|
|
فلسطين العربية المسيحية- الإسلامية
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 11:46
المحور:
القضية الفلسطينية
الغساسنة بفلسطين يقول الجغرافي أوسترابو ن حواريي المسيح في بداية دعوته كان معظمهم عربا؛ وقد لاحظ هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد وجود العرب في فلسطين واكتُشِفت كتابات عربية في فلسطين من الحقبة الرومانية. واللغة السريانية الآرامية الفلسطينية وثيقة الصلة بالعربية الفلسطينية؛ فهذه اللغة (السريانية الآرامية) كانت جزءًا من مجموعة اللغات السامية الشمالية الغربية، وكانت لغة الناس العاديين في البلاد. ظلت السريانية الآرامية تنتشر على المستوى الشعبي غير الرسمي بفلسطين الرومانية البيزنطية، وفي فلسطين أوائل العصر الإسلامي، وصارت وثيقة الصلة باللغات المحكية العربية الفلسطينية المعاصرة. ساهم المسيحيون العرب في التعريب الشامل المتدرج في البلاد، حين تحولت أجزاء منها الى دويلات عربية تحت نفوذ البلاط البيزنطي. عملية امتدت مئات السنين قبل ظهور الإسلام مع توافد موجات من العرب المهاجرين من الجزيرة، واستمرت في تزايد بعد انتصار المسيحية باعتماد الدين الجديد رسميا في الإمبراطورية الرومانية. يشير مطران غزة، سورومين، الذي انخرط في نشر المسيحية بين العرب الى الاسماعيليين (الغساسنة العرب) في فلسطين، في اقرن الخامس. كانت المسيحية الأولى شديدة التنوع ونادرا ما كتب نص عن المسيحة الأولى من وجهة نظر العرب المسيحيين الغساسنة. يستكشف الباحث، نور مصالحة في كتابه، تمثيل فلسطين عبر الزمن بوصفها سبيكة من الحقائق المنظورة والمتصورة والمعيشة في البلد. والفكرة المشكلة لفلسطين مؤطرة في حقيقة كون "فلسطين وطن للشعب الأصلي وللمهاجرين، له ميراث متعدد العقائد الدينية والموروث الثقافي، وهوية مركبة متطورة في سياق التطور المستدام بفلسطين، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وديمغرافيا، حيث انضمت جماعات بشرية للإقامة بفلسطين، ومنهم العرب المهاجرون من الجزيرة العربية قبل الفتح العربي . اسم فلسطين راسخ بعمق في الماضي القديم منذ العصر البرونزي المتأخر. استعمل الاسم قدماء المصريين والآشوريون والكتّاب الكلاسيكيون الإغريق والرومان والبيزنطيون المسيحيون وعرب القرون الوسطى. ويظهر اسم فلسطين واضحا قي ما لا يحصى من الكتابات والتواريخ وخرائط العالم والتواريخ الكنسية والحوليات والرسائل والنقود والموسوعات، منذ أواخر العصور الكلاسيكية والعصور الوسطى وحتى التاريخ الحديث. اسم باليستاين الإنجليزي مشتق من الاسم الفرنسي القديم فلٍستين المستمد من اللاتينية الكلاسيكية، فِليستينوس الذي بدوره تفرع من الإغريقية الكلاسيكية المتأخرة فليستينوي.