|
|
هوية فلسطين الاجتماعية والثقافية والدينية عميقة الجذور في الأرض والتاريخ
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 18:19
المحور:
القضية الفلسطينية
كيان جيوسياسي وتطور حضاري في التاريخ القديم
الباحث في التاريخ القديم لفلسطين والشرق الأدنى، كيث وايتلام ، ركز في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة شطب التاريخ الفلسطينية" على إثبات الاختلاس في التأرخة الاستشراقية لفلسطين القديمة، "عملية سطو واختلاس انتهزت غيبوبة صاحب الحق؛ بالنتيجة بات المختلس صاحب الحق يحتكر التاريخ القديم للمنطقة’" فلسطين. ولإضفاء المصداقة على الاختلاس تضافرت "طاقات فكرية ضخمة وموارد مادية هائلة بجامعات الغرب الامبريالي وكليات اللاهوت والمدارس الدينية وحلقات البحث وأقسام الآثار تجمعت في أمريكا وبريطانيا وإسرائيل". اعتمدت مخرجات عملية الاختلاس بصورة رسمية في دول الامبريالية، حيث أدرجت في مناهج التدريس وفي التقارير الرسمية، وباتت مكونا في الثقافة السائدة. انطلقت الدراسات الاستشراقية الأوروبية في زمن سيطرة التخلف والتجهيل على شعوب المنطقة. الدراسات الاستشراقية كانت موجهة ورهن غاية محددة؛ فجاءت مفتقدة الموضوعية؛ توجهت لتبرير أهداف امبريالية، اعتمدت في ذلك على السرديات التوراتية وقصصها، التي تَبيَن انها ليست تاريخا موثوقا. أيد نظرة كيث وايتلام ، بهذا الصدد، أحد علماء التنقيب الأثري من جامعة برينستون الأميركية، جيمز ريتشارد، إذ كتب عام 1965، "ليس من شك، بناءً على أفضل ما يتوفر من شواهد انه لم يكن هناك مدينة معاصرة ليشوع في المنطقة المسماة عاي وبقربها جبعوت". وفيما بعد بالقدس لم تبرز التنقيبات الأثرية من باطن الأرض ما يدل على عاصمة امبراطورية سيطرت على المنطقة ما بين الفرات والنيل. لم يرد ذكر لها في وثائق الدول المجاورة والمزامنة، مثل مصر الفرعونية وآشور وبابل العراقيتين وساسان الفارسية؛ بالعكس من ذلك، ورد مرارا اسم فلسطين كيانا سياسيا موحدا واقتصاديا قائما بذاته أو كيانا تحت سيطرة أجنبية ورد في وثائقها، منذ ألف عام قبل الميلاد. مدونات التوراة لا تعتمد تواريخ موثوقة إلا من قبل التوراتيين. وباتت تتكشف عن حقائق محرجة لدعاة إسرائيل القديمة. مطعن أخر في صحة الدراسات التوراتية، نظرا لكونها ليست أبحاثا مستكملة لشروط المنهجية العلمية، حسب تقييم وايتلام وفريق يضم معظم الباحثين، نظرا لكونها " ﻋـﺒـﺎرة ﻋـﻦ ﺷبﻜة ﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ وﻗﻮﻳﺔ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر واﻟﺘﻮﻛﻴﺪات اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺘﻘد دﺎرﺳـﻮﻫـﺎ أﻧـﻬـﺎ ﻧﺘﺎج اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ الموﺿﻮﻋﻴﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻓﻲ الحقيقة ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ممارسة للقوة"، أي القوة الاقتصادية والعسكرية للدول الغربية السادرة في إخضاع شعوب الشرق. ومن ثم فإن " الدراسات التوراتية كانت ضيقة الأفق محدودة ضمن مناطق أو فترات تاريخية قصيرة." بناء عليه يدعو الباحث الى اعتماد منظور أوسع وأطول، حينئذ يظهر تاريخ إسرائيل "كلحظة قصيرة في تاريخ فلسطين الطويل" وبالفعل تحقق حدس وايتلام. " مؤلف كيث وايتلام فضح جريمة الاختلاس؛ لم يزل على عاتق البحوث العلمية ان تكتب تاريخ فلسطين الحقيقي؛ يقول في هذا الصدد، " تجسيد فكرة تاريخ فلسطين القديمة يجب ان ينتظر أعمالا أخرى أكثر معرفة وكفاءة من كتابي هذا"، تكفلت الأبحاث باكتشاف المزيد من الحقائق حول تاريخ فلسطين القديم مما أتاح للباحث والأكاديمي، نور مصالحة، إنجاز مؤلفه "فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ ". يورد المؤرخ والأكاديمي نور مصالحة في مؤلفه: حملت المنطقة اسم ريتينو ودجاهي (المنطقة الجنوبية من ريتينو). حتى القرن الرابع عشر ق.م، كما ورد في نصوص مصرية والمكتشفات الحديثة من نقوش وادلة أثرية. عثر على الاسم: بلست" في خمسة نقوش تشير الى شعب قيل انه جاء من البحر، سكن في الجنوب في القرن الثاني عشر ق.م. في نقش بقبر رعمسيس الثالث ما يفيد ان البلست يقيمو ن في أرض دجاهي، حاربوا ضد رعمسيس الثالث. وفي مقبرة بعسقلان يتبين ان هؤلاء المقيمين ليسوا من غزاة البحر بل سكان أصليون. اما النقوش الآشورية من القرنين التاسع والثامن ق.م فتسمي المنطقة الساحلية بالاشتو أو بِلِشتو. أسماء لمسمى واحد تشكلت حسب اللغة المتكلمة بالشأن الفلسطيني. يتابع مصالحة:" العهد الق ديم مؤسس على أوهام وبِدع أدبية وخيال من عصر المنفى لا على وقائع؛ ينبغي ان تقرأ رواياته الأسطورية على انها خيال او لاهوت وادب، وليس حقائق مثبتة" لكنعانيين" هم في الواقع "الفينيقيون". أعطيت أبجديتهم من مناطق فلسطينية ولبنانية -المعروفة تقليديا باسم الأبجدية الكنعانية الأولى – الى الإغريق والآراميين والعرب والعبرانيين. لكن الاسمين اللذين يذكرهما العهد القديم "الكنعانيون "و "الإسرائيليون" في فلسطين لا يشيران بالضرورة الى إثنيات مختلفة او بدلا عنها." ينقل عن نيلس بيتر ليمشه، الباحث في العهد القديم من جامعة كوبنهاغن يهتم بأمور منها الإسرائيليون القدامى وعلاقتهم بالتاريخ، والعهد القديم والآثار، ان "رواية العهد القديم و’الإسرائيليين‘ و’الكنعانيين، يجب ان تقرأ على انها نظرة إيديولوجية الى الآخر (غير اليهود ) لا على انها جماعة إثنية تاريخية حقيقية. (79) التوراة، بفرضياتها التخيلية، أطلقت اسم" الكنعانيين"على كل من ليس إسرائيليا. اول إشارة مؤكدة الى الاسم كنعان وجدت في كتابة مسمارية على تمثال دريمي من الَلاخ شمال سوريا حوالي العام 1500 ق.م . لكن في العصور الحديثة ، (بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر) اعتمد القادة الصهيونيون الأوروبيون، روايات العهد القديم على انها روايات تاريخية، واستخدموها وظيفيا ليسرعوا مشروع استيطانهم ونزاعهم مع شعب فلسطين الأصلي. حتى الغزو الصهيوني اعتبر اليهود بفلسطين أنفسهم عربا ديانتهم يهودية، واستطاعت الصهيونية بمساعد الأنظمة العربية انتزاع يهود فلسطين والعراق واليمن والمغرب من بيئتهم القومية. يقول مصالحه في كتابه (424)" الواقع انه لن يكون بعيدا عن المنطق القول ان الفلسطينيين المعاصرين هم على الأغلب حفدة الفلستيين(والإسرائيليين) القدماء، أكثر من اليهود الأشكيناز، الذين كثير منهم اعتنقوا المسيحية ". يسند تقييمه بالقول: "بالتأكيد ، وخلافا لأسطورة الشتات والعودة، كثير من سكان فلسطين القديمة اليهود ظلوا فيها لكنهم تقبلوا المسيحية والإسلام، بعد أجيال متعددة. لكن اليوم – على نقيض العلوم التاريخية الأشكنازية الصهيونية المؤسطرة (حولت اساطيرأو مستندة لأساطير) والقومية العربية - يتزايد أكثر فأكثر عدد علماء الآثار والباحثين التوراتيين المقتنعين بأن أجداد الإسرائيليين ما كانوا يوما في مصر، وأن هذا النمط التوراتي من الغزو العسكري لكنعان كان خيالا محضا. الحقيقة ان الأدلة الأثرية تنسف على الأخص سفر يشوع ..." تحولت فلستيا الى كيان جيوسياسي مستقل له روابط تجارية دولية قوية واقتصاد مستقل وبيئة حضرية متطورة. كانت فلستيا في العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي تحت سيطرة الفلستيين، وليس سيطرة الإسرائيليين ودولة داود المزعومة. روج الصهيونيون، أثناء حرب 1948، حرب شمشون الأسطورية ضد الفلستيين وأطلق الإسرائيليون اسم "ثعالب شمشون"، على وحدة مغاوير ضمن لواء غولاني، الذي أدى دورا في تهجير الفلسطينيين. واعيد تأسيس كتيبة استطلاع سرية بالجيش الإسرائيلي عام 2002، أطلق عليها الاسم نفسه لدعم احتلال القطاع. في الألف الأولى قبل الميلاد كان اسم فينيقيا (لبنان الحديث) هو الاسم الأكثر شيوعا للمنطقة الساحلية الشمالية، التي حملت من قبل اسم "كنعان"؛ بينما "الاسم الآشوري، فِلستيا، في الغالب كان يطلق على الساحل الجنوبي، وفيما بعد على كل فلسطين.. (80) جميع الأسماء السابقة حل محلها اسم فلسطين، وهو الاسم الغالب استعماله في القرنين الثامن والسابع ق.م في الكتابات الآشورية. بات يشمل المنطقة بأسرها على شواطئ البحر وفي الداخل. برزت فلستيا كيانا مستقلا بين مصر وفينيقيا القويتين تجاريا، استثمروا بدهاء جوارهم من أجل تشكيل منطقة جيوسياسية متعددة الآلهة وثقافة مادية مستقلة. اختلطوا بغيرهم من السكان. وسع الفلستيون أرضهم شرقا حتى ببسان (سكيتوبوليس فيما بعد). تربط الدعاية الصهيونية الفلستيين القدماء بشعب فلسطين الحديث؛ (87) أما الحقيقة فالشعب الفلسطيني المعاصر، كما استخلص عالم الاجتماع الفلسطيني الراحل، سميح فرسون، واقتبس منه نور مصالحه، "الفلسطينيون هم حفدة مزيج واسع من الشعوب المحلية والإقليمية، منهم الكنعانيون والفلستيون والعبرانيون والسامريون واليونان الهلينيون والرومان والعرب الأنباط والبدو وبعض الأوروبيين الصليبيين وبعض الأتراك وأقليات أخرى؛ وبعد الفتوح العربية في القرن السابع صار معظمهم عربا. هكذا تطور المزيج من الشعوب الى ثقافة عربية – إسلامية على مدى أربعة عشر قرنا على الأقل."(423) توفر الفخاريات المزينة برسوم الطيور تنتجها مدن غزة، يافا، عقرون ، وأسدود وعسقلان وجَت أدلة أثرية على التطور الكبير للمدن الفلستية لفلسطين القديمة. كانت المنطقة معبر طرق القوافل التجارية وتستوفي رسوم المرور منها. (90) تميزت مدن فلستيا بابتكار أسلحة وعربات وبنظام عملة ونقود في القرنين الخامس والرابع ق.م. عرفت نقودهم بالاسم نقود فلستو -عربية. اندمج الفلست بالسكان الأصليين بينما أسفر عن نشوء فلشتيا المتميزة جغرافيًّا، لكن المتميزة بصعوبة إثنيًا، اتصلت بطرق التجارة الدولية امتدت شمالا نحو ما بين النهرين وعلى طول الساحل حتى جنوب لبنان تحت الوصاية الآشورية. سوقت الحبوب والزيتون والمواشي والخمور والفواكه والصوف من سفوح تلال يهودا ومن شمال النقب والسهل الساحلي. في العهد القديم أحيل الفلستيون كبش فداء إيديولوجيا نموذجيا؛ ورثت العنصرية الأوروبية الحديثة من الأدبيات التوراتية