أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالله عطوي الطوالبة - مداخلة بحثية في كتابنا (الإنسان والدين)















المزيد.....



مداخلة بحثية في كتابنا (الإنسان والدين)


عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 11:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يقضي الواجب أن نُسجِّلَ شكرنا للأكاديمي والمفكر الدكتور حسين جمعة على ما قال بحقنا من طَيِّبِ الكَلم وأطراه، وعلى مداخلته البحثية العميقة الرصينة في كتابنا الجديد (الإنسان والدين/ بعقولها تتقدم الأمم وليس بأديانها).
وانطلاقًا من قاعدة أن القضايا الفكرية، مثل الأطروحة الرئيسة لكتابنا تحتمل وجهات نظر ورؤى مختلفة، وهذا من طبائع الأمور بمعايير العلم دائم التطور والإتيان بالجديد المستجد، نرى من الأهمية بمكان إبداء الرأي بإيجاز بشأن مآخذ الدكتور وملاحظاته. ونحن نحييه على ذلك، والاختلاف في الرأي دافع رئيس للجدل النافع المفيد في الموضوع المبحوث. يأخذ علينا الدكتور حسين أن "الجانب النفسي لم يجد المكانة اللائقة به، لا سيما الأحاسيس الدينية، التي تتولد عنها القناعات الدينية...". وفي الرد، نبين بداية أن الهدف الرئيس لبحثنا، كما بسطناه في المقدمة، المساهمة في تكريس وعي علمي بالدين، ودحض وهم التقدم بالدين. هذا يفرض علينا، كما بينَّا في المقدمة، تقصي جذور الدين وتعريفه كظاهرة اجتماعية وحشد أكبر قدر ممكن مما توصلت إليه رؤى الباحثين المتضلعين والدراسات العلمية الرصينة بهذا الخصوص، ثم البناء عليها لتحقيق الهدف المنشود. مقصود القول، إن موضوعًا كالذي تناولناه متشعب بطبيعي أمره، ويمكن تناوله من زوايا كثيرة، ولا نرى أن سياق تناولنا له في ضوء الهدف المطلوب، كما بينَّاه، يستدعي الوقوف على "الأحاسيس الدينية، التي تتولد عنها القناعات الدينية...". ومع ذلك، فإن صفحات كتابنا ليست خُلُوًّا من إلماعات في هذا الاتجاه، وبشكل خاص في الجزءين الثاني والثالث من الفصل الرابع. ولفت نظرنا أن الدكتور حسين لم يأتِ على ذِكر هذا الفصل في مداخلته البحثية القَيِّمَة.
ما يهمنا في "الجانب النفسي"، في سياق بحثنا وهدفه الرئيس، رؤى علم النفس بالدين. وقد خصصنا لذلك (25) صفحة، أضأنا فيها على رؤى ثلاثة من مؤسسي علم النفس وأساتذته، وهم مؤسس علم التحليل النفسي سيجموند فرويد، ومؤسس علم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ، وإريك فروم. بخصوص فرويد، التبس علينا قول الدكتور حسين "فقد رأى فرويد ارهاصات التفكير البدائي في الجنس...". ما يعنينا يا دكتور في سياق بحثنا بالدرجة الأولى، رأي فرويد بالسحر والدين. بخصوص الأول، يرى فرويد أن "السحر تكنيك الإنسان البدائي للتحكم بالعالم، أو ليسود على البشر والحيوانات والأشياء، أو بالأحرى على أرواحهم". ويضيف: "المبدأ الذي يحكم السحر هو طغيان الأفكار". وأهم مفاتيح طغيان الأفكار، بحسبه، "نزوع الإنسان البدائي إلى إخضاع الأشياء الواقعية لقوانين الحياة النفسية". ويرى فرويد أن الطوطمية، وهي ديانة سحرية، "الصيغة الأولى للدين في تاريخ البشرية". هذا مما ورد في كتابنا، ونرى أنه يكفي للإجابة على ملاحظة الدكتور حسين المومأ اليها قبل قليل.
أما في الدين، فيتحصَّل من بحوث فرويد وتبصراته بشأنه تفسيران، يفيد الأول بأنه "عُصاب وسواسي جماعي". أما الثاني، فنفسي صرف، يتأسس على شعور الإنسان بالخوف الطفولي والحاجة إلى حماية الأب القوي. ونُذَكِّر بالنقطة المركزية التي تتأسس عليها رؤى فرويد واجتهاداته المتعلقة بالثقافة والحضارة والدين، ونعني "عُقدة أوديب".
بالنسبة لملاحظات الدكتور بخصوص السحر والدين، وقد لحظنا أنها تشغل حيِّزًا واسعًا في مداخلته، فمن الواضح أن لكل منا مراجعه في هذا الشأن، وهو ما يندرج في إطار طبائع الأمور. وكما فهمنا رؤى الدكتور حسين بهذا الخصوص تحديدًا فهو يؤيدنا تارة، ويذهب في اتجاه يشي ببعض الاختلاف في الرؤية تارة أخرى. لكننا متفقان في الجزئية الأهم بهذا الخصوص، وهذا هو المهم، لجهة أن السحر نظام معرفي تشكَّل في العصور الحجرية، وهو نمط تفكير الإنسان البدائي في نظرته للذات وتفسيره للوجود والكون. ولا شيء يخص الفكر والمعرفة يتشكل خارج التاريخ، وواقع الإنسان المادي المعيش بأبعاده المادية والاجتماعية والثقافية، في هذه المرحلة التاريخية أو تلك. وقد أوردنا مختلف الرؤى وخلاصات الدراسات العلمية والبحثية بخصوص السحر والدين، ولا أرى أن الدكتور بعيد عما توصلنا إليه كما فهمنا من قوله:"السحر جزء لا يتجزأ من الدين، لأنه يقوم على وجود قوى سحرية قادرة على التأثير السلبي أو الإيجابي على الإنسان".