(34) كيّف العرب اسم بيليست من العصر البرونزي المتأخر، واسم باليستينا الهليني/الروماني /البيزنطي، فأصبح الاسم فلسطين تحت الحكم الإسلامي منذ العام 638م.. كان معظم سكان فلسطين مسيحيين، وجلهم من الريفيين المتكلمين بالسريانية والآرامية، وظلوا يتكلمون بلغة يسوع في العصور الإسلامية الأولى. أبقت الإدارة العربية على الكثير من أسماء الأماكن في فلسطين، التي كانت متداولة في الإدارة البيزنطية المتكلمة باليونانية؛ من هنا ظهرت الأشكال العربية اثلاث للاسم فلسطين البيزنطي فلََسطين، فِلِسطين، فِلَسطين، واللأخير هو الاسم المعتمد لدى المؤلف. ما بين القرنين الرابع والسادس سارت ولايات فلسطين الثلاث في مسار تعريب متدرجة وتحولت أجزاء منها الى دويلات عربية تابعة يحكمها ملوك غساسنة عرب مسيحيون. وفد الغساسنة من الجزيرة في القرن الثالث، اعتنق الغساسنة المانوفيستيين واختلطوا بالتجمعات المتكلمة باليونانية، وكانوا معارضين لقرارات مجمع نيقية "طبيعتان للمسيح". (164) برزت قضية طبيعة المسيح نقطة الخلاف داخل المسيحية، والثقافة العربية ترفض التداخل والثنائية في الكيان الواحد. استقر الغساسنة في باليستينا الثالثة والثانية وبنوا فيهما مملكتهم التابعة؛ حاربوا الى جانب البيزنطيين ضد الفرس الساسانيين وقبائل العرب اللخميين (المناذرة) في جنوبي العراق. ما بين القرنين الرابع والسابع أنشأت الإمبراطورية البيزنطية نظام الأصيل – الوكيل، أدخلت لقب فيلارخ (حاكم عشيرة او قبيلة كبيرة)، ومنحته للملوك العرب، حلفاء بيزنطة المهمين. مُنِح اللقب للغساسنة وامراء آخرين؛ وشجعت قبائل عربية كثيرة يقودها فيلارخ على الاستقرار بولايات فلسطين الثلاث. أطلق المؤرخ بروكوبيوس اللقب ساراكينوس (الشرقيين) على المجتمعات الغسانية، وميز بين "العرب في فلسطين" والأراضي الواقعة خلف حدود فلسطين ويشرف عليها العرب. كما أطلق على الفيلارخ أمم مرتبطة بمعاهدة وليسوا مستعمرة رومانية ولا متمتعين بالمواطنة الرومانية (165) ثم استُنبِط الفيلارخ الأعلى يسيطر على بقية الفيلارخين (مك املوك)، وعين من جانب الامبراطور البيزنطي ملكا على الفلسطينيات الثلاث، أحدث هذا التعيير تطورا مهما بفلسطين، إذ برز العرب بوصفهم أطرافا أساسية في السياسة البيزنطية قبل الإسلام. من شاهِدِ ضريح كتب بالعربية بخط نبطي يعود للقرن الرابع الميلادي عرف اول فيلارخ أعلى عربي منذ قرون قبل الإسلام. كانت اللغات الدارجة العربية النبطية والآرامية النبطية. تشير كتابة الشاهد الى امرؤ القيس "ملك كل العرب" الذي مات في خدمة البيزنطيين عام 328م، وفي المصادر اليونانية كان يعرف بالاسم أمور كيسوس. حظي باستقبال ينم عن الاحترام لدى وصوله رحاب الامبراطور البيزنطي قادما من عند الساسانيين الفرس. وقّع معاهدة مع الإمبراطور البيزنطي أتاحت له السيطرة على أجزاء من بروفينسيا باليستينا، وعينه الامبراطور فيلارخا اعلى على ما كان يعرف باليستينا سالوتاريس(الثالثة وتضم المناطق الجنوبية من شرقي النهرحتى ميناء العقبة وصحراء النقب).(166) أواخر القرن الخامس تعاظم بصورة دراماتيكية سلطان الملوك الغساسنة ليصبحوا فيلارخين مطلقين لبالستينا الثالثة والثانية؛ فحولوا أجزاء واسعة من الولايتين الى مملكتين فلسطينيتين تابعتين، بمثابة دولة ملكية وكيلة لها جيوشها العربية وتحصل المداخيل والضرائب من التجارة عابرة الحدود وتطبق القوانين، وتوفر الحماية للمقدسات وترسل سفراءها الى الخارج. عين الامبراطور جستنيان أبا كرب بن حبلة فيلارخا اعلى على باليستينا الثالثة.