أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حسين علي محمود - السنافر كمنظومة رمزية سلطوية















المزيد.....

السنافر كمنظومة رمزية سلطوية


حسين علي محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 23:05
المحور: قضايا ثقافية
    


ليست الحكايات الطفولية بريئة كما تبدو ولا الرسوم المتحركة مجرد وسائط تسلية عابرة، بل هي في كثير من الأحيان أنظمة رمزية مغلفة بالمرح، تعمل بهدوء على إعادة تشكيل الوعي وتطبيع مفاهيم أخلاقية، بل وإعادة تعريف الخير والشر خارج سياقاتهما التقليدية.
ومن بين هذه الأعمال، تبرز قصة السنافر كنموذج شديد الثراء للتحليل الرمزي والخطابي خاصة حين نضع النسخة الكرتونية الشهيرة في مواجهة ما يُتداول عن "الرواية الرمزية الأصلية" التي تتعامل مع السنافر بوصفهم تجسيداً للخطايا السبع المميتة.

في القراءة السطحية، السنافر مجرد كائنات زرقاء صغيرة، لطيفة، متعاونة، تعيش في قرية فطرية حالمة، تهرب من شرشبيل الشرير.
لكن في القراءة الخطابية، السنافر ليست شخصيات، بل علامات كل واحد منها يحمل وظيفة دلالية محددة واسمه ليس اعتباطياً، بل اختزال أخلاقي حاد وكالآتي :
(سنفور غضبان - الغضب، سنفور آكل - الشراهة، سنفور كسول - الكسل، سنفورة الشهوة - بوصفها الأنثى الوحيدة، سنفور مغرور وذكي وقوي - الغرور، سنفور طماع - الجشع، سنفور حسود - الحسد)
هنا لا نكون أمام شخصيات ذات تطور درامي، بل أمام تجسيد نمطي للخطايا، كل خطيئة تمنح جسداً واسماً وصوتاً وتقدم باعتبارها "صفة شخصية" لا "انحرافاً أخلاقياً"، وهذا التحول من الخطيئة إلى الصفة هو أول عملية قلب رمزي خطيرة في الخطاب.

إن بابا سنفور يضعنا امام تساؤل هل دوره سلطة أبوية أم مركز الخطيئة؟!
بابا سنفور بلحيته البيضاء ولباسه الأحمر، يبدو في الظاهر الحكيم، القائد، الأب، المصلح الذي يوازن القرية، لكن رمزياً يمكن قراءته بوصفه مركز النظام، الرأس الذي تنتظم حوله الخطايا السبع، لا ليقضي عليها، بل ليُديرها.
اللون الأحمر ليس بريئاً، فهو لون السلطة والدم والخطر، والمعرفة المحرمة.
بابا سنفور لا يُنهي الخطيئة، بل ينظم وجودها، يجعلها قابلة للتعايش داخل نظام مغلق، حيث لكل خطيئة مكانها ووظيفتها، ولا وجود لفكرة "التطهير" أو "التوبة"، بل فقط "الإدارة".
بهذا المعنى، يتحول بابا سنفور من حكيم أخلاقي إلى مدير منظومة، لا تختلف كثيراً عن الأنظمة الحديثة التي لا تقضي على الانحراف، بل تعيد تدويره ليصبح جزء من السوق أو الترفيه أو الهوية.

في الرواية الرمزية المتداولة، يُقدم شرشبيل بوصفه كاهناً فقيراً يسعى للقضاء على السنافر باعتبارهم أرواحاً شريرة ويعاونه قطه الذي يرمز إلى "الملاك الحارس" ، هنا يصبح شرشبيل فاعل تطهير لا وحشاً.
لكن النسخة الكرتونية تقلب المعادلة رأساً على عقب حيث يصبح شرشبيل ساحراً جشعاً، أنانياً، فاشلاً.
دافعه لم يعد أخلاقياً، بل مادياً (الذهب، الأكل).
القط يفقد رمزيته الملائكية ويصبح تابعاً هزلياً.
هذا القلب ليس فنياً فقط، بل خطابي بامتياز إذ كل من يحاول القضاء على المنظومة اللطيفة يُقدم بوصفه شريراً متطرفاً خارجاً عن الإنسانية.
وهكذا يُجرَّم الفعل الأخلاقي الجذري ويُشيطَن الساعي إلى اقتلاع الخطيئة من جذورها.
لكن هذا القلب في موقع الشر والخير لا يمكن فهمه بوصفه مجرد تحوير سردي، بل يشي بمنطق أعمق مألوف في أنماط خطابية تتجاوز الترفيه، حيث لا يُلغى الشر، بل يُعاد تعريفه ولا تُستأصل الخطيئة، بل تُدار ضمن نظام وصاية.