وبخصوص ما أخذه علينا الدكتور حسين بقوله إننا لم نتوقف عند "الجوانب الإيجابية في الدين"، فنحن لا ننفيها. وعلى الرُّغم من أنها ليست ضمن المهدوف الوصول إليه في سياقات بحثنا، فقد فرض أسلوبنا في التناول استحضار بعض منها، مثل قولنا بأن الدين لا يملك ما يقدمه للإنسان غير العزاء النفسي.
مرة ثانية، نتوجه بالشكر للدكتور حسين جمعة، ونترك القارئ مع مداخلته القيِّمة متمنين له رحلة فكرية شائقة بين سطورها.








الإنسان والدين
تأليف: د. عبد الله الطوالبة
مداخلـة: د. حسين جمعـة
من يتابع طروحات الدكتور عبدالله الطوالبة في الفضاء الإلكتروني سواء كانت تخص الشأن العام أو الشأن المحلي؛ يجد أنها تصدر عن قامة فكرية وازنة، تتحلى بعقل حصيف، وجراءَة غير معهودة في تلمس الإشكاليات التي تواجه المجتمع العربي الراهن عامة، والساحة المحلية خاصة. ويرجع ذلك إلى المنهجية العلمية التي تُشغل ذهنه وتؤرق وجدانه؛ فاستجاد بما يقدمه العلم، وما يدخل في بابه وتحت وظيفته، واستحث نظرته الموضوعية كقاعدة أساس، تقوم على مرونة المفاهيم في تطورها وحراكها الذاتي، التي تستجيب لمطلوبات الظواهر المتغيرة، وترسيخ التوجهات الأساسية في الواقع المتطور باستمرار، لكي يصل إلى تصور حياتي صادق عن هذا الواقع. هذه النظرة الموضوعية التي ترتكز إلى العلم، استدعت منه فاعلية مثمرة، وموقفاً سوياً إلى جانب الفئات والشرائح الاجتماعية المقهورة، الواقعة فريسة للتجهيل والترهيب والقمع، وإسكات جذوة الشعور بإنسانية البشر، وقدرتهم على مغالبة قدرهم ومصائرهم، وعدم رفع سويتهم للترافع عن كرامة الإنسان، ومكانته في الكون، وإدراك كينونته المتعالية في الحياة.
وقد أتاح له المنهج العلمي، وهو منهج إقناع يقوم على تثبيت الحقيقة الموضوعية، وفق التحليل العلمي الصارم للحقائق والوقائع من وجهة نظره، وتبيان مدى خطورتها وحيويتها، وتقييمها انطلاقاً من موقفه الطبقي، إذ لا يشفع له في هذه الحالة موقف الحياد، وعدم المبالاة إزاء تفسير الظواهر الاجتماعية، وارتباطها بروح الزمن، الذي يقتضي الاعتراف بإشكاليتها، ولزوم إعلاء شأن القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في المجتمع.
تقوم منهجية الدكتور الطوالبة في تناوله لإشكالية العلاقة بين الناس والدين على المعرفة العميقة بمادة البحث، وتقصي الظاهرة المطروحة بكل أبعادها، واستخلاص القيمة الحقيقية والموضوعية، ومن ثمَّ يطلق الحكم الذي يرتئيه بشأنها. أي أنه يجمع ما بين المعرفة الشمولية والتقييم الموضوعي، الذي تتبدى فيه فاعلية الذات الناقدة، بفضل إحاطة المؤلف الواسعة بالموضوع، وعدم اقتصار تقييمه على تفسير الظاهرة، وإنما يتجاوز ذلك، ويشارك في إعادة إنتاجها، ومحاولة تغييرها وفق رؤيته ووظيفته كمفکر مشتبك مع قضايا الأمة الحيوية. وتتجلى مؤهلاته المعرفية في اعتماده على خبرات سابقيه، وحسن اختياره لمراجعه الأدبية والعلمية، التي تستوفي مقتضيات الدراسة والبحث، التي سنحاول استبصارها وتقصيها.
مقصد مصنف الطوالبة تقديم تصور لحراك المجتمع، من خلال التقاليد الدينية وتطورها أو ثبوتها، ومدى انعكاسها على الناس وسلوكهم، من خلال هذه التقاليد المنضبطة، تحت لواء منظومات من الأفكار والقيم الموازية: في صورة الحياة، وفي نمط السلوك المعتاد، وفي العلاقات المتبادلة بين المجتمع والناس والدولة وسواها.
الغرض من كتاب المؤلف لفت الأنظار إلى التقاليد الدينية البالية، التي لا تتماشى مع روح العصر، وضرورة تجاوزها لبناء مجتمع يخلو من الخرافات والخزعبلات، التي تعوق مشوار حياتهم، وتسد الطريق أمام التقدم.. أي أن مهمة الطوالبة هي تنويرية في أساسها، وليست دعوة معاندة وتضليل، والقصد منها استبعاد النظرة الدينية المغلوطة عن العالم، ومجابهتها بالموقف العلمي السديد، وتفسير أسباب وينابيع نشأة ووجود الرؤية الدينية إلى الوجود، وتبيان الدور الاجتماعي للدين في المجتمع، ودروب مغالبة ما فيه من أباطيل وخرافات.
وهذا الأمر يستدعي إدراك ماهية الدين في مختلف وجوهه، ومن زواياه المتداخلة، كرؤية مشوهة عن العالم. وهذا ما أفاض به الدكتور الطوالبة في تقديم كتابه، وبناء تصوره على هذا الأساس. وأرى أن دراسة ماهية الدين تقوم على الركائز التالية: الفلسفية والاجتماعية والنفسية، حيث يرتكز المغزى المبدئي على تحليل الظاهرة الدينية من وحدة الزوايا المعرفية والاجتماعية والنفسية مجتمعة؛ فبدون التقييم المعرفي للدين كوعي وهمي، يتأسس على فهم خاطيء للطبيعة والإنسان والمجتمع، فلا يمكننا أن نحيط بوظائفه الاجتماعية والنفسية الأخرى، أي أن هذه الجوانب الثلاثة متكافلة، ولا يجوز بحث أحدهما في معزل عن الآخر، وهذا يعني أن الدرس الديني يستجمع في ثناياه عضوياً التحليل النظري للقضايا قيد البحث، القائم على استيعاء المادة الحقيقية الملموسة وتعميمها.
يرى إنجلز أن النقد الفلسفي والعلمي للنظرة الدينية، والتغلب عليها غير كافٍ لأن ننتهي من المشكلة: «بأن نعلن ببساطة أن الدين سخافة، طهي في مطبخ المحتالين. وعلينا إذا أردنا أن ننفك منها أن نوضح مصدر الدين ونشأته، كما تطوره». فالمطلوب إلى جانب العلم أن نتغلب على ظاهرة الدين بتفسيره تاريخياً، وحتى هذه المهمة تعجز عنها العلوم الطبيعية.
يتلخص الدرس الفلسفي للدين في مهتمين أساسيتين، وهما: فحص جوهر الدين وطبيعته كمقدمة منهجية للبحث، وتبيان بطلان وفساد التفسير اللاهوتي المثالي الذاتي والموضوعي، والنظر فيه كظاهرة اجتماعية ترى أن الدين (انعكاس وهمي في رؤوس البشر لقوى خارجية مهيمنة على عقولهم في حياتهم اليومية). كما أن التحليل الغنوصي (المعرفي) للدين، الذي يتوسل إلى تفسير الدين كانعكاس مشوه ومقلوب للواقع، حيث يبني الخيال الإنساني عالماً وهمياً من المخلوقات الغيبية غير الطبيعية، ويمنحها صفات وعلاقات بشرية. ويواكب النقد المعرفي للوعي الديني منهجية علمية لدراسة الظواهر الدينية المشتتة.
وإلى جانب التفسير الفلسفي للدين ــ الذي يؤازره ويقف في صفه ــ التحليل الاجتماعي الذي يبحث في مكانة الدين في المجتمع، ووظائفه الاجتماعية، ودراسة بنية القاعدة التي يرتكز إليها الدين، انطلاقاً من السؤال الأول في الفلسفة الماركسية.. أي لمن الأسبقية في الوجود، كمقدمة منهجية ضرورية في الدرس الاجتماعي، وما يتفرع عنه.
كما تدور دراسة المشكلة السيكولوجية حول الخصائص النفسية للمؤمنين، وعوالمهم الداخلية، ويدخل في نطاق هذا الدرس تقصي التصورات الدينية والمشاعر والمكابدات الإنسانية، التي بدونها يفتقد المتدين بوصلته الفكرية. يقول لينين في هذا الشأن: «بدون انفعالات إنسانية لا يمكن مطلقاً أن يجري البحث عن حقيقة الإنسان».. يعني أنه بدون ولادة المعاناة الغريزية البسيطة، وتفجر الأحاسيس الوطنية والأخلاقية وتجليها في التضحية، والإخلاص للواجب والحقيقة والمبدأ، لا يمكن أن تتولد قناعات الناس، وكذلك الإيمان الديني الشائع في النشاط النفسي للمؤمنين، الذي تُبنى عليه جميع العمليات النفسية الأساسية، التي يخضعها ويشوهها. ولذا، فإن من الضروري البحث العلمي عن مكانة الأفكار الدينية والمشاعر في وعي المؤمن، وتأثيرها على سلوكه، وما تمثله من أهمية نظرية وعملية نحتاج إليها في استقرائنا للظاهرة الدينية.
علينا أن ندرس الظاهرة الدينية جدلياً، انطلاقاً من الفهم السابق، كطرح يقوم على استقصاء الدين كظاهرة تلتقي فيها الجوانب الثلاثة: الفلسفية والاجتماعية والنفسية في كل موحد لا ينفصم أحدهما عن الآخر، ولا يجوز أن نأخذ بجانب واحد على حساب الآخر.
نعود إلى النظر في مصنف الدكتور الطوالبة، الذي يقع في أربعة أبواب، مقدمة وخاتمة. عُني معظم البحث وتركّز حول الجانب الفلسفي، وأحياناً الجانب الاجتماعي، بينما لم يجد الجانب النفسي المكانة اللائقة به، لا سيما الأحاسيس الدينية، التي تتولد عنها القناعات الدينية، والسلوك الديني، وما يتفرع عنه من تزمت ديني.
خص الدكتور الطوالبة الفصل الأول والثاني في البحث عن نشأة الدين ومصادره، معتمداً في ذلك على بعض الدراسات التي لامست هذا الموضوع في الساحة العربية، والتي بدورها استفادت من الدراسات الانتروبولوجية الغربية واستعانت بها، وسارت على خطاها. وانطلاقاً من استيعابه لمنطلقات هؤلاء الباحثين جاءت آراؤه في نشأة الدين متقاربة، وأحياناً متفقة في أهم المرتكزات الأساسية، التي توصلوا إليها واستكشفوها.
وقبل العبور إلى مناقشة بعض القضايا المطروحة، علينا أن نسلّم بأن معركة الخوض في نشأة التفكير البدائي، حيث نفتقد الصفحة الأولى من مخطوط تاریخ البشرية، المشحون بالألغاز والأسرار، غاية في التعتيم والإظلام، ونحتاج إلى استخلاص البذور الذهبية من البقايا والمخلفات الدارسة والغابرة، للعثور على أشياء ومنطويات تسعفنا في استدراك البدايات الأولى لمنطلقات تفكيرنا في أنفسنا وفي الكون، وفي كل ما يحيط بنا. اقتضى الأمر أكثر من عشرة ملايين سنة للقرد الشبيه بالإنسان، كي يأخذ الصفة البشرية، بعد أن تعلم دروب التخطيط، ونطق بأولى الألفاظ، وأدرك معنى التواصل مع الآخرين. ومن ثم تواصلت خطواته الحذرة في الحياة بعد أن قطع في مشواره عدة مراحل إلى أن بلغ مرحلة الإنتاج المادي واخترع الكتابة. لكن المرحلة الأولى في حياة التفكير الإنساني ظل يكتنفها الضباب والغموض، وأضحت عرضة لشتى التفسيرات والتأويلات، التي تعتمد على بعض المستحثات الغارقة في القدم، والاجتهادات القائمة على معرفة الإرهاصات الأولى للتفكير البدائي.
جرياً وراء بعض الدراسات في مجال بداية التفكير البدائي، أخذ المؤلف بالرأي القائل بأن هذه البداية تجلت في السحر في محاولة الإنسان الأولى للسيطرة على الطبيعة، وشرع يفصل في أنماط السحر وحالاته المتشعبة؛ ليؤكد للقاريء صحة هذه الفكرة. وأظن أن هذه الفكرة يعدوها الصواب، وتحتاج إلى إعادة النظر في مدى صحتها ودقتها، لا سيما أن الدارسين في الغرب اختلفوا فيما بينهم في هذه المسألة. فقد رأى فرويد إرهاصات التفكير البدائي في الجنس، وكاسيرير في الرمز، وفريزر في السحر، وليفي ــ برول في ما قبل المنطق، وفوندت في العاطفة. على سبيل المثال فرويد ومريدوه يرون أساس الأساطير والطقوس في الرغبة الجنسية، وهي رمز للجنسين الذكر والأنثى، كما نعثر على بعض الرموز في الرسوم على الصخور وهكذا. وعليه، يتعين علينا أن لا نركن إلى مثل هذه التأويلات وأن نتحصن بالمقاربة المادية والرؤية التاريخية عند النظر في مسائل الكينونة البشرية والتاريخ الإنساني.
ظهرت بواكير محاولات تفسير الظاهرة الدينية، والبحث في نشأتها، وجوهرها ومسبباتها منذ القدم. وكان لجهود فلاسفة الإغريق الأثر الجلي في هذا الشأن، حيث كان لهم الفضل في محاولة استيعاء ماهية الدين عقليّاً، وطرحوا تصوراتهم حول هذه المشكلة، انطلاقاً من أن المعتقدات الدينية ليست ظاهرة فطرية داخلية كامنة في أعماق الفرد، وإنما هي من اختلاق الإنسان. فقد رأى ديمقراط أن أساس الدين قائم على إخافة الناس من عقابيل ظواهر الطبيعة المفجعة، وسارت على هذا الدرب محاولات جموع الفلاسفة الماديين عبر التاريخ. وإلى جانب الاتجاهات المادية حضرت وانتعشت الدراسات الهادفة، التي تناولت جوهر الدين ونشأته من منطلقات مثالية، مثل المدرسة الميتيّة ــ الفلكية، والمدرسة البيولوجية واللسانية وغيرها، والاتجاه الأنتروبولوجي الذي استند إليه المؤلف في نظرته إلى نشأة الدين، كظاهرة نبعت من السحر، وكان السحر العتبة الأولى في مخاض ولادة الفكر الديني، ويعتبر فيورباخ رائد هذه المدرسة، الذي رأى أن خيال الإنسان الفسيح، وتخيلاته الجامحة أفضت إلى اختلاق الآلهة، وأن الدين ما هو إلا نتاج تأملات الإنسان وانفعالاته ونشاطه الحيوي. وموقف فيورباخ هذا وجد قبولاً واضحاً من ماركس، الذي توسّم فيه الرجوع إلى الأساس الدنيوي للدين، بعدما ابتعد كثيراً عن الأرض، وأن فيورباخ أعاد للدين جوهره الإنساني بعدما حلّق في السماء طويلاً. ومن أتباع هذه المدرسة عالم الآثار الانجليزي تيلور، الذي طور بعض مفاهيم فيورباخ، ودشّن فكرة إيمان الإنسان بالأرواح بالاعتماد على قوة خياله، كأساس لنشأة الإرهاصات الأولى للعبادة الدينية. ووصل الأمر بأحد أتباع مدرسة وجود التفكير السحري الطومائي (نسبة لتوما الإكويني) ماريتين أن اختصر تاريخ الحضارة الإنسانية في مرحلتين: المرحلة السحرية والمرحلة العقلانية، وقد تبعه هاس الألماني في كتابه (تفكير الشرق والغرب)، الذي يطرح فكرة التمييز بين الفكرين الغربي والشرقي، إذ يرى أن الفكر الغربي السحري أفرز الدين والفلسفة والقيم الأخلاقية والحقوقية، والتصورات العلمية والسياسية والمعرفة التقنية، بينما استحكم في الشرق في التفكير السحري.
وقد استحوذت أعمال كل من فريزر في (الغصن الذهبي)، وليفي ــ برول في (التفكير البدائي) على مكانة رفيعة في تناولها لقضية السحر في الفكر البدائي. فقد شدد فریز على التصورات التراسلية للإنسان البدائي، التي ساعدت على ترسيخ علاقات مشوهة بين الواقع وتلقيه؛ مما أسس البداية لنشوء فكرة السحر في أشكال الديانات القديمة. وعلى الوتيرة نفسها حاول ليفي ــ پرول تفسير العلاقات التراسلية المزيفة في الفكر البدائي، بإرجاعها إلى خصائص التفكير ما قبل المنطقي، القائم على العواطف والحس بالمشاركة (المشاركة الغيبية). هذه التصورات تستحق المراجعة والاستقصاء من وجهة النظر التاريخية والمادية، لتبيان تهافتها وبطلانها، ويتطلب منا الأمر التوقف عند أهم عناصرها ومقوماتها. يرى جيمس فريزر أن السحر سابق على الدين، وأنه سابق للعلم أو يمت بقرابة ما للعلم، وأن الأساطير الكامنة في أصل استخدام السحر هي افتراضات ما قبل علمية، كما هي حال التخمينات المشابهة للمعرفة العلمية، وأن السحر نبع نتيجة الاستنتاجات الخاطئة المرتكزة إلى العلاقات التراسلية العابرة، والترابط الخارجي وتشابه الأشياء والمواد، وتلاقي الظواهر التي تفتقد العلاقة السببية بينها وما ينتج عنها. وأن السحر يصدر عن مبدأ التعاطف: الشبيه يجر الشبيه، وينبثق القريب عن القريب بحكم العدوى، ويقدم نماذج لهذه العلاقات. وهذا ما يقول به ليفي ــ برول، الذي يتساءل ما الذي يجمع بين الغزال والقمح، وما بين الغزال وبين ريش الطير، ويرى العلاقة بينها وهمية، ومن هنا يجد في السحر ضالته. هذه المعضلة قام بتأويلها عالم النفس الشهير ليونتيف في كتابه (قضايا تطور النفسية) على حساب مفهوم المعنى ودلالات المعنى، وقام تصوره في تقصي الجذور المعرفية (الغنوصية) والنفسية في تكوين الإيمان بالقوى الخارقة والاعتيادية في الديانة القديمة على هذه المقولة. فهو يستوعب أن «ما يتخفى في الشيء أو الظاهرة هو موضوعي ــ في منظومة العلاقات والترابطات المتداخلة الموضوعية. الدلالة تنعكس وتتثبت في اللغة، وتترسخ بفضل ذلك». وهو يعني بالمعنى علاقة الذات بالمادة أو الشيء المنعكس فيها. ويجد ليونتيف في تطابق المعاني والدلالات الخاصية الأولى في الوعي البدائي. في المجتمع البدائي علاقة الفرد (بمعنى الشخصية ) بالشيء، كما العلاقة الجماعية، التي تترسخ في الدلالات الموضوعية للكلمات، هي في أساسها متكافئة. الشخصية لم تنفصل بعد عن الجماعة ومصالحها ونظرتها، وركائزها تتحدد من منطلق الجماعة، الأساس الاجتماعي الذي يقوم عليه اتفاق الدلالات والمعاني في المجتمع البدائي، تتساوى مع علاقة الناس بوسائل الإنتاج وثمارها، في ظل غياب الملكية الخاصة والطبقات الاجتماعية. ويواصل القول بأن تطور وسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية على أساس اتساع مجال الظواهر المستوعبة، يؤدي إلى خلل بين كيفية انعكاس هذه الظواهر في رؤوس الأفراد، والكيفية التي تشتمل عليها الدلالات اللغوية في الشكل، الذي يتم فيه استيعاؤها، وهذا الخلل سببه ندرة عدد الدلالات اللغوية، التي كانت في متناول الإنسان البدائي. ومن هذا الموقف انطلق ليفي ــ برول بالقول بنظرية «التفكير ما قبل المنطقي»، حيث لا نعثر على منطق المشاركة الميسورة لإنسان العصر الحديث. نعود إلى مسألة نقل المعنى إلى دلالاته المتنوعة، والذي فسر به ليونتيف أحجية ليفي ــ برول.
الغزال والقمح ــ ما الذي يجمع بينهما، إنهما شيئان مختلفان، انعكسا في وعي الإنسان البدائي في دلالات لغوية متكافئة. التفاوت في الدلالات يعكس، وفي ذات الوقت يعزز اختلاف النشاط المادي بخصوص العلاقة بالأشياء المشار إليها: الناس القدماء كانوا يعرفون جيداً كيف يجنون القمح، وكيف يصطادون الغزلان. كان ثمة ما يجمع بين القمح والغزال، إذ وجود الجماعة غير ممكن بدونهما، فهما الغذاء الرئيسي للجماعة، التي بدأت بالتدريج تستغني عن الغزال واستبداله بالقمح.. أي أن عهد الصيد في طريقه إلى الزوال، مع حلول زمن الزراعة والاستقرار. والجدير بالذكر هنا أن الإنسان الأول كان يساوي بينه وبين المخلوقات الأخرى، ويتخيل فيها صورة له، تتحرك وتنمو وتتبدل وفق المتغيرات وكأنها كائن حي. وعليه، فإن الغزال تجسد في حزمة من القمح بواسطة نقل المعنى إلى دلالاته، وفق الرؤية البدائية. وكذلك بخصوص الغزال وريش الطائر، الذي كانت تصنع منه السهام التي يُصطاد بها الغزال، يجري فيها الانتقال ذاته. وهذا يدل على أن فرضية نقل المعنى إلى دلالاته لعب دوراً في تشكل الإيمان في العلاقات الخارقة، التي نعثر عليها في السحر والطوطم. هذه الجذور الغنوصية ليست حكراً على التفكير البدائي، وإنما هي تخص كل وعي زائف ووهمي، سواء كان دينياً أو مثالياً، أو شكلاً من أشكال الوعي المشوّه.
السحر جزء لا يتجزأ من الدين، لأنه يقوم على وجود قوى سحرية، قادرة على التأثير السلبي أو الإيجابي على الإنسان، والإيمان بوجود علاقات غيبية بين الأشياء والظواهر، وكان السحر في القديم مرتبطاً بشدة بالإيمان بالطوطم والروح والرقى (الفتيش)، التي رأى فيها انجلز تصورات خاطئة عن الطبيعة، وعن وجود الإنسان ذاته، وأن لها أساساً اقتصادياً، ولكن بالمعنى السلبي، إذ وجد في فترة الاقتصاد المتدني السبب في ظهور التصورات الخاطئة عن الطبيعة. وهذا يعني أن التصورات والمعتقدات الدينية لا تظهر من تلقاء نفسها، وتأخذ أشكالها المتشعبة، وإنما تنبع تحت تأثير ملابسات اجتماعية محددة، ومستوى معين عن التطور. يقول انجلز: «جميع الأديان القديمة، نشأت عفوياً كديانات قبيلية، ومن ثم كديانات قومية، ونمت في ظل ملابسات اجتماعية وسياسية لكل شعب وتطورت وإياه».
يعود فساد نظرية (التفكير السحري) عن عدم إدراك أن الإنسان الأول كان له نصيب من التصورات الذهنية، التي بدونها لم يكن في استطاعته أن يعمل ويشتغل. كان البدائيون عندهم القدرة على التفكير، وملاحظة أن كل فعل له نتائجه، التي تتبع الفعل؛ إذ امتلكوا الحد الأدنى من أدوات الاستدلال والاستقراء، وكانوا يلجأون إلى الخبرة في سبيل الاسترشاد في حياتهم؛ فإذا التبست فإن الأمر ناجم عن الجهل بطبيعة الظواهر. ولو كان (التفكير السحري) هو السائد، لما استطاع الإنسان الأول أن يتعلم كيف يدير شؤون حياته: من خياطة الملابس، وبناء السكن، وتدجين الحيوان، وتعلم ثقافة الزراعة وغرس النبات، وأخيراً وأهم من كل شيء استكشاف النار. لم يكن المجتمع البدائي مملكة للأوهام وأحابيل السحرة وأباطيلهم، إذ أن تفكير البدائيين عكس إلى حد ما واقعهم. يقول لينين بهذا الشأن: «لم يكن باستطاعة الإنسان أن يتكيف بيولوجياً مع البيئة، إذا لم تقدم له أحاسيسه تصورات موضوعية/صحيحة عن هذه البيئة». تخضع التصورات والمفاهيم والاستخلاصات المرتبطة بالسحر والأسطورة جميعها لقوانين المنطق، فعندما كان الإنسان البدائي ينطلق من مقدمات خاطئة، فإنه منطقياً يتوصل إلى استنتاجات فانتازية خاطئة. ولمّا كان بوسعه أن يتعرف على مسببات الأفعال، فقد سعى للعثور على وسائل وقاية من فتنة السحر، وذلك بتوسل طقوس مانعة له. ويقال أن السحرة عندما کانوا يستجدون السحاب ينتظرون اليوم الواعد بالمطر.. أي الجو الغائم القابل لهطول الأمطار.
ننتقل إلى مسألة أخرى متعلقة بالسحر، التي ترى ينابيعه الأولى في النشاط الغريزي للإنسان الموروث من الحيوان، وأن التفكير البدائي كان شكلاً حدسياً تشاركياً، نشأ قبل التفكير المنطقي، ويقوم على الاستبصار المباشر والتشارك في رصد الظواهر المتغيرة. وفي نطاق هذه النظرة من التفكير المرتبط بالسحر والأسطورة كوسيلة تأثير، وأداة لتفسير الواقع وما يحيط به. ولكن هذه الفرضية القائمة على تصورات حدسية، لاستبطان حقائق الواقع مباشرة من قبل الإنسان الأول بدون خبرة وبدون استنتاجات منطقية يعوزها الصواب ولا تقف على أرضية صلبة.
إنجلز في «جدل الطبيعة» يشير إلى وجود بذور للتفكير الجدلي الساذج في مجتمع على درجة دنيا من التطور الصاعد، الذي مكّن الإنسان من إلقاء نظرة صحيحة على العالم، وارتباطه وتشابكاته، بحيث لا يبقى شيء على حاله، فكل ما فيه في حركة مستمرة دائمة.
يزعم أنصار الفرضية القائلة بأولوية السحر، أنه بدون السحر لم يكن في مقدورنا أن نتعرف على مبدأ الحتمية، والتي بفضلها تعرف الإنسان على مفهوم السببية، وطرح التساؤل (لماذا؟)، والإجابة عنه.. يعني أن مفهوم السببية هو ثمرة التأمل الغيبي، كما هو مفهوم القوة، وأن مفهوم السبب جزء لا يتجزأ في السحر.
هذه الفرضية المرتكزة إلى أن مجال السحر ــ هو الذي أدى إلى مبدأ السببية واهية، ولا تصمد أمام الرؤية المادية، التي ترى أن فكرة السبب والنتيجة نبتت وتطورت بفضل نشاط الإنسان الفاعل ونتيجة لهذا النشاط، وثمرة جهود عمله، أثناء إعداده لأدوات الإنتاج المؤلفة من الحجارة. وعلى رأي إنجلز عندما انتزع الإنسان ثمرة الجوز بالحجر، فقد توصل إلى استنتاج وتصور حول الأسباب والنتائج. وتكرار هذه العمليات كان الأساس المبدئي للتحليل، ومعرفة العلة والمعلول، وأفضى في نهاية المطاف إلى فهم سنن العلاقات بين الأسباب والنتائج، وأن أي فعل له سبب، وأن في الطبيعة ثمة قوانين معينة تربط بين الأشياء والمواد. وهذا كان يتطلب تطوراً ما، ولو كان محدوداً، في وعي الإنسان البدائي. وهذا ما لاحظه لينين عندما أشار: «مرّت آلاف السنين إلى أن ولدت فكرة العلاقات بين الأشياء، وسلسلة الأسباب». وهذا «يستوجب درجة عليا من التطور».
الإنسان البدائي لم يدرك الأسباب كمعيار للتفكير الإنساني. لذا، نراه غالباً يجسد أسباب الظواهر في صور الأرواح. وأخيراً إن ما نعثر عليه في السحر من أثر عقلي، مثل تكرار الظواهر، مأخوذ من الخبرة العملية والإنتاج المادي، وأن استكشاف الجدل في الطبيعة والمجتمع، واستيعاء هذه الفلسفة بما في ذلك الدين، لم تبدأ من السحر، وإنما من الصراع وإياه.
يرتبط طرح أي إشكالية فلسفية ــ تاريخية بقوة بمسألة تثقيف الفكر التاريخي، فنحن لا نستطيع أن نتفهم أية حقيقة خارج نطاق الزمن والأجيال وخارج دينامية التاريخ وتطور الفكر ذاته. وعلى هذا الأساس نبني مقاربتنا للفكر الميثي (الأسطوري)، فقد ترافق ظهوره مع نشاط الإنسان البدائي في حقل العمل، وكذلك ارتبطت معاناته وأفعاله بنشاطه العملي، وبنفسية الجماعة البدائية وأيديولوجيتها؛ فالأسطورة تسعى إلى ترسيخ الرغبات الإنسانية، وتنظيم الأفعال الجماعية، والإيحاء بأن الإحساس بوحدة أفراد الجماعة، والانسجام بينهم وتشاركهم في الهموم هي أهداف عامة، والإنسان البدائي كان لا ينفصم عن الجماعة، وجزءاً لا يتجرأ منها، فهو لا يحس بوجوده خارج نطاق الجماعة، وهذا لا يعني أن اندماجه بالجماعة مطلق، ويستحوذ على كيانه بأسره، بل كانت علاقته بالجماعة تترك مجالاً لأحاسيسه الفردية، وتقتصر على هيمنة العادات والعبادات.
الأسطورة استبصار خاص نبت في المجتمع البدائي، وتضمن رؤية الإنسان الأولى إلى ظواهر الطبيعة والحياة، وتكمن فيه إرهاصات المعرفة العلمية والتصورات الدينية والأخلاقية، التي سادت في المجتمع القبيلي، وكذلك استنطقت مشاعرهم الجمالية والفنية في فترة فجر التاريخ. يتقاطع في الأسطورة الإيمان والاختلاق والمعرفة ككل موحد. وكانت وظيفة الأسطورة وعلاقتها تتوقف على تفسير حقائق الواقع ومعرفة أسبابها. وهذا ما أجمع عليه كثير من العلماء الذين رأوا في الأسطورة المصدر القديم للفلسفة والدين والعلم، وشكل للإبداع الفني.. أي أنها سردية شعبية بدائية من إنتاج الفانتازيا الشعبية، تتضمن تفسيراً لأسباب ظواهر الطبيعة والحياة البشرية بواسطة التجسيم الساذج، حتى ولو كانت هذه الأسباب غير واقعية وواهية.
ثمة علاقة للدين بالأسطورة في الفكر البدائي، لأن المرجعية واحدة، وهي نشاط المخيلة الفانتازي، والإيمان بالصور التي تخترعها هذه المخيلة. لكن في الأسطورة لا تعارض بين صورة الشيء والشيء نفسه، وبين المثالي والواقعي، وليس ثمة اختلاف بين المحسوس والخارق، بين الفردي والجمعي، بينما الفانتازيا في الدين تميّز فكرة الشيء عن الشيء نفسه، والمجسّد عن المتجسِّد، والرمز عن المرموز، وتضع الحسي فى مواجهة اللاحسي، والطبيعي في مقابل اللاطبيعي.
الأسطورة رؤية فريدة للعالم، نمط خاص من التصورات عن الواقع القائم، الذي يختلط فيه الواقع بالفانتازي، أما الدين فإنه إيمان يمرِّر ما هو سحري وعجائبي وفانتازي، لكنه يميّز ما بين الفانتازي والواقعي، ويعاني من التفاوت ما بين المثالي والحقيقي، ويفرض العيش ضمن أعرافه الخاصة، ويتطلب المحافظة على نوع معين من الطقوس والمحرمات وهكذا. الدين يشرخ العالم الموحد إلى عالمين: عالم خارق وعالم طبيعي، بينما الأسطورة لا تُعنى بهذا التقسيم، حيث تخلو من مشكلة التضافر ما بين الطبيعي وغير الطبيعي.
منبع الدين ضعف الإنسان أمام القوى الطبيعية والاجتماعية، إذ أنه يعاني من الخوف والإحباط وقلة الحيلة، فيلجأ إلى الإيمان بالآلهة وما يرتبط بها من عبادات.
تتباين العلاقة بين الدين والأسطورة من ثقافة لأخرى، ومن شعب لآخر، فبينما تسيطر دوافع وبواعث الأسطورة في أحد المجتمعات، تسيطر البواعث الدينية على مجتمع آخر.
الدين مرتبط بشدة بالعبادات، بينما الأسطورة تخلصت تماماً من العبادة أو ضعفت علاقتها بها، واقتربت في أحايين كثيرة من الحكاية.
يرى البعض أن الدين ظاهرة فطرية، تلد مع الإنسان، وفسر آخرون طبيعة الآلهة كانعكاس للقوى الطبيعية، متناسين أن وراء الأساطير والدين تكمن ظواهر اجتماعية. رأى ماركس في فكرة بحث الإنسان الأول عن الألوهية عبثاً وسخافة، وأبرز الدلالة الحقيقية للأساطير، التي تعتمد على الكينونة الاجتماعية والجماعية: «كل الأساطير تتغلب وتخضع وتشكل قوى الطبيعة في المخيلة وعبر المخيلة، وهذه تزول مع حلول السيطرة الفعلية على هذه القوى الطبيعية». وأثبت «أن الواقع الغابر يجد انعكاسه في صور الأساطير الفانتازية». إذا كان هيغل يرى أن «الدين يشكل مقدمة حيوية للفن»، فإن ماركس يجد هذه المقدمة في الميثولوجيا، المتحررة من العبادة الدينية.
الأسطورة الدينية دائماً مقدسة، وغالباً ما تكون شعائرية.. يعني مرتبطة بالطقوس السحرية. يؤكد بروب أحد أهم دارسي الحكاية السحرية على أن (الأسطورة ــ هي قصة عن ماهية الآلهة أو التأليه، التي يؤمن بها الناس). الأسطورة نتاج فانتازيا الشعب، التي نتجت عن حب استطلاع العقل الإنساني في مراحل غابرة، وتتضمن تفسيراً للعالم في شكل متجسد ساذج. يجنح بليخانوف إلى القول بأن الأسطورة ــ قصة تجيب عن سؤال لماذا، وبأي صورة؟ الأسطورة أول تعبير لوعي الإنسان للعلاقة السببية بين الظواهر. مبدع الأسطورة يسعى إلى الإجابة عن التشابه بين الأشياء المختلفة وظواهر الطبيعة والمجتمع في تحولاتها المتنوعة.
بخصوص علاقة الدين بالأسطورة يتفق بليخانوف مع الفكرة القائلة أن الأسطورة عنصر من عناصر الدين، وليست جميع الأساطير دينية، ولكنه لا يضع الأسطورة في مواجهة الدين.
ويميز ماركس بين الوعي الفلسفي وبين أشكال الوعي الأخرى: «الوعي الفلسفي، الذي يتجذر في مفاهيم التفكير... هو نتاج الرأس المفكر. الذي يلمّ بالعالم بالصورة الاستثنائية التي يتضمنها ــ بالصورة التي تختلف عن الإحاطة الفنية والدينية والروحية/ العملية لهذا العالم». أي علينا أن نفصل الميثولوجيا كاختراع فني لا واع للطبيعة والمجتمع عن الفلسفة، التي تعبر عن العالم بوعي في تعميمات تجريدية مطلقة.
وأخيراً، وليس آخراً أن الأسطورة في محتواها متناقضة ومتضاربة، فهي تعبر عما هو إيجابي وسلبي في حياة الناس في المجتمع البدائي، وعن التناقض بين العقلي واللاعقلي؛ فالأسطورة تحتوي على جوانب تعكس أول انتصارات الإنسان على الطبيعة، وعلى أعراف أخلاقية ومعارف تجريبية، ومن جانب آخر تتضمن طقوساً، وانغلاقاً كامناً في أخلاقيات القبيلة وغيرها من أباطيل وتلفيقات.
وفي الفصل الثالث قدم المؤلف مرافعة ذكية عن دور العلم، وضرورته ومكانته في القضاء على مخلفات الماضي وطي الآثار السلبية للدين، لا سيما ما يخص الجوانب المتنابذة مع العلم. العلم والدين في الرؤية إلى العالم متناقضان، لأن جوهر الدين مثالي في مصدره ونشأته وهو ثابت ومستقر، والنظرة المادية تقول أن كل ما في العالم في حركة دائمة لا تنتهي، وأن الواقع المادي يوجد بغض النظر عن وعيه وإدراكه، لأنه سابق عليه. والدين ينظر إلى العالم من منظور مثالي، ينطلق من بداية خاطئة غير مادية، وهي أن الوعي، أو الفكرة أو ما يسمى الإرادة وروