مروان فلو
الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 08:41
المحور:
القضية الكردية
مقدمة:حلب... البؤرة المتقدمة لمعركة السيادة
تشكل الاشتباكات العنيفة في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية بحلب أكثر من مجرد اشتباكات محلية عابرة؛ إنها البوابة الأمامية لصراع مصيري حول شكل سوريا ما بعد الأسد وهوية النظام الإقليمي الناشئ في الشرق الأوسط. يأتي هذا التصعيد بالتزامن مع حراك دبلوماسي مكثف تمثل في زيارة الوفد التركي الثلاثي (فيدان، غولر، كالن) إلى دمشق في ديسمبر 2025، والتي ناقشت على رأس أجندتها ملف "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ومآل اتفاق 10 آذار.
تضع هذه التطورات قسد في قلب العاصفة، لكن التحليل الدقيق يكشف أن محاولات دمشق وأنقرة لفرض حل عسكري أو استيعاب قسري على القوة الكُردية تتجاهل حقائق جيوسياسية وعسكرية بالغة التعقيد. تشير الأدلة إلى أن هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل، وأن أي تحرك عدائي منسق سيستفز ردة فعل أمريكية وإسرائيلية وإقليمية عنيفة، مما يعيد تشكيل المشهد لصالح قسد ويعجل بالتراجع السياسي لتركيا.
أولاً: فشل المصالحة السورية-التركية: جذور الأزمة وحدود التعاون
تُظهر زيارة الوفد التركي رفيع المستوى إلى دمشق وحدة الخطاب العلني بين الطرفين، حيث اتهم وزيرا خارجية البلدين قسد بالمماطلة وعدم الجدية في تنفيذ اتفاق الاندماج. غير أن هذا التحالف الظرفي يخفي تصدعات استراتيجية عميقة تجعل منه تحالفاً هشاً:
تناقض الرؤى طويلة المدى: بينما تبحث دمشق عن "إعادة تنظيم" مقاتلي قسد البالغ عددهم نحو 100 ألف مقاتل في صفوف الجيش السوري مع التنازل عن سلاسل قيادتهم المستقلة، تريد تركيا تفكيكاً كاملاً لهذه القوة التي ترى فيها امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK) وتهديداً وجودياً لأمنها القومي. هذه الرؤية المتعارضة تعني أن أي تعاون بينهما هو تعاون تكتيكي مؤقت وغير مؤسس على ثقة استراتيجية.
إضعاف الأطراف الداعمة التقليدية: يشير تحليل جيوسياسي إلى تراجع نفوذ كل من روسيا وإيران، الراعيين التقليديين لنظام دمشق السابق، بشكل حاد في المشهد السوري لعام 2025. مع انشغال روسيا في أوكرانيا وتراجع القدرات العسكرية الإيرانية بعد حرب غزة، تجد دمشق نفسها في حاجة ماسة إلى شركاء جدد، مما يضعف قدرتها على المساومة ويجعلها أكثر عرضة للضغوط التركية والأمريكية معاً.
هشاشة الأساس الداخلي: لا تزال الحكومة السورية المؤقتة تعاني من ضعف مؤسسي وهشاشة في البنية بعد انهيار النظام السابق، كما أن اقتصاد البلاد منهك. هذا الواقع يجعل من الصعب عليها خوض مواجهة عسكرية طويلة أو استيعاب كيان منظم وقوي مثل قسد دون دعم خارجي هائل ومستدام، وهو دعم غير مضموم في ظل أولويات واشنطن المتغيرة.
ثانياً: قسد: القوة التي لا يمكن تجاوزها واستحالة الإزالة
تكمن أزمة دمشق وأنقرة في سوء تقدير القيمة الاستراتيجية الفريدة التي تمثلها قسد، ليس فقط كقوة عسكرية، بل كلاعب جيوسياسي مركزي في المعادلات الإقليمية والدولية.
ظلت قسد لسنوات الحليفَ الأرضي الرئيسي والأكثر فعالية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في حربه ضد تنظيم "داعش". لا يزال هذا الدور حاسماً في منع عودة التنظيم، خاصة مع تحذيرات تركيا وسوريا نفسيهما من استغلال "داعش" لأي هشاشة أمنية. لا تمتلك دمشق ولا أنقرة، بمفردهما أو مجتمعتين، قوة بديلة ذات مصداقية وكفاءة وقبول محلي لأداء هذا الدور في شرق الفرات.
المصالح الاقتصادية الراسخة: يسيطر قسد، عبر هياكله المدنية، على موارد حيوية في مناطق الجزيرة، تشمل عائدات حقول النفط والغاز، والمياه، والمعابر الحدودية التجارية مع العراق، وأراضٍ زراعية شاسعة. أي محاولة لانتزاع هذه الموارد بالقوة ستواجه بمقاومة شرسة، وستحول المنطقة إلى بؤرة صراع دائم تعيق أي إعمار، كما حذر وزير الخارجية السوري نفسه.
التماسك التنظيمي والرفض الداخلي: ترفض القيادات الكُردية، فكرة الحل أو الاندماج الذي يعني "نهاية دورهم ورحيلهم عن الساحة السورية". بل إنهم يسعون إلى "تثبيت وضع قسد المستقل داخل الجيش السوري الجديد" والاعتراف بمناطقهم كوحدة سياسية ضمن نظام لا مركزي. هذا الموقف المتصلب، المدعوم ببنية عسكرية متماسكة، يجعل من خيار "الحسم العسكري المنسق" بين تركيا وسوريا خياراً مكلفاً وباهظ الثمن حتى بالنسبة لأنقرة، التي تدرك أن مثل هذه العملية قد "تنعكس آثارها السلبية على عملية السلام" الداخلية في تركيا.
ثالثاً: الرد الأمريكي والإسرائيلي: العاصفة التي ستقضي على أحلام أنقرة
تتجاهل حسابات أنقرة ودمشق حقيقة جوهرية: أي تحرك عسكري جاد ضد قسد سيكون بمثابة عبور لخطوط حمراء أمريكية وإسرائيلية، وسيستدعي ردود فعل قوية ستعيد رسم المشهد لغير صالحهما.
1. الرد الأمريكي: حماية الأصل الاستراتيجي ومبدأ "توزيع الأعباء"
تتبنى إدارة ترامب فلسفة "أمريكا أولاً" وتعمل وفق استراتيجية أمن قومي واضحة تؤكد على أهمية "توزيع الأعباء" مع الحلفاء. في هذا الإطار، تمثل قسد أصلاً استراتيجياً للولايات المتحدة، فهي القوة المحلية التي تتحمل العبء الأكبر في استقرار شرق سوريا ومحاربة التمرد، مما يقلل الحاجة لوجود عسكري أمريكي مباشر مكلف.
- الرد السياسي والعسكري غير المباشر: لن تقف واشنطن مكتوفة الأيدي. يمكن أن تشمل ردود الفعل:
- تصعيد الدعم العسكري واللوجستي لقسد بشكل علني أو سري، مما يعيد توازن القوى في الميدان.
- استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة ضغط، خاصة مع الإشارة المتكررة من الجانب التركي نفسه إلى أهمية رفع "قانون قيصر" لدعم استقرار سوريا. يمكن تعليق هذا التقدم أو عكسه.
- تجميد أو إفشال آلية التنسيق التركي-السوري، عبر الضغط على دمشق أو خلق خلافات داخل التحالف الهش.
- التأثير على الأولويات التركية: تريد تركيا من الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها في سوريا. أي تصعيد ضد قسد سيدمر هذه الرغبة ويضع أنقرة في موقف المواجهة مع واشنطن، مما يحبط جهودها في ملفات أخرى مثل غزة، حيث تشارك مع الولايات المتحدة وقطر ومصر في دفع اتفاق وقف إطلاق النار.
2. الرد الإسرائيلي: مواجهة النفوذ التركي المتنامي وتحالف المصالح مع قسد
ينظر إسرائيل بقلق بالغ إلى تحول تركيا إلى "الفاعل العسكري الرئيسي بحكم الواقع في شمال وشمال غرب سوريا". وتعتبر وجود قسد، على عكس ما تتصوره أنقرة، عنصراً مقيداً للنفوذ التركي.
- التحذيرات العلنية والعلاقة مع قسد: وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحذيرات مباشرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وفي الوقت نفسه، تتهم أنقرة قسد علناً بالتعاون مع "الإجرام الصهيوني"، وتعتبر هذا التعاون عائقاً أمام الاندماج. هذا الاتهام يسلط الضوء على تقارب مصالح إسرائيلي-كردي واقعي في وجه التمدد التركي.
- الدعم العسكري غير المباشر: من المتوقع أن ترد إسرائيل على أي عملية تركية-سورية ضد قسد عبر:
- تصعيد الضربات الجوية ضد أهداف إيرانية أو موالية لإيران في سوريا، مما يربك الجبهة الداخلية لدمشق.
- زيادة الدعم الاستخباراتي والتقني غير المعلن لقسد، مما يقوي مناعتها العسكرية.