، ولقب بالحارث الرابع. (167) عام 529م عين أخوه أبو بكر الميافيست ، الحارث الخامس، وحاز لقب "كلي المجد". قاد حملة ناجحة ضد المناذرة وحلفائهم الساسانيين، على إثرها منحه الامبراطور أعلى وسام وصار القائد لجميع الحلفاء العرب والفيلارخ الأعلى لباليستينا سيكوندا وارابيا بيتريا. بات الأخوان فيلارخين، ملكين عربيين لبلستينا الثانية والثالثة، متساويين في المرتبة ويرسل كل منهما سفراءه للخارج. (168). توسعت ولاية ابي كرب بضم المنطقة حتى نهر الموجب شرقي الأردن بما في ذلك بترا. بات يحكم طريق التجارة التي تنقل البخور ويأخذ ضريبتها ذهبا او فضه باعتبارها سلعة رائجة. بترقية الحارث الى مرتبة ملك الغساسنة المسيحيين في باليستينا الثانية وارابيا بتريا انضم اليه الكثير من القبائل العربية فصار شخصا واسع الشعببة في القصص الشعبي والمرويات البطولية في التاريخ السابق للإسلام. (169) استمر نفوذ ملوك الغساسنة قرابة القرنين. تبين النقوش باليمن ان الأخوين اتبعا سياسة خارجية مستقلة حيال العربية. حافظا على أمن الحجيج من هجمات المناذرة، مما وفر ازدهارا اقتصاديا للبلاد. أصاب الغساسنة المندفعون دينيا رخاء اقتصاديا في فلسطين وازدهارا دينيا وثقافيا، وانخرطوا في حركة ناشطة من تشييد المباني الدينية والعامة، وأحدثوا تطورا حضريا، زرعوا الكرمة والمحاصيل الأخرى وربوا الماشية وحفروا المناجم بحثا عن الذهب والفضة والنحاس واهتموا بالفروسية. اقترن الرخاء عندهم بالورع المسيحي. (170) التزم الفساسنة بدقة بالأعياد المسيحية التي تحولت الى أعياد اجتماعية وجزءًا من الحياة الثقافية؛ كانوا قريبين جدا من الأماكن المقدسة، واستطاعوا رؤية بعض معالمها. في أحد ابيات النابغة الذبياني تمتدح الغساسنة إشارة الى انه كان لهم وجود حتى في منطقة الجليل. سكن الغساسنة هضبة الجولان، (الجليل جزءٌ من بالستينا الثانية.) في أخر القرن الخامس استخدم الامبراطور اناستاتيوس العرب المسيحيين المونوفيستيين.(171) بعد معركة اليرموك عام 636 م غزا المسلمون الفيلارخات الغسانية، ونقلوا عنهم مفهوم الملة الذي تعاملت به الجماعات المستقلة في كنائس الشرق (ومنها المونوفوستية الغسانية) في الإمبراطورية البيزنطية خلال الحقبة من القرن الرابع حتى السايع.
الشعر العربي الكلاسيكي وفلسطين البيزنطية تناقل العرب الوثنيون الشعر شفاهيا وكان فاتنا وهو أقدم صنوف الأدب.. تحول الشعر المحكي السابق للإسلام مصدرا رئيسا للغة والخطابة العربيتين وسجلا تاريخيا غنيا للحياة السياسية والثقافية في ذلك الزمن. تواتر التواصل بواسطة الشعر واستظهار الملاحم بواسطة التجار العرب المترحلين ومن خلال موسم الحج السنوي الى مكة ومساجلات الشعر في أسواق الشعر الموسمية (سوق عكاظ مثلا) قرب الطائف، في هذه الثقافة أدى الشاعر دور المؤرخ والقاص والمفكر الاجتماعي والعراف والمحرض السياسي. تأثر الانتقال الى وضع عربي أكثر تعلما والى ثقافة الكتاب بانتشار المسيحية الهلينية، ثم بظهور الإسلام فيما يعد؛ وكذلك بمن سمّاهم الإسلام أهل الكتاب. (172) تأثر الانتقال بالبلاطات الملكية الغسانية، حيث رعى الملوك بسخاء الفنون، ولاسيما الشعر العربي. هذه الحركة باتجاه التعلم إضافة الى تقاليد الاستظهار المهمة للملاحم والشعر