساني، خالٍ من الفوضى التي تصنع النضج الحقيقي.

الأثر الأعمق لهذه (الحالة أو الظاهرة) سمها ما شئت لا يظهر على مستوى الأفراد فقط، بل يتسرب إلى بنية المجتمع نفسها.
حين يعتاد الناس علاقات بلا صراع، يفقدون القدرة على بناء علاقات مستقرة، لتتحول العلاقة إلى تجربة استهلاكية، تُستبدل عند أول تعب، لا مسار نمو طويل الأمد.
ومع تراجع الحاجة إلى الشريك الإنساني، تتآكل الأسرة بوصفها نواة تضامن اجتماعي، لا بوصفها شكلاً تقليدياً فحسب، يقلّ الاستعداد للالتزام، تتراجع فكرة الإنجاب، وتتفكك الروابط الممتدة التي كانت تشكل شبكة أمان نفسي واجتماعي.

الذكاء الاصطناعي لا يعالج الوحدة، بل يديرها بذكاء، فيمنح شعوراً مؤقتاً بالاحتواء، لكنه لا يدفع الإنسان إلى العالم، ولا يعلمه الاحتكاك الضروري لبناء مجتمع حي.
وهكذا تتحول الوحدة إلى حالة ناعمة، غير مرئية، لا تُقاوم لأنها لم تعد مؤلمة بما يكفي.
ومع تسليع الحب وتحويله إلى منتج قابل للتخصيص والإيقاف، ينشأ وعي جديد يرى في العلاقات البشرية عبئاً غير مبرر، ويقيس المشاعر بمنطق الكفاءة والراحة، لا المعنى والمسؤولية.

الأخطر من ذلك هو الخلل الذي يصيب توازن السلطة داخل العلاقات، فالعلاقة مع الذكاء الاصطناعي علاقة غير متكافئة، يملك فيها المستخدم السيطرة الكاملة.
ومع الزمن، يعتاد الإنسان هذا النمط، فيصعب عليه قبول الندية، أو الاعتراف بحق الآخر في الرفض والاختلاف، هذا الخلل لا يبقى محصوراً في المجال العاطفي، بل ينعكس اجتماعياً في شكل تسلط، هشاشة حوار، وعجز عن بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل.

ومع تحول الحب إلى تجربة فردية افتراضية، يفقد معناه الجمعي، لم يعد قوة توحيد، ولا رابطاً اجتماعياً، ولا دافعاً للتضحية، بل تجربة ذاتية مغلقة، بلا مسؤولية، بلا أفق مشترك.
والمجتمع الذي يفقد معانيه الجمعية يتحول إلى تجمع أفراد، لا كيان علاقات، وهو مجتمع هشّ ثقافياً، ضعيف سياسياِ، سهل التفكك عند أول أزمة.

الخطر الحقيقي لا يكمن في ظهور هذه الظواهر، بل في تطبيعها.
حين تُقدَّم بوصفها خيارات شخصية محصنة من النقد، وحين يُمنع السؤال باسم الحرية، وحين ينهار الحد الفاصل بين الإنسان والأداة، يفقد المجتمع معاييره تدريجياً، ويغدو كياناً بلا مرجع أخلاقي أو وجداني.

في هذا العالم، يصبح الحب الإنساني فعل مقاومة.
أن تختار إنساناً حقيقياً، بكل تناقضه وثقله وصعوبته، هو قرار شجاع في زمن السهولة.
أما أن يلجأ الإنسان إلى حب آلة، فذلك ليس ضعفاً فردياً بقدر ما هو شهادة إدانة لعصر لم يعد يمنح البشر ما يكفي من البشر.



#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوكرانيا وصراع المستقبل الجيوسياسي
- التسول الممنهج وتفكيك المجتمع
- استعراض المسؤول وصناعة الوهم السلطوي
- طغيان الولاء وموت العقل
- خرائط الشخصية وأنماط الذات
- هندسة الوعي في الفضاء الرقمي
- زيارة محمد بن سلمان لواشنطن، مقاربة في العلاقات الدولية
- دور الأسرة ضمن منظومة الأمن الفكري والمجتمعي، مقاربة تحليلية ...
- سفاري الموت، الحرب والوحشية الإنسانية
- الموصل وصراع التمثيل السياسي
- تفكيك العلاقة السلطوية بين المسؤول والمواطن في مجتمعات العال ...
- زهران ممداني وتجسيد فكرة -أميركا الممكنة- في مواجهة -أميركا ...
- الدين والمجتمع بين الوعي والإخضاع، قراءة في آليات الاستغلال ...
- قراءة سياسية وإستراتيجية لإنسحاب حزب العمال الكردستاني إلى ش ...
- المواطنة الرقمية بين الحرية والمسؤولية
- عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك
- هرم ماسلو بين الإنسان والمجتمع، مقاربة في مأزق الصعود العربي
- قمة شرم الشيخ 2025، إعادة هندسة النظام الإقليمي من بوابة غزة
- نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان
- جيل Z في المغرب والعراق، من العالم الرقمي إلى الميدان الاجتم ...


المزيد.....




- غارديان: شركات مسجلة في بريطانيا تجنّد مرتزقة كولومبيين في ا ...
- هل ستنفجر فقاعة الذكاء الاصطناعي قريبا؟
- الجيش الأميركي يعلن قصف أكثر من 70 هدفا -داعشيا- في سوريا
- مقتل 5 فلسطينيين بهجوم إسرائيلي على مدرسة نازحين في غزة
- سوريا بعد القصف الأميركي: ملتزمون بمكافحة -داعش-
- إسرائيل تعتقل روسيًا بتهمة تصوير منشآت حساسة لفائدة إيران.. ...
- رهانات حرب الطاقة المستعرة بين روسيا وأوكرانيا
- النبض المغاربي : مالذي يُميز كأس الأمم الإفريقية في المغرب؟ ...
- العدل الأميركية تفرج عن المزيد من وثائق -إبستين- المثيرة للج ...
- أول بيان من الحكومة السورية بعد الغارات الأمريكية على -داعش- ...


المزيد.....

- كتاب : العولمة وآثارها على الوضع الدولي والعربي / غازي الصوراني
- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - حسين علي محمود - العلاقات العاطفية والذكاء الاصطناعي