غيفارا معو
باحث وناشط سياسي ,واعلامي
(Ghifara Maao)
الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 03:50
المحور:
الادب والفن
لم يكن البُزُق بين يدي بهاء آلةً موسيقية، بل نافذة. كلما مرّر أصابعه على أوتاره، انشقّ جدار العالم قليلاً، ودخل الضوء.
في القامشلي، حيث الهواء نفسه يُستجوب، كان الغناء بالكردية يشبه السير على حافة سكين. ومع ذلك، كان بهاء يعزف. يعزف كما لو أن النغمة آخر ما تبقّى من وطنٍ يتآكل.
في إحدى ليالي التسعينيات، دُعي لإحياء زفاف. لم يذهب طلباً للمال، بل لأن الفرح نداء لا يُردّ. وما إن بدأ يغنّي بلغته الأم، حتى بدا أن القاعة تتنفّس معه.
لكن الفرح في تلك البلاد كان دائماً قصير العمر.
انطفأت الأضواء فجأة.
دخلت دورية الأمن السياسي كما لو أنها تقتحم مخبأ إرهابي. اعتقلوا العريس، وبهاء، وحتى البُزُق.
لم يكن أحد يعرف أن للخشب جريمة.
في غرفة التحقيق، وقف المحقق أمامه، يلوّح بسلطةٍ اعتادت أن تُسمِع ولا تسمع.
اتهمه بالانفصال، بالخيانة، بعدم الامتنان.
ظلّ بهاء صامتاً، ثم قال بصوتٍ يشبه جرحاً يتنفس:
"نحن لم نطلب أكثر من أن نكون كما نحن.
لغتنا تُمنع، أسماؤنا تُغيَّر، وذاكرتنا تُعامل كخطر.
لم نحمل السلاح… حملنا البُزُق."
ارتبك المحقق. لم يكن معتاداً على أن تُجابَه السلطة بكلمات لا ترتجف.
أمر بحبسه ثلاثة أيام، ثم أطلق سراحه… مع آلته.
لكن البُزُق عاد مختوماً بالشمع الأحمر.
ختمٌ على فم الخشب، كأنهم أرادوا أن يخنقوا الصوت نفسه.
حين رآه بهاء، شعر أن شيئاً في صدره انكسر. فهم الرسالة:
البقاء يعني عزفاً بلا نغمة.
والرحيل… هو المقطوعة الأخيرة الممكنة.
سافر إلى السويد. لم يحمل معه سوى صورة للبُزُق المختوم.
وحين عرضها على موظف اللجوء، حدّق الرجل طويلاً، ثم قال بدهشةٍ صادقة:
"هل يُختم الصوت أيضاً؟"
ابتسم بهاء:
"في بلادي… كل شيء يمكن خنقه."
بعد شهور، جلس في شقته الصغيرة، ووضع البُزُق على ركبته.
عزف أول نغمة.
خرجت مرتجفة، كشهقة نجت من الغرق.
نغمة صغيرة، لكنها كانت حرة.
وفي تلك اللحظة، أدرك بهاء أن الشمع الأحمر لا يذوب بالحرارة… بل بالحرية.
* بهاء هو الفنان الكُردي بهاء شيخو شقيق ملك البزق الفنان الخالد محمد شيخو
#غيفارا_معو (هاشتاغ)
Ghifara_Maao#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