العربي الكلاسيكي واصلت تفتحها مع انتشار الإسلام. عمل القرآن وسيلة تعريب ونشر اللغة العربية في المنطقة الشاسعة الجديدة؛ أدى النابغة الذبياني (535- 604) دورا هاما في بلاطات الغساسنة. كان واحدا من أواخر كبار شعراء العربية، أمضي معظم وقته في بلاطات الملوك الغساسنة وبلاطات ملوك الحيرة العرب المسيحيين، المناذرة، وكانت الحيرة كذلك مركزا مهما قبل الإسلام، وكنيستها مقر أبرشية كنيسة الشرق بين القرنين الرابع والسابع، ومقر المطرانية النسطورية بدءًا من عام 410م. جمعت قصائد النابغة، واسمه الياس، قبل منتصف القرن الثاني الهجري، ونُظِر اليها على انها قصائد العربية الكلاسيكية. (173) سيطر المسيحيون البيزنطيون والسامريون على معظم مدن فلسطين إبان الحقبة البيزنطية، كان المسيحيون السامريون المتكلمون باليونانية يسيطرون على بالستين بريما(الأولى). تمرد السامريون واخمدت انتفاضتهم بعنف شديد على ايدي البيزنطيين وحلفائهم الغساسنة، مما أسهم في تغيير الوضع السكاني بالمنطقة، بات المسيحيون مسيطرين على مقاطعة بالستينا بريما وتحول السامريون معظمهم الى الإسلام. نهض الغساسنة في القرن الخامس ليصبحوا جماعة إثنو لغوية دينية في القرنين الخامس والسادس؛ كانت عاصمتهم الجابية على هضبة الجولان. (174). بعد معركة اليرموك غدت عاصمتهم مقرا للجيوش الإسلامية، وفضل الغساسنة المونوفيسيون الفاتحين المسلمين على المسيحيين الخلقيدونيين (من مؤتمر خلقيدونية وطبيعة المسيح المتعددة)، واتجهوا نحو القوة الإسلامية.
فلسطين في العهد الإسلامي صدر الكتاب باللغة الإنجليزية أولا، موجها لقراء غير ملمين بالتاريخ العربي -الإسلامي؛ ولدى الترجمة للعربية نقت المعلومات ، وجلها معروفة لدى القراء العرب. ولذلك جاء مختصرا عرض المادة في هذا الفصل. أنشأ الأنباط في جنوب فلسطين قرية الخَلَصة من بين عدة قرى كمحطات تجارية مع ازدهار التجارة الإقليمية والدولية، خاصة تجارة البخور، والزراعة المحلية. تبعد الخَلَصة 23 كيلومترا جنوب غرب بئر السبع وهجّرت إسرائيل سكانها عام 1948. وصفها المؤرخ بطليموس بأنها من مدن إيدوميا؛ وفي الحقبة الرومانية المتأخرة نمت وغدت المدينة الأولى في مقاطعة ارابيا بتريا الغربية الرومانية؛ وفي الفترة الرومانية صارت تعرف باسم "إلوسة"، محافظة على التسمية العربية. في العصر الإسلامي واصلت المدينة مهمتها مركزا حضريا أساسيا، وباتت تعرف باسمها العربي الحديث الخَلَصَة. أعاد الإسرائيليون تسميتها هالوزا (الرائد). في وقت لاحق أعلنتها اليونيسكو موقعا أثريا في التراث العالمي (181،82). ترك الأمويون تراثا من القصور البديعة بالرملة والقدس وأريحا وطبريا توفر البرهان على المكانة المركزية لفلسطين في نظر الأمويين. ينسب لعبد الملك بن مروان انه طور القدس وينى الصخرة مسجدا بات مزارا لمن يعجز عن الوصول الى مكة من المسلمين من شتى بقاع العالم الإسلامي. أجرى تبديلا على الإدارة عن طريق تبديل اللغة اليونانية في الدواوين والإدارات باللغة العربية؛ باتت العربية بهذا الإجراء لغة التفاهم ليس فقط في فلسطين وحدها، بل في المناطق بين إسبانيا ووسط آسيا.. وعلى عكس التلفيقات المغرضة كان الفتح الإسلامي سببا في مواصلة ازدهار المدن الفلسطينية والاستقلال الثقافي للمجتمعات المسيحية واليهودية. اعتمد الأمويون الكثير من الأسماء البيزنطية والتقاليد النقدية والإدارية. كمثال على الازدهار كانت مدينة العقبة (أيْلة). باتت المدينة مكلفة بتوفير الأمن لقوافل الحجيج والقوافل التجارية. ايلة مدينة فلسطينية في العصر الإسلامي؛ ومنها اشتقت التسمية "إيلات". تطورت أيلة فلسطين لتصبح ميناءً تجاريا أساسيا طور التجارة مع الهتد والصين. تقدم المدينة الميناء تحت حكم الإسلام بعض الإشارات عن اتساع وثراء ولاية جند فلسطين. احترم الحكام المسلمون تراث فلسطين المتنوع والإرث المشترك. كان الاسم الجغرافي العربي مطابقا للاسم الفرنسي فِلَِستين، المشتق من الأسماء اللاتينية فلستيا او بالستينا والعديد من اللغات القديمة بالاشتة الأكادي، وباروساتا المصرية. بعد الفنح العربي انخرط الخلفاء الأمويون في برنامج بناء هائل بفلسطين عموما وفي إيليا كابيتولينا بوجه خاص، متاثرين بفن العمارة الموروث، مما تجلى في بناء الصخرة ثمانية الأضلاع. ورث الإسلام وفلسطين الإسلامية ميراث فلسطين البيزنطية الثقافي والمادي والإداري والفكري. كشفت الحفريات بالرملة عن فسيفساء مع حيوانات وطيور وأسود وقردة.. استوعب الإسلام وطور التقاليد الإغريقية الأرسطوطالية الفلسفية والنيو- أفلاطونية المسيحية، ترجم عصر الإسلام الذهبي التقاليد الفكرية والثقافية في غزة وقيسارية المحفوظة عن التقاليد الفلسفية اليونانية في القرن الثالث. (152) طور الفكر العربي في بغداد أواخر القرن السابع وفي قرطبة بالأندلس من القرن العاشر. ليس مستغربا ان يكون الميراث المدهش، الفكري والمادي والعلمي، بفلسطين الكبرى في كل من غزة و كايسريا باليستينا وأسكالون والقدس وبيسان قد مهد إحدى الطرق الثقافية الكثيرة الى العصر الذهبي الإسلامي بين القرنين الثامن والثالث عشر. (153)
اكتشاف خريطة فسيفساء مادبا الأثرية عام 1884 بلغ في عهد جستنيان التطور المدني والعمران المدني والكنسي الذرى بفلسطين؛ وخريطة الفسيفساء في مادبا هي واحدة من اقوى الرموز لفلسطين الحضرية هذه. وتاريخ الخريطة 560-565م؛ تزامن اكتشاف الخريطة مع تشييد كنيسة جديدة للروم الأرثوذكس في مادبا في موقع كنيسة بيزنطية سابقة، كنيسة القديس جاورجيوس، والخريطة هي أشهر الأدلة المادية القديمة الباقية، ومن أقدمها، على الاستعمال الرسمي لاسم بالستينا أواخر العصور القديمة. نظهر الخريطة مصر وفلسطين والبحر المتوسط، وفيها وصف مفصل للمدينة المقدسة إيليا كابيتولينا في وسطها. كانت اهم المكتشفات الأثرية لموضوع رئاسة فلسطين البيزنطية، والجزء الباقي منها يحتوي على أقدم خريطة مرسومة باقية لفلسطين البيزنطية. (145) يحتوي هذا الجزء على القدس وغزة وعسقلان وبيت جبرين، وكانت جزءا من أرضية كنيسة القديس جاورجيوس البيزنطية القديمة في مأدبا، صنعها فنانون مسيحيون محليون. في ذلك الزمن كانت مأدبا جزءًا من باليستينا بريما مقرا لأبرشية مطران مسيحي. ليس من ذكر لكلمتي كنعان وإسرائيل على هذه الخريطة، بل تأشير للحدود بين مصر وفلسطين، دليل آخر على ان اسم باليستينا كان الاسم الرسمي للبلاد.
غزة المركز المتوسطي للأدب والبلاغة الكلاسيكيين مراكز التعليم المزدهرة بفلسطين في القرنين السادس والخامس تدل على هوية راسخة لاقتصاد ناشط والمعرفة العلمية والقراءة والكتابة المنتشرة على نطاق واسع. (146) بين أهم مراكز التعليم في البلاد في تلك الحقبة مدينة غزة، التي تبدو مقرا للأدب والبلاغة الكلاسيكيين، بمجموعة من الباحثين الشهيرين الذين يقيمون ويعملون فيها. ومركزا حضريا مسيحيا ناجحا ومثقِفا لكل منطقة البحر الأبيض المتوسط. على مدى الحقبة تعاونت المدينتان قيسارية وغزة المتصلتين بحريا وبواسطة جادة فيا ماريس مركزين حضريين منفتحين على العالم، وكان في المدينتين مجتمعات عربية كبيرة. يجدر ذكر ان مدية غزة عام 451 مثلها مطران عربي في مجتمع خلقيدونية. عام 530 ق.م في القرن الثاني عشر ق.م جعل الفلستيون من غزة المدينة الأولى في خماسية مدن فلستيا. ذكرتها رسائل تل لعمارنة باسم "أزتي"، وكانت بمثابة عاصمة مصرية إدارية بفلسطين. (147) في القرنين الخامس والرابع ق.م طورت مدن فلستيا نقودها الفلستو -عربية وتابعت المدينة ازدهارها تحت الحكم الروماني في القرن الثاني الميلادي كانت النقود الرومانية البرونزية تسك في غزة؛ وأثناء حكم الرومان والبيزنطيين توسعت المدينة ومرفأها؛ وفي عام 635م كانت إحدى أول المدن التي فتحها العرب وتحولت بسرعة الى مركز كبير للمحاكم الإسلامية. غزة هي المدينة التي ولد فيها الشافعي أحد الأئمة الأربعة للفقه الإسلامي الحواري قبل ان يخضع لاحتكار الفقه الأشعري باسم العودة الى الأصول. وانجبت غزة في صالح بن احمد التُمُرتاشي ، الي سيأتي الحديث عنه لاحقا. انتشر التعليم تحت حكم البيزنطيين حتى في القرى، والمجتمع بمجمله كان متعلما؛ كانت المواد الدراسية الأساس هي البلاغة والفلسفة والقانون واللغتين اليونانية واللاتينية، اما النساء فأوصاعهن كانت متردية..لا يُعار في الوقت الراهن اهتمام لمدرسة البلاغة في غزة. (148) أحالت مدرسة البلاغة بغزة المدينة في حقبة أواخر القرن الخامس وأوائل السادس مستقرا للتحول الكلاسيكي المسيحي، كان التراث الكلاسيكي بالمدرسة قد تلاحم بعمق مع التراث المسيحي. وكانت مدن أخرى في فلسطين مثل عسقلان وبيسان قد تحولت بعمق بفعل النهضة المسيحية ما بعد الكلاسيكية أواخر العصور القديمة. كانت غزة متأثرة فكريا وثقافيا بمزيج من التقاليد الهلينية المختلفة، من الإسكندرية وكايسريا واثينا، وكذلك بالنيو أفلاطونية المسيحية. أدى الوضع المريح على نحو استثنائي، والبيئة الحضرية الفكرية والثقافية المزدهرة في غزة، وكان معظم سكانها مسيحيين، أدى على مدى يزيد على قرنين الى نهوض مدهش لمدرسة البلاغة التي كان يرأسها فلاسفة وخطباء مسيحيون، بينهم بروكوبيوس الغزي وتلميذه خوريكيوس الغزي، الذي برز أوائل القرن السادس. نهضت ثقافة مسرحية زاهرة، العروض المسرحية والخطب العامة بالمدارس والمسارح "المقدسة" و "العامة".(149) تظهر على خارطة الفسيفساء في مأدبا سبع بلدات ومدن كبرى بفلسطين في القرن السادس تقع ما بين غزة وإيلوسّا، عاصمة باليستينا الثالثة وعمل بها عدد من المطارنة العرب تبعد23كم جنوب غرب بئر السبع، وامتدت طريق توصل الى بترا ينقل عبرها سلعهم الى غزة ومينائها. ساد في غزة اللغتان اليونانية العامية واللاتينية، على الرغم من أن الغساسنة الذين سكنوا بالمنطقة وكل باليستينا كانو يتحدثون العربية. كثير من الريفيين تكلموا الآرامية.
فلسطين تحت حكم الفرنجة
بعد احتلال فلسطين عام 1099في الحروب الصليبية عين على القدس بطريركا لاتينيا؛ كان الانشقاق قد تم بين الشرق والغرب عام 1054، أي بين الكنائس الأرثوذكسية بالشرق والكنائس اللاتينية في لغرب.. وجد الصليبيون فلسطين أكثر تقدما من الناحيتين الثقافية والتقنية. ألغي الصليبيون مبادئ "ذاتية الرأس " واستقلال الكنيسة الأرثوكسية بفلسطين. نتيجة لذلك اختار البطريرك الأرثوذوكسي الانتقال الى القسطنطينية. (140) عاد البطريرك الأرثوذكسي الى القدس بعد ان حررها صلاح الدين؛ فقدت ابرشية قيسارية استقلالها الديني والثقافي وأخضعت لإشراف بطريركية القدس المباشر، وهي بطريركية خاضعة لنفوذ الحكام الأوروبيين. طرأت تحولات على الصليبيين بفلسطين وتعلموا عادات شرقية. كتب فولتشر الشارتري وهو كاهن اشترك في الحملة الصليبية الأولى وعمل مرشدا لبولدوين ، ملك القدس اللاتيني: "نحن الغربيين صرنا شرقيين، ومن كان رومانيا او فرنجيا هو اليوم جليلي، او من سكان فلسطين. نسينا أماكن مولدنا، وغدت هذه الأماكن غير معروفة لدى الكثيرين منا، والبعض اتخذ زوجات لسن من بنات شعبهم، بل سوريات او أرمنيات، أو حتى ساراسينز(عربيات مسلمات) تلقين نعمة العمارة... أحدهم يزرع الكرمة والآخر في الحقول؛ أللغات المختلفة التي صارت شائعة الآن، غدت معروفة لدى العرقيْن".(141) لا غرابة، فقد كانت مستويات التطور الاجتماعي والتقني والثقافي في فلسطين والشرق الأدنى في ذلك الزمن تحت حكم الإسلام، اعلى من مستوياتها في أوروبا. لكن في عشرينات القرن الثاني عشر كانت الناصرة بالجليل قد أصبحت تحت تأثير المستوطنين الفرنجة المتعلمين، مركزا علميا له بعض الأهمية، واشير اليها على انها "مجتمع ديني شهير." في وثيقة بابوية عام 1154: "وفرت المدينة العيش لبعض الوجوه الأدبية، ومنها رورغو فراتيلّوس الناصري، وجيرارد الناصري ومكتبتها التي بقي منها الفهرس، فيها نواحي تشابه مع المدارس الأوروبية...فلسطين والمشرق اليوم يعدان انهما كانا قناة لنقل التعليم العربي الى أوروبا ". في ثلاثينات القرن الثاني عشر كتب رئيس الشمامسة الفرنج رورغو فروتيلّوس ، دليلا استخدمه الحجاج والباحثون، تحدث عن بروفينسيا باليستا. "تقع القدس في منطقة تلال يهودا في مقاطعة فلسطين." والأرجح ان فروتيلوس كان يدبج جغرافيا الكتاب المقدس مع جغرافيا ولاية فلسطين العربية الإسلامية الفعلية قبل الحملات الصليبية اللاتينية. (142) صادر الصليبيون ممتلكات واستولوا على مفاتيح المواقع الكنسية التي كان يحملها تقليديا إكليروس الروم الأرثوذوكس بفلسطين. هذه السياسة زادت في تقويض مواقع إكليروس الروم الأرثوذوكس في عيون المسيحيين العرب بفلسطين. وفي أوائل القرن الثالث عشر بعد هزيمة الصليبيين اللاتين على يد الأيوبيين كانت مدينة قيسارية الفلسطينية العربية لا تزال توصف لدى الجغرافيين العرب على انها مدينة أساسية بفلسطين. لكن بعد الحملة الصليبية لم تستعد قيسارية ومطارنتها الميتروبوليون وعلماؤها المشهورون في الماضي مكانتهم النافذة. وعلى الرغم من ان كرسي رئيس أساقفة قيسارية -باليستينا القوي سابقا هو اليوم رمزي الى حد بعيد فإن الذاكرة الاجتماعية وتاريخ كايسريا باليسىتينا المدهش لا يزالان يذكران لدى المسيحيين الفلسطينيين، ويمثل مطرانية قيسارية الشرقية الأرثوذوكسية نائب بطريركي في فلسطين الأولى يتبع البطريركية الأرثوذكسية بالقدس. (143) ذكريات بروفينسيا باليستينا وفلسطين الحديثة كنيسة فلسطين مرحلة مهمة في تطوير كيان فلسطين السياسي. أبقيت الذكريات الدينية-الجغرافية -الثقافية لبروفينسيا باليستينا تحت حكم البيزنطيين حية بفضل الكنائس المحلية في فلسطين.، ولا تزال الى اليوم. في الواقع الاستمرارية المؤسسية الفعلية لفلسطين (الثلاث في واحد) متمثلة في بطريركية القدس الشرقية الأرثوذكسية (كنيسة الروم الأرثوذكس في القدس). في الأساس ينظر كثير من المسيحيين الى بطريركية إيليا كابيتولينا على انها الكنيسة "الأم" لكل المسيحية، واسمها بالعربية كنيسة القيامة. وهذا دليل آخر على ان أسماء الأماكن الفلسطينية والذاكرة المحلية في شأن أسماء الأماكن، تمكنت من حفظ بعض الذكريات الاجتماعية والتاريخية من فلسطين في القرن الرابع، والتقاليد الدينية المهيمنة منذ "الفلسطينيات الثلاث" أواخر العصور القديمة. اتخذت الأمور مجراها الطبيعي واستمرت فلسطين تسمية جيو سياسية تشير اى المنطقة ما بين مصر وفينيقيا.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هوية فلسطين الاجتماعية والثقافية والدينية عميقة الجذور في ال
...
-
غزة.. تعثرت مرارا لتنهض وتركت بصمتها على الحضارة
-
فلسطين عبر التاريخ كانت وستبقى
-
اضطرابات الشرق الأوسط ومأساة تقرير لجنة كينغ-كراين
-
هل ثمة آمال معلقة على مصادقة مجلس الأمن على خطة ترمب؟
-
جهود محمومة لتثبيت حدود إسرائيل التوراتية
-
مغالطات عن الإسلام يسوّغ الغرب بها مغامراته العدوانية -2
-
مغالطات عن الإسلام يسوّغ الغرب بها مغامراته العدوانية
-
كاتبة اميركية تفضح خدع إسرائيل
-
مآلات وردود أفعال غير محسوبة لحروب التوسع والإلحاق
-
هل إسرائيل على حافة انهيار؟ تساءل المؤرخ الإسرائيلي إيلان با
...
-
إسرائيل مسلسل حروب وشواحن كراهية وتمييز عنصري
-
إرادة لا تُقهر: انتصار روح غزة على عمارة الإبادة الجماعية
-
ميلّر مايسترو بروباغاندا الفاشية بإدارة ترمي
-
هل أجهزت حرب الإبادة على القانون الدولي كذلك؟
-
دولة العدوان تكرر لفنزويلا ما اقترفته ضد العراق
-
إدارة ترمب تضطهد منتقدي إسرائيل ، خاصة الأساتذة والطلبة بالج
...
-
يتكئون على الدعم الأمريكي:شارون و بوش الابن مثالا
-
بين نارين على طريق الآلام
-
صفقة ترامب جريمة حرب
المزيد.....
-
إيقاف -بابا نويل وزوجته- بسبب السرعة الزائدة
-
من بينها -لابوبو-.. هؤلاء أبرز -الرابحين والخاسرين- في سوق ا
...
-
ألوان حياديّة وقصّات كلاسيكيّة.. أزياء ميلانيا ترامب في فترة
...
-
وفاة المحتجز طارق أشرف محفوظ بقسم الهرم والتشريح يثبت إصابات
...
-
حديث عن -التطبيع- يثير جدلًا واسعًا في العراق.. والسوداني: -
...
-
تركيا تحبط مخططات -داعش- ليلة رأس السنة وتعتقل 115 مشتبهًا ب
...
-
البابا يدعو إلى يوم سلام عالمي بمناسبة عيد الميلاد
-
قضية إبستين: وزارة العدل الأمريكية تفحص أكثر من مليون وثيقة
...
-
أعياد الميلاد: الاحتفالات تعود إلى بيت لحم بعد عامين من الحر
...
-
باريس تعتبر قانون تجريم الاستعمار منافيا لإرادة الحوار
المزيد.....
-
قراءة في وثائق وقف الحرب في قطاع غزة
/ معتصم حمادة
-
مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني
/ غازي الصوراني
-
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي
...
/ غازي الصوراني
-
بصدد دولة إسرائيل الكبرى
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل
/ سعيد مضيه
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|