- التنسيق مع الولايات المتحدة لخلق جبهة ضغط موحدة على أنقرة، مستفيدة من القلق الأمريكي الإسرائيلي المشترك من تنامي قوة دول مثل تركيا وقطر، الذي يعتبر في التقدير الإسرائيلي داعماً لحماس.
رابعاً: سيناريوهات المستقبل: لماذا يسقط سيناريو المواجهة لصالح التفاوض الموسع
في ضوء هذه المعطيات، فإن السيناريوهات المطروحة في المقال الأصلي تتطلب تعديلاً جذرياً:
سيناريو "الحسم العسكري المنسق": فاشل ومكلف. هو سيناريو انتحاري سياسياً لأنقرة ودمشق. تكلفته العسكرية باهظة، ونتائجه غير مضمونة في ظل مقاومة قسد الشرسة، والأهم أنه سيطلق عاصفة من العواقب الجيوسياسية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مما يعمق عزلتهما ويقوض استقرارهما الداخلي. تصريح المسؤولين الأتراك بأن "صبر الأطراف بدأ ينفد" يبدو أكثر كلفظة تفاوضية منه تهديداً قابلًا للتنفيذ.
سيناريو "الانتقال السياسي السلس" المعدل: التفاوض تحت الوصاية الدولية والإقليمية. هذا هو السيناريو الواقعي الوحيد، لكنه لن يكون "سلساً" ولا محصوراً بين دمشق وقسد. سيتحول إلى تفاوض متعدد الأطراف تشرف عليه وتضغط من أجله قوى إقليمية (ربما السعودية التي تعيد تموضعها الاستراتيجي مع واشنطن) ودولية. سيكون مخرج التفاوض أقرب إلى صيغة لا مركزية موسعة تمنح مناطق الشمال السوري حكماً ذاتياً إدارياً وأمنياً واضحاً ضمن إطار وحدة الدولة السورية، مع ضمانات لحقوق المكون الكُردي واستمرار قسد كقوة أمن محلية (شرطة إقليمية) تحت مظلة الدولة، وهو ما تلمح إليه بعض التصريحات حتى من داخل السجن. سيكون دور التحالف الدولي هنا ضماناً لتنفيذ هذه الاتفاقية وحاجزاً ضد أي انتكاسة عسكرية.
خاتمة: انعكاسات الفشل التركي ومستقبل المنطقة
ما يجري في حلب هو مجرد بداية لصراع أوسع. إن الفشل المتوقع للمحاولة التركية-السورية في فرض إرادتهما على قسد سيكون له تبعات عميقة:
1. تسريع التراجع السياسي التركي: سيكشف فشل هذا المسعى عن حدود القوة التركية وضعف أدواتها خارج نطاق الوجود العسكري المباشر. سيدفع هذا الفشل أنقرة إلى مزيد من العزلة أو يفرض عليها إعادة حساب علاقاتها مع واشنطن وحلفاء الناتو، وقبول دور أقل هيمنة في الشمال السوري.
2. تعزيز مركز قسد التفاوضي: ستخرج قسد من هذه الأزمة وهي أقوى سياسياً، لا بسبب قوتها العسكرية فقط، بل لأنها أثبتت أنها "ورقة ضغط" إقليمية لا يمكن لأي طرف أن يحسم أمرها دون دفع ثمن باهظ من القوى العظمى. سيدفع هذا الأطراف جميعاً للتعامل معها كشريك سياسي ضروري، وليس كميليشيا يمكن استيعابها أو حلها.
3. إعادة رسم تحالفات المنطقة: ستعجل هذه الأزمة في بلورة تحالف مصالح غير معلن لكنه فعّال بين واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم العربية القلقة من النفوذ التركي، مع قبول واقعي بضرورة إيجاد صيغة للحكم الكُردي في سوريا. ستتحول سوريا، كما وصفها أحد التحليلات، من "بؤرة أزمة" إلى "مفتاح جيوسياسي" لفهم النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط.
بعبارة أخرى، ليست المعركة في حلب معركة دمشق وأنقرة ضد قسد فحسب، بل هي المعركة التي ستحدد ما إذا كان بمقدور القوى الإقليمية الطموحة أن تعيد رسم خرائط النفوذ بمفردها، أم أن النظام الدولي، رغم كل ضعفه، لا يزال يحتفظ بالقدرة على فرض حدوده الحمراء وحماية أصوله الاستراتيجية في أكثر بؤر العالم تعقيداً.
#مروان_فلو (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