الأحكام المسبقة حيال الفلستيين استمر لصق الصفة المنحطة بهم، إذ تعني كلمة فِلِستي الشخص الجاهل للثقافة او معاديا لها معتدا بنفسه. ميزت السرديات التوراتية الإسرائيليين بمزاعم عقيدتهم التوحيدية على الفلستيين ا احتفظوا بتخلفهم. و تكرر في أعمال الباحثين التوراتيين صفة التخلف والعجز عن التطور الصقت بالشعب الأصيل. اما الحقيقة التاريخية فتؤكد ان فلستيا استثمرت موقعها الجيوسياسي طريق عبور تجاري؛ الأدلة المستمدة من وثائق مصرية وآشورية تثبت ان البلاد طريق عبور للتجارة الدولية بين ثلاث قارات؛ على الطريق نشأت مدن غزة، يافا، اشدود وعسقلان، وفيما بعد قيسارية-فلسطين العاصمة ، ثم يمضي شمالا شرقا عبر مرج ابن عامر حتى جبل طابور حتى سوريا الحديثة. تفرعت طرق تتجه شرقا الى القدس، وادي الأردن وبترا التجارية الغنية (عرفت لدى المثقفين باسم رقمو). بتأثير الطرق التجارية تطور الخط العربي (الكوفي) من الخطوط النبطية العربية والعربية الأولى. فلستيا اول بلد ينتقل من اقتصاد الذهب الى اقتصاد النقود وضربت النقود الفلسطينية في غزة بدءًا من عام 538 ق. م، ثم ضربت نقود الدراخما في عدة مدن فلسطينية على الطريقة الإغريقية القديمة في مدن غزة ويافا وعكا. من الدراخمة وجد الدرهم الفضي، النقود العربية الإسلامية التي اشتق اسمها من الدراخما. النقود الفضية صكت في المدن الفلسطينية. يوجد مجموعة من النقود الفضية او المطلية بالفضة في المتحف البريطاني. (93) - الكلاسيكية والهلينية بفلسطين (500-135 ق.م) باليستينا هو الاسم الجغرافي الرسمي الحقيقي والتاريخي، استخدم لحقبة تزيد عن ألف عام، واستبداله ب "كنعان" يعادل إلغاء تاريخ المنطقة ويقيم عوائق تحول دون فهم العصرين الكلاسيكيين القديم والمتأخر؛ كما أنه بمثابة إلغاء احتمالات معرفة تاريخية حقيقية لإحدى أهم الحقب في تاريخ المنطقة القديم، فلسطين في الحقبة المسيحية الأولى والبيزنطية. بدأت المسيحية في بيزنطة المتكلمة بالإغريقية في فلسطين، في أثناء حكم الامبراطور الروماني قسطنطين الكبير،هدريان، واستمرت حتى الفتح الإسلامي. حقبة 500-135 ق.م كانت فيها سجلات العيش بفلسطين متعددة ومحفوظة جيدا. (95) فترة كتب فيها هيرودوتس وارسطو بالتفصيل عن البلاد وبرزت أهمية فلسطين الاستراتيجية والتجارية والثقافية لدرجة ان مختلف الملوك والقادة العسكريين والتجار والرحالة وراسمي الخرائط والعلماء الهلينيين أبدوا اهتماما كبيرا بها. لفظة فلسطين انتشرت على نطاق واسع باليونان في القرن الخامس ق.م. اسم فلسطين الإغريقي -الروماني – البيزنطي موجود بوفرة في النصوص الإغريقية الكلاسيكية الأساس، وعلى الأخص تواريخ هيرودوتس. انتقل الاهتمام بتاريخ فلسطين من الكتّاب الإغريق. في عهد هيرودوتس اتخذ الاسم شكله الإغريقي باليستينه او فلسطين، واستخدم اسما للمنطقة. تحدث هيرودوتس عن فلسطين وسوريا-فلسطين و" سوريي فلسطين". وصف كذلك الجغرافيا الطبيعية للمنطقة المطابقة للشرق الأوسط هذه الأيام: تبدأ من فارس ثم آشور فالعربية؛ يقال انها تنتهي بالخليج مع انها غير محدودة بالخليج بين فارس وفينيقيا تقع بلاد واسعة ومن بعدها يلتف بحرنا المتوسط. (96) لا يقتصر هيرودوتس على فلسطين الساحل، بل يشمل الداخل. هيرودوتس وأفلاطون شملا شرقي الأردن أو "فلسطين الشرقية" الى ما بعد غور الأردن. ويضيف هيرودوتس مناطق خان يونس الحالية (كاديتيس، جنيسوس،أو ينيسوس كان يحتلها العرب.) ويشمل اسم فلسطين عند هيرودوتس الجليل. إحدى خرائط فلسطين رسمت عام 450 ق. م أعاد رسمها جون موراي عام 1897، وهو من أهم الناشرين في بريطانيا وأوسعهم نفوذا. وشملت فلسطين منطقة الإيدوميين ومركزهم الأصلي الخليل ثم انتقل المركز الى لاكيش عند سفوح الجبال الجنوبية. وفي العام 132ق.م، أثناء الحكم الروماني، ضمت إيدوم الى مقاطعات يهودا والجليل، وكان الاسم اللاتيني باليستينا مستخدما للإشارة الى كل الجنوب المشرقي. (97) كتاب تواريخ هيرودوتس يتضمن الحروب اليونانية – الفارسية وهو نص مركزي في المحافل الأكاديمية الغربية، ومدخل أساسي الى سجلات التقاليد الشفهية والسياسية والجغرافية القديمة والنزاعات بين مختلف القوى التي كانت معروفة في اليونان وغرب آسيا وشمال إفريقيا. وحين تتناول الكتابات الغربية المسيحية الحديثة فلسطين القديمة وذاكرة الأسماء الجغرافية، فهي تعتمد جزئيا على عمل هيرودوتس الكلاسيكي؛ لكنها تلتزم بالتوراة حين تتطرق للقضايا السياسية. ارتحل هيرودوتس في "جزء سوريا المسمى فلسطين، الذي رأيته بنفسي". عدة مرات يشير الى باليستينه السورية او باليستينه فقط على انها منطقة تضم كامل الأرض بين مصر وفينيقيا. يصف بالتفصيل مدينة أشكيلون المرفأ القديم. زمن هيرودوتس كانت فلسطين وثنية متعددة الآلهة، وأشكيلون بها معبد أفروديت أورانيا . وهذا يعني "الحب السماوي" و"الروحي" تمييزا عن الناحية الأكثر دنيوية المسماة أفروديت بانديموس (افروديت لجميع الناس).(98) عبادة أفروديت اورانيا ترتبط بالجسد والروح وبالحب الروحاني والجمال والخصب والتناسل واللذة. وارتبطت كذلك بالبحر، وكانت تقام في عدة مدن، منها يافا، التي سميت عروس البحر. على النقيض من التوراة سعى هيرودونس وثوكيديدييس(460-400ق.م) الى فصل الأسطورة عن الحقيقة المستمدة من الحجة العقلانية (لوغوس)، وفصل تواريخ الآلهة عن تواريخ البشر. أهملا السرديات السياسية والأسطورية لمصلحة الوقائع على الأرض، وتواريخهما جغرافية بشرية. الإثنوغرافيا مركزية في رواية هيرودوتس عن فلسطين وسكانها. ويشير هيرودوتس الى العرب الذين احتلوا مرافئ المتوسط البحرية في جنوب فلسطين وشمال سيناء ويشرفون على تجارة البخور من شرقي المتوسط الى جنوب شبه الجزيرة العربية وعبر البحر الأحمر الى الهند ازدهرت تجارة البخور على المتوسط ومصر عبر الجزيرة العربية وما وراءها، وتشمل العرب الأنباط (وعز البتراء في القرن الثاني الميلادي). سجل هيرودوتس محادثاته مع السكان ومنها ختن الصبية (ممارسة عند عبدة الآلهة المتعددة) نقلوها عن المصريين: "السوريون المسمون فلسطينيين" يعترفون انهم اخذوا العادة عن المصريين. (99). كتب ديفيد أشيري، أستاذ التاريخ القديم بالجامعة العبرية بالقدس، عميد كلية العلوم الإنسانية (1972-75) في تعقيب على هيرودوتس، كتب: "كان ’ السوريون المسمون فلسطينيين‘في زمن هيرودوتس مزيجا من الفينيقيين والعرب والمصريين، وربما شعوبا أخرى.... ، وفي زمن هيرودوتس كان هناك القليل من اليهود في المنطقة الساحلية." هيروتدونس ارتحل في البلاد ولم يذكر اليهودية ولم يشر الى اليهود. لم يذكر عبارات مثل كنعان او الكنعانيين او الإسرائيليين بفلسطين، ولا وصف عبادة التوحيد في البلد، أولا كما تبين الأدلة الأثرية كان التوحيد تطورا متأخرا جدا بفلسطين والشرق الأدنى؛ وثانيا وهذا أمر ذو دلالة، الكثير من العقائد الدينية الإيمانية في العهد القديم تطورت بعد هيرودوتس بقرون. وما يثير الاهتمام ان الأسماء الجغرافية القديمة لفلسطين، والإغريقية باليستينة ، وطنطور "طنطورة " وأسكالون(عسقلان)، حفظت في التقاليد المحلية الفلسطينية العربية وعند المؤرخين والرحالة العرب في القرون الوسطى وصارت أشكلان معروفة عند الفلسطينيين باسم عسقلان التي هجر الجيش الإسرائيلي سكانها عام 1950. يتبين من هنا أن الأسماء المحلية للقرى والمدن الفلسطينية كانت مستقرة استقرارا جيدا عبر تاريخ فلسطين في العصور القديمة والوسطى والعصر الحديث. كتب أرسطو في علم الأرصاد الجوية واتى على ذكر البحر الميت "بحيرة لو قيدت رجلا وألقيته فيها لا يغرق ويعوم. ماؤها مالح ومر ولا يعيش بها سمك. لو نقعت ثيابا فيها ثم نفضتها تنظف". ظهر مختصر واف لكتاب أرسطو بعنوان "الآثار العلوية" نحو عام 800 م وضعه الباحث العربي المسيحي، يحيى بن البطريق.
فلسطين على خريطة بطليموس رسم الجغرافي السكندري والكاتب بطليموس (كلاويديو سبتوليماوس100-170م) أول خريطة معروفة في وصف فلسطين؛ ميز بطليموس بين ما سمي سورية- كويله وفينيقيا وفلسطين، على نحو اثبت فيه ان فلسطين كانت موجودة وتعامل على انها كيان مستقل ومنفصل. (101) كثيرا ما يجري الخلط بين سورية الجنوبية وسورية كويله، بقصد التمويه على وجود فلسطين تاريخية كوحدة سياسية؛ كويله -سوريا اسم أطلق على سورية في العصر الكلاسيكي القديم. كلمة كويلة تعني بالآرامية "الكل"، لكنها اكتسبت بالإغريقية واللاتينية معنى مغايرا؛ فقد أطلق الاسم على سهل البقاع في لبنان. بعد انهيار امبراطورية الإسكندر تقاتل الورثة السلوقيون والبطالسة، وظهر الاسم سوريه كويله في عهد السلوقيين، خلال الفترة 312-63 ق.م. تلاشت الامبراطوريتان مع بروز روما في القرن الأول ق.م؛ كانت الإمبراطورية السلوقية وعاصمتها انطاكية مركزا أساسيا للثقافة الهلينية. غير ان المؤرخين الإغريق، على خطى هيرودوتس، فرقوا بين كويله سوريه وباليستينا، مع انهم لم يتفقوا على الحدود الدقيقة بين الوحدتين الجيوسياسيتين. (102) اما الجغرافيون والمؤرخون الإغريق فاستخدموا الاسم للإشارة الى "كل سوريا باستثناء فلسطين"، ومنهم بطليموس، الذي استند اليه العلماء والجغرافيون العرب باستخدام اسمه العربي، بطليموس. كانت خريطة العالم التي رسمها معروفة في المجتمع الهليني في القرن الثاني ق.م. وفي كتاب الجغرافيا الذي كتبه حوالي 150 ق. م أشار الى فلسطين. فُقِد الكتاب في الغرب قرونا وكان معروفا لدى العرب والبيزنطيين. كان التمييز بين البلدان الثلاثة لدى بطليموس ذا نفوذ كبير لدى أجيال المؤرخين والجغرافيون علماء الخرائط والرحالة والحجاج والباحثين عن المغامرة. تأثر محمد الإدريسي بخريطة بطليموس وذكر استرابو، بليني الأكبر، يوسيفوس وفيلو اٌسكندري خريطة بطليموس بصورة مباشرة وغير مباشرة وتمييزه بين بلدان بالستينا ، كويله -سورية وفينيقيا. (103) كثيرا ما عبرت الخرائط عن ممارسة السلطة لدى مختلف القوى عبر قرون متعددة. واستخدمت الخرائط لدى البدء بتوسيع الامبراطورية الرومانية. وفي القرن التاسع ترجم كتاب بطليموس، الجغرافيا، وخريطته الإغريقية الى العربية؛ وأدت دورا في تصحيح رسم الخرائط لدى الخوارزمي (نحو 780-850م) في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا واستخدم عمله الأدبي وخريطته في خدمة التجارة العالمية والإسلامية والدولة العباسية في بغداد. وفي أواخر الفرن التاسع عشر أعاد كلود رينيه كوندر إنتاج خريطة بطليموس لصندوق اكتشاف فلسطين، واستخدمت في دعم الطموحات الامبريالية البريطانية في الشرق الأدنى وفلسطين. (104)
رفع هدريان مرتبة فلسطين: التسمية الرسمية لمقاطعة "سوريا باليستينا"(135-390) حفظ اسم فلسطين الكثير من السجلات المكتوبة بمختلف اللغات – اللاتينية، الإغريقية، الأرامية والعبرية وتناولتها كذلك الحوليات والنصوص، وفي الدين الجديد، المسيحية أثناء الفترة الرومانية، حيث غدت فلسطين مقاطعة ضمن الإمبراطورية. في هذه الأثناء كان اسم فلسطين يعود الى ألف عام ومتداول جدا. تم تداول الاسم بالإغريقية واللاتينية اللتين كانتا شائعتين في الإمبراطورية والشرق الأوسط.، تستخدمان في التجارة والإدارة والتربية والدين والعمارة والدبلوماسية والنقود وأسماء الأماكن الأساس في الشرق المتوسط كله. مراجع الباحث مصالحة باللغات الأجنبية تعد أكثر من 450 مرجعا ، وتجد اسم المرجع بالهامش مؤكدا لأبسط معلومة واردة بالكتاب. كانت فلسطين وحدة إدارية أساسية إقليمية كبرى في الإمبراطورية، حتى العام 293م. كان يحكم الولاية ساسة بمرتبة شيوخ، أو قناصل سابقون، أو قادة عسكريون كبار. ميز الرومان بين الولاية الصغيرة، مثل يهودا في القرن الأول الميلادي، والولايات الكبرى، او مقاطعات برو قنصلية، مثل "سوريا- باليستينا" بعد العام 135. (105) يقال انشئت ولاية سوريا - باليستينا لتضم يهودا والسامرة والجليل بالشمال وإيدوميا بالجنوب وذلك بعد هزيمة ثورة باركوخبا عام 135م. بعد أربعة أعوام حملت الولاية الاسم سورية- باليست[ينا] الدبلوما العسكرية الرومانية التي تمنح لقاء الخدمة العسكرية-لوحة برونزية مستطيلة "اكتشفت بفلسطين بالقرب من الناصرة " أواخر القرن التاسع عشر، وعرضت بمتحف اللوفر. الشهادة يصدرها الامبراطور وتعني ان حاملها منح المواطنة الرومانية بكل ميزاتها مكافأة على الخدمة العسكرية. إضافة لهذا الأمر العسكري كان اول دليل نقدي من ولاية سوريا- باليستينا من عهد ماركوس أوريليوس161-180 م. لم يكن للمفهوم الروماني (والهدرياني) لفلسطين علاقة بأي سرديات توراتية أو سرديات في العهد القديم عن "الفلستيين". وبالنظر الى هدريان، وإضافة الى تداخل الاعتبارات العسكرية – الاستراتيجية والسياسية، بعد هزيمة باركوخبا ينبغي للاعتبارات التاريخية- الجغرافية التي كانت وراء رفع الرومان مرتبة باليستينا أوائل القرن الثاني، ان تؤخذ بالحسبان. في النهاية اختار الامبرطور هدريان اسم فلستيا وعمره ألف سنة، وهو التسمية الجغرافية – السياسية الأكثر شيوعا لفلسطين؛ استخدمها الجغرافيون والمؤرخون الإغريق زمنا طويلا قبل ان تكتب أقاصيص العهد القديم. جمع هدريان فلسطين مع أجزاء جنوبية من سورية. (106) شاع الاسمان باليستين الإغريقي وباليستينا اللاتيني وذكرا تكرارا في الأدبيات الكلاسيكية ولدى المؤرخين والشعراء الإغريق والرومان، بالإشارة الى البلاد التي بين مصر وفينيقيا. الشاعر الروماني، أوفيد، أوائل القرن الأول م، وهو واحد من الشعراء المعترف بهم في الأدب اللاتيني، ذكر مرارا عبارة باليستيا وصفة باليستينو في التحولات واشعاره الملحمية الأخرى. وفي العام 90م نقل سينيسيوس- المطران الإغريقي ليتو ليمايس، في ليبيا الحديثة أوائل القرن الرابع عن كاتب إغريقي – روماني شهير آخر من القرن الأول، وهو ديو كريزوستوم (نحو 40-155) الخطيب والفيلسوف والمؤرخ للامبراطورية الرومانية إشارة الى البحر الميت انه موجود "داخل فلسطين"(108) وأشار شاعر كلاسيكيي روماني آخر من القرن الميلادي الأول، بويليوس بابيتيوس ستاتيوس، في مجموعته الشعرية (سيلفيه) الى "ليكوريس باليستيني "(نبيذ فلسطيني) كان ينتج بمقادير كبير ة ويسوق في منطقة المتوسط، استمد شهرته من توابل جنوب الجزيرة العربية وأعشاب محلية والبلسم العطري الفلسطيني. صدّر النبيذ الفلسطيني في جميع أنحاء البحر المتوسط والشرق الأدنى واحتفظت فلسطين بأساليب صناعة النبيذ حتى العصر الحديث؛ وكانت شجيرة البلسم تزرع في الجليل أوائل القرن التاسع عشر. يتبع لطفا
.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزة.. تعثرت مرارا لتنهض وتركت بصمتها على الحضارة
-
فلسطين عبر التاريخ كانت وستبقى
-
اضطرابات الشرق الأوسط ومأساة تقرير لجنة كينغ-كراين
-
هل ثمة آمال معلقة على مصادقة مجلس الأمن على خطة ترمب؟
-
جهود محمومة لتثبيت حدود إسرائيل التوراتية
-
مغالطات عن الإسلام يسوّغ الغرب بها مغامراته العدوانية -2
-
مغالطات عن الإسلام يسوّغ الغرب بها مغامراته العدوانية
-
كاتبة اميركية تفضح خدع إسرائيل
-
مآلات وردود أفعال غير محسوبة لحروب التوسع والإلحاق
-
هل إسرائيل على حافة انهيار؟ تساءل المؤرخ الإسرائيلي إيلان با
...
-
إسرائيل مسلسل حروب وشواحن كراهية وتمييز عنصري
-
إرادة لا تُقهر: انتصار روح غزة على عمارة الإبادة الجماعية
-
ميلّر مايسترو بروباغاندا الفاشية بإدارة ترمي
-
هل أجهزت حرب الإبادة على القانون الدولي كذلك؟
-
دولة العدوان تكرر لفنزويلا ما اقترفته ضد العراق
-
إدارة ترمب تضطهد منتقدي إسرائيل ، خاصة الأساتذة والطلبة بالج
...
-
يتكئون على الدعم الأمريكي:شارون و بوش الابن مثالا
-
بين نارين على طريق الآلام
-
صفقة ترامب جريمة حرب
-
-لن يتكرر أبدا- لشعوب المعمورة كافة
المزيد.....
-
روسيا تشن هجومًا واسعًا على أوكرانيا وتغرق مدنها في الظلام
-
تركيا: انقطاع الاتصال بطائرة تقل رئيس الأركان الليبي بعد إقل
...
-
إسرائيل تمدد -قانون الجزيرة- وسط جدل بشأن تراجع حرية الاعلام
...
-
عيد الميلاد في سوريا: احتفالات حذرة وأضواء خافتة بدمشق تتناق
...
-
السودان في كأس أفريقيا .. هوية وروح واحدة في زمن الانقسام
-
عاجل| القناة 13 الإسرائيلية عن مصادر: نتنياهو سيطلب من ترامب
...
-
العمري: هذه هي خطورة -قانون الجزيرة- بصيغته الجديدة
-
قوات إسرائيلية تقتحم بلدة كفر عقب ومخيم قلنديا
-
موت بلا قذائف.. كيف تفتك آثار الحرب بأطفال غزة؟
-
عاجل | وسائل إعلام تركية: انقطاع الاتصال بطائرة ليبية أقلعت
...
المزيد.....
-
قراءة في وثائق وقف الحرب في قطاع غزة
/ معتصم حمادة
-
مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني
/ غازي الصوراني
-
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي
...
/ غازي الصوراني
-
بصدد دولة إسرائيل الكبرى
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل
/ سعيد مضيه
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|