● السنافر والخطاب الديني السلطوي
إذا كان الخطاب الديني في جوهره الأخلاقي قد نشأ لتسمية الأشياء بأسمائها والتمييز بين الخير والشر، فإن الخطاب الديني السلطوي يمثل انحرافاً عن هذا الجوهر حين تتحول القيم من معايير للمحاسبة إلى أدوات للإدارة والضبط.
ومن هذا المنظور يمكن قراءة قصة السنافر لا كحكاية طفولية، بل كنموذج رمزي يوضح كيف تُحول الخطيئة من موضوع إدانة أخلاقية إلى عنصر منظم داخل منظومة مغلقة.
فالخطاب الديني التحريري يسعى إلى فضح الخطيئة واقتلاعها بوصفها خللاً يستدعي التغيير، بينما يعمل الخطاب السلطوي على تنظيمها والتعايش معها لأنها تمثل مبرراً دائماً للوصاية.
هنا يظهر بابا سنفور رمزاً لرجل الدين السلطوي الذي يمتلك المعرفة ويديرها دون مساءلة، فلا ينهي الخطيئة بل يعيد توزيعها داخل النظام، وكل سنفور يجسد انحرافاً أخلاقياً لا يُدان جذرياً، بل يُعاد تعريفه وتطبيعه حتى يتحول إلى هوية ثابتة فيُفرغ المفهوم الديني من بعده القيمي ويُختزل في تسمية بلا محاسبة.
هذا الاعتراف الشكلي بالذنب لا يقود إلى توبة ولا إلى تغيير بنيوي، بل ينتج مجتمعاً متديناً لغوياً راكداً أخلاقياً، يعرف أسماء الذنوب ويعيش معها بسلام.
وكل من يسعى إلى اقتلاع الخطيئة من جذورها يُشيطن بوصفه خطراً على الجماعة كما حدث مع شرشبيل الذي أُعيد تصويره من محاولة للتطهير إلى شر مطلق في آلية سلطوية كلاسيكية تُفرغ الفعل الإصلاحي من معناه الأخلاقي.
وتكتمل الصورة حين يُهمش دور الضمير ويُقدس الداخل بوصفه طاهراً مهما امتلأ بالاختلالات، بينما يُنظر إلى الشر على أنه خارجي دائماً.
في هذا الإطار لا تُقاس الأخلاق بالسلوك بل بالانتماء والطاعة ولا مكان للتوبة الفردية أو الخلاص الشخصي، بل للبقاء داخل الجماعة والخضوع لمركزها.
وهكذا تكشف القراءة الرمزية أن الخطر الحقيقي ليس في وجود الخطيئة، بل في تحويل الدين من قوة تحرير أخلاقي إلى جهاز لإدارة الانحراف، حيث تصبح الخطيئة ضرورة للسلطة لا نقيضاً لها، ويغدو حارس النظام أكثر خطراً من مطارد الشر نفسه.

ما فعلته النسخة الكرتونية ليس حذف الرمزية، بل تحييدها. الخطايا ما زالت موجودة، لكنها لم تعد خطايا، بل شخصيات محبوبة.
(الغضب مضحك، الشراهة ظريفة، الكسل مسلٍ، والشهوة مموّهة بالبراءة.) هذا هو جوهر الخطاب لتطبيع الخطيئة عبر الألفة.
فالطفل لا يتعلم أن الغضب مشكلة، بل أن "سنفور غضبان" صديق، لا يتعلم أن الشراهة خلل، بل أنها جزء من الشخصية. وهكذا تتحول القيم الأخلاقية من معايير حاكمة إلى تنويعات سلوكية مقبولة.

تبدو القرية الفطرية مجتمعاً مثالياً كالتعاون، غياب صراع داخلي حقيقي، وتكرار يومي مريح. لكنها في العمق مجتمع مغلق لا يتطور، لا يسأل عن المعنى، ولا يتجاوز ذاته.
إنها يوتوبيا زائفة ثمنها تعليق السؤال الأخلاقي.
كل شيء فيها دائري، الخطر يأتي من الخارج متمثل بشرشبيل، الداخل دائماً بريء حيث لا مراجعة، لا محاسبة، ولا اعتراف.
وهنا يتشكل خطاب خطير، الشر دائماً خارجي، والخطيئة ليست فينا، بل في من يلاحقنا.
إن تحويل الرواية من خطاب أخلاقي رمزي إلى عمل ترفيهي عالمي لم يكن بريئاً، فالسوق لا يحتمل خطاباً يُذكّر بالخطيئة، لكنه يرحب بخطايا لطيفة قابلة للاستهلاك.
هكذا تُفرَّغ الرموز من حدتها ويُعاد تقديمها في قالب ينسجم مع ثقافة الاستهلاك والبراءة المصطنعة.

الخلاصة :
بعد كل ما تناولناه فنحن امام عبارة تقول أن السنافر كمرآة لا نحب النظر فيها .. لماذا؟؟
ليست المشكلة في السنافر، بل في ما تمثله، إذ أن عالم يُحب الخطايا حين تكون ملونة، صغيرة، ومضحكة، ويكره من يسميها بأسمائها الحقيقية.
عالم يُدين الشر حين يأتي بشكل فظ، لكنه يحتضنه حين يتخفى في هيئة صديق لطيف.
إن قراءة السنافر بهذا الشكل ليست مؤامرة، بل تفكيك لخطاب ومحاولة لاستعادة السؤال الأخلاقي من قبضة الترفيه، فحين تتحول الخطيئة إلى شخصية محبوبة يصبح الوعي نفسه هو الضحية.



#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلاقات العاطفية والذكاء الاصطناعي
- أوكرانيا وصراع المستقبل الجيوسياسي
- التسول الممنهج وتفكيك المجتمع
- استعراض المسؤول وصناعة الوهم السلطوي
- طغيان الولاء وموت العقل
- خرائط الشخصية وأنماط الذات
- هندسة الوعي في الفضاء الرقمي
- زيارة محمد بن سلمان لواشنطن، مقاربة في العلاقات الدولية
- دور الأسرة ضمن منظومة الأمن الفكري والمجتمعي، مقاربة تحليلية ...
- سفاري الموت، الحرب والوحشية الإنسانية
- الموصل وصراع التمثيل السياسي
- تفكيك العلاقة السلطوية بين المسؤول والمواطن في مجتمعات العال ...
- زهران ممداني وتجسيد فكرة -أميركا الممكنة- في مواجهة -أميركا ...
- الدين والمجتمع بين الوعي والإخضاع، قراءة في آليات الاستغلال ...
- قراءة سياسية وإستراتيجية لإنسحاب حزب العمال الكردستاني إلى ش ...
- المواطنة الرقمية بين الحرية والمسؤولية
- عبودية الوعي، الفقر كأداة للهيمنة في زمن الإنسان المنهك
- هرم ماسلو بين الإنسان والمجتمع، مقاربة في مأزق الصعود العربي
- قمة شرم الشيخ 2025، إعادة هندسة النظام الإقليمي من بوابة غزة
- نظرية النوافذ المكسورة، من فوضى المدن إلى فوضى الإنسان


المزيد.....




- كوريا الشمالية تكشف عن صور جديدة لأول غواصة نووية
- سوريا.. فيديو أحمد الشرع وما قاله لرئيس وزراء نظام الأسد قبل ...
- زيلينسكي يتجه نحو إنشاء مناطق منزوعة السلاح في أحدث خطة سلام ...
- فيديو يثير تكهنات..نتنياهو وترامب على متن -قاتلة- نووي إيران ...
- بوتين يشيد بـ-بطولات جنود كوريا الشمالية- في حرب أوكرانيا
- حلم ترامب الفضائي مهدد.. الصين قد تسبق الأميركيين إلى القمر ...
- عمدة موسكو: إسقاط 8 مسيرات كانت متجهة إلى العاصمة الروسية
- مسؤول يكشف: حصار النفط المهمة الرئيسية للجيش الأميركي في فنز ...
- الاحتلال يواصل عمليات الهدم والاقتحام في الضفة والقدس
- إصابات في قصف إسرائيلي على جناتا بجنوب لبنان


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حسين علي محمود - السنافر كمنظومة رمزية سلطوية