|
|
من دفتر اليوميات/ محمود شقير50
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 12:55
المحور:
الادب والفن
الثلاثاء 9 / 1 / 2007 ذهبت إلى رام الله للمشاركة في ندوة تقيمها مؤسسة تامر، حول أدب الكاتبة السويدية أستريد ليندغرين. ذهبت وأنا ملتزم جانب الحذر، لأن الإسرائيليين داهموا المدينة قبل أيام وقتلوا وجرحوا خمسة وعشرين مواطناً. يومها كنا، الشاعر علي الخليلي وأنا، في رام الله للمشاركة في حوار أجرته معنا الفضائية الفلسطينية، بمناسبة ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية. انصبّ الحوار على العلاقة بين المثقف والثورة. بعد الانتهاء من الحوار، واصلت أنا وصديقي الشاعر التذمر مما يحدث في بلادنا من فوضى واقتتال، ثم افترقنا. تمشيت في شوارع رام الله ساعة، ثم زرت صديقي الناقد محمد البطراوي في بيته القريب من مقر الرئاسة الفلسطينية، كم ترددت على هذا البيت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية! حدثني صديقي الناقد عن اجتهاداته التي يشتغل عليها لتبسيط قواعد اللغة العربية. وفي الثالثة بعد الظهر غادرت رام الله. بعد ذلك بنصف ساعة وقع الهجوم على مركز المدينة. ذهبت إلى المدينة وكان الطقس بارداً. ارتديت معطفي الأسود وذهبت. مشيت في شوارعها بعض الوقت. كم أحب رياضة المشي! تذكرت وأنا أمشي نتفاً من السنوات الطويلة التي قضيتها هنا. كانت سنوات ممتعة رغم بعض المنغصات. والآن، ترسل الشمس أشعتها من سماء صافية، غير أن الطقس بارد جداً. وفيما أنا منهمك في رياضة المشي، اعتقدت أنني لمحت أحد أصدقائي القدامى، ولم أكن متأكداً من أن الشخص المعني هو صديقي. رأيته يلقي نحوي نظرة سريعة، وكان يرتدي قبعة على رأسه، فلم أكن على يقين من أنه هو. وكنت أضع على عيني نظارات شمسية، ويبدو أنه لم يكن على يقين من أن من يراه هو صديقه الذي هو أنا. كان ذلك في لحظة خاطفة، وسار كل منا في اتجاه. جلست في مطعم صغير اسمه: مطعم الناصرة أرتاده كلما زرت رام الله. وجدت الكاتب عبد الهادي الشروف هناك (كنا معاً في فيينا العام 1989 للمشاركة في ندوة دولية حول آفاق حل الصراع العربي الإسرائيلي). عبد الهادي أصيب قبل أعوام قليلة، بجلطة دماغية أفقدته القدرة على الكلام، لكنه يفهم ما يقال له، ويعبر عن نفسه بالإشارة وببعض حروف يجتهد في التلفظ بها. أكلت ساندويش فلافل وشربت كأساً من عصير التفاح. أصرّ عبد الهادي على دفع الحساب. شكرته وخرجت لأن موعد الندوة اقترب. ذهبت إلى الندوة وبقيت فيها ساعتين. دار النقاش حول رواية "ميو يا ولدي" ورواية "الأخوان" وهما مكرستان للفتيات والفتيان، وفيهما تطلق الكاتبة لخيالها العنان، وتحلق في سماء الإبداع بكل اقتدار. غادرت رام الله بعد المساء. ودعت أضواء المدينة الناعسة، وبيوتها الأنيقة الجاثمة فوق التلال. أوقفت سيارتي مضطراً عند حاجز للجيش الإسرائيلي. أبرزت بطاقة هويتي لمجندة إسرائيلية تضع على كتفها بندقية سريعة الطلقات. حدقتْ في البطاقة ثم أشارت بيدها بما يعني أن بإمكاني المرور إلى القدس. غادرت الحاجز وعدت إلى القدس ثم إلى حي جبل المكبر حيث البيت، وكنت متعباً بعض الشيء.
الخميس 18 / 1 / 2007 أذهب إليها قبيل المساء. ثمة عزاء في البلدة القديمة. الرجل المتوفى ناهز المائة عام، وأنا لا أعرفه ولم ألتق به يوماً. أعرف بعض أفراد أسرته الذين جاءوا إلى بيتنا، للتعزية في وفاة أبي قبل أربع سنوات. أذهب إليها والطقس معتدل، لا مطر ولا رياح. للطقس المعتدل أهميته لدي، لأنني لا أحب البرودة التي تنخر العظام. أجتاز المخفر الإسرائيلي الجاثم على قمة الجبل. على يسار المخفر مستوطنة قديمة وعلى يمينه مستوطنة جديدة، والمخفر يحتجز عدداً من العمال المتسللين إلى القدس من خلف الجدار. يحرسهم جندي عند رصيف الشارع وهم متلاصقون بالقرب من بعضهم بعضاً في مذلة وإعياء. أدخل شارع الخليل الذي يربط القدس بالجنوب. ثمة حركة سير نشطة في الشارع. وثمة أعداد قليلة من الإسرائيليين والإسرائيليات يتمشون على الرصيف، ربما لأن تعباً قد انتابهم فآثروا البقاء في البيوت. وأنا أفكر في مصير المدينة بعد أن كثر فيها البناء الاستيطاني، وأفكر في ما أنجزته هذا اليوم من كتابة، فأبدو مشتت المشاعر بعض الشيء. أقود سيارتي في زحمة السير، وسور المدينة رابض في موقعه، وأنا أجتازه إلى ساحة تتوقف فيها السيارات. أدخل البلدة القديمة دون أن أفكر في الموت، موتي أنا. الموت هو آخر شيء يمكن أن أفكر فيه الآن، والرجل الذي مات شبع من الحياة، أو هكذا نصف من مات بعد بلوغه أرذل العمر. لو أن الميت طفل اغتاله الرصاص، أو صبية قتلها الجنود لاستبد بي شعور بالحزن والغضب. أدخل البلدة القديمة من جهة باب الساهرة، ولا يلفت انتباهي سوى ما في المكان من حركة. ليس ثمة اكتظاظ هنا في مثل هذه الساعة قبيل المساء. هنا نساء عائدات من رحلة التسوق أو مجرد التمشي في شارع صلاح الدين، ورجال من مختلف الأعمار في ذهاب وإياب. أتفرس في وجوه الناس. ألحظ بؤساً على بعض الوجوه، أو هذا ما أعتقده. وأسمع ضحكات ونداءات وسخريات، فثمة من لا يطيق البقاء صامتاً متجهماً رغم كل ما يحيط به من شقاء. أدخل بيت العزاء، ولا أمكث فيه سوى بضع دقائق تكفي لتسجيل حضوري، وللتأكيد على أنني قمت بواجب اجتماعي، لا يصح التخلي عنه تحت أية حجج أو أعذار. وأشعر أن البلدة القديمة تميل إلى نوع من الهدوء الملتبس في هذه الساعة قبيل المساء، ولا أقابل أحداً من معارفي في طرقات المدينة، كأنهم غادروها إلى بيوتهم مبكرين. والنساء يعدن الآن إلى بيوتهن، والرجال يعودون إلى بيوتهم. أتأمل العائدين والعائدات. ثمة من يعود على مهل، وثمة من يعود بخطوات متعجلة، كما لو أنه متلهف على الوصول إلى البيت، أو كما لو أنه يمتلئ بحكاية لن يستريح إلا بعد أن يرويها لذويه. والبيوت الآن تنتظر، وأنا لا أدري ما الذي يعتمل في رؤوس العائدين إلى بيوتهم من رجال ونساء. ثمة بالتأكيد آلاف المشاعر التي تصلح لتأليف عدد كبير من القصص، للتدليل على ما في الحياة من غنى وصخب. أغادر البلدة القديمة إلى شارع صلاح الدين، أشتري كتباً من المكتبة (ليس ثمة كتب كثيرة هنا لأسباب عديدة)، أدخل كافيتيريا يرتادها في العادة جيل الشباب والشابات (كما لو أنني أكابر، ولا أتوسل عودة الشباب يوماً لأخبره بما فعل المشيب). أشرب كأساً من عصير البرتقال، وأتصفح الكتب التي اشتريتها قبل دقائق، ثم أمضي إلى شارع الزهراء. أشتري سمكاً وأعود إلى البيت بعد المساء.
الأربعاء 31 / 1 / 2007 جاءت إلى بيتي امرأة من هونغ كونغ ومعها زميلها المصور. المرأة تعمل في محطة فوينكس بصفة كونها مقدمة برنامج تلفزيوني أسبوعي. لم أسمع بها ولم أقابلها حينما كنت في هونغ كونغ قبل عامين. أرسلت لي رسالة وصلت إلى بريدي الإلكتروني تقترح فيها علي أن تجري معي مقابلة لبثها في برنامجها التلفزيوني. كان اسمها الصيني: تشانغ تسياوين. ولها اسم غربي هو شارون، وتلك عادة اتخذتها لنفسها الأجيال المتعلمة في المستعمرة البريطانية السابقة، لإراحة الأجانب من عبء التلفظ بالأسماء الصينية الصعبة. أعرف بالطبع أن ثمة ممثلة جميلة تحمل هذا الاسم، وهذا الاسم يطلق على المذكر والمؤنث في إسرائيل. لكنه ظل اسماً ثقيل الظل وغير مهضوم بالنسبة لي، لسبب قد لا يخفى على من يتابع المآسي التي تعرض وما زال يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وتمنيت لو أن هذه المرأة اختارت لنفسها اسماً غربياً آخر، يتساوق مع جمالها الآسيوي ولا يثير في النفس أية ردود أفعال سلبية منفرة. مع ذلك، جاءت شارون إلى بيتي، وشعرتُ منذ اللحظة الأولى أنها صبية ظريفة ذكية، وهي متعاطفة مع الشعب الفلسطيني. ويبدو أنها أدركت بعد وصولها إلى البيت، أن اسمها الغربي ثقيل الوطأة على سمعي، فأخذت تبدي ارتياحاً كلما حاولت التلفظ باسمها الصيني الذي لم يكن التلفظ به سهلاً في البداية، شأنه في ذلك شأن أغلب الأسماء الصينية التي حاولت التلفظ بها حينما كنت في هونغ كونغ وبكين. أجرت تشانغ تسياوين المقابلة معي. سألتني عن اعتقالي مرتين في السجون الإسرائيلية وعن إبعادي من وطني مدة ثمانية عشر عاماً، فقدمت لها وللمشاهدين من بعد، موجزاً عما وقع لي. سألتني عن أسباب كتابتي للقصة القصيرة جداً، وعن قصصي القصيرة الساخرة، فأجبتها عن ذلك. سألتني عن الهوية الفلسطينية ومدى قدرتها على الصمود في وجه العسف الإسرائيلي الذي يهدف إلى تبديد الكينونة الفلسطينية، فأجبتها. سألتني عن معاناة الشعب الفلسطيني من الغزوة الصهيونية منذ مطلع القرن الماضي، أجبتها ورويت لها بعضاً مما ورد في الكتاب الجديد للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه الذي يرى أن ما جرى للفلسطينيين من تهجير قسري من وطنهم العام 1948 ، إنما هو عملية تطهير عرقي سافرة. أكملت تشانغ تسياوين مقابلتها لي على قمة جبل المكبر المطلة على القدس. قالت إنها ترغب في إنهاء المقابلة فيما القدس تظهر في خلفية الصورة. أخذتها هي وزميلها المصور في سيارتي وصعدنا إلى قمة الجبل (في الطريق إلى هناك، توقفنا قليلاً عند مستوطنة إسرائيلية جديدة يجري بناؤها ليس بعيداً عن بيتي. قام المصور بتصويرها لكي تظهر أثناء المقابلة). كان الطقس بارداً جداً، وثمة هواء بارد يلفح وجوهنا والغيوم تتراكض في السماء. وأنا وتشانغ تسياوين نسير ببطء على قمة الجبل، والمصور يتابعنا ويصور حركات أيدينا التي تشير إلى بعض المواقع في البلدة القديمة من القدس، ثم يصورنا والقدس تجثم خلفنا على مسافة ما من قمة الجبل. والمدينة التي ستظهر على شاشات أجهزة التلفاز في هونغ كونغ وغيرها من المدن الصينية، تواصل حياتها بصمت مع تهديد يومي لطابعها العربي الإسلامي المسيحي. وأنا أتأمل المدينة وفي قلبي أسى. والمقابلة تنتهي. أمضي في سيارتي ومعي تشانغ تسياوين وزميلها إلى فندق الأميركان كولوني في القدس. أودعهما عند مدخل الفندق، ثم أعود إلى البيت والمطر ينهمر مدراراً من السماء، والمساء قاتم حزين إلى حدّ ما. يتبع...51
#محمود_شقير (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير49
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير48
-
من دفتر اليوميات/محمود شقير47
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير46
-
وارفة الظلال/ قصة الدكتورة روز اليوسف شعبان
-
عن أقمار الأديب فتحي فوراني الخضراء
-
صفحات من حيفا للدكتور خالد تركي
-
راحوا وما عادوا!؟ كتاب المراثي للدكتور نبيه القاسم
-
عين الزيتون... البقاء في الوطن/ رواية : محمد على طه/ محمود ش
...
-
عامان على الطوفان... وماذا بعد؟
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير45
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير44
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير42
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير41
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير40
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير39
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير38
-
من دفتر اليوميات/محمود شقير37
-
من دفتر اليوميات/محمود شقير36
-
من دفتر اليوميات/ محمود شقير35
المزيد.....
-
المدير التنفيذي لمعجم الدوحة: رحلة بناء ذاكرة الأمة الفكرية
...
-
يعيد للعربية ذاكرتها اللغوية.. إطلاق معجم الدوحة التاريخي
-
رحيل الممثل الأميركي جيمس رانسون منتحرا عن 46 عاما
-
نجم مسلسل -ذا واير- الممثل جيمس رانسون ينتحر عن عمر يناهز 46
...
-
انتحار الممثل جيمس رانسون في ظروف غامضة
-
فيلم -القصص- يحصد التانيت الذهبي في ختام أيام قرطاج السينمائ
...
-
مدينة أهواز الإيرانية تحتضن مؤتمر اللغة العربية الـ5 + فيديو
...
-
تكريمات عربية وحضور فلسطيني لافت في جوائز -أيام قرطاج السينم
...
-
-الست- يوقظ الذاكرة ويشعل الجدل.. هل أنصف الفيلم أم كلثوم أم
...
-
بعد 7 سنوات من اللجوء.. قبائل تتقاسم الأرض واللغة في شمال ال
...
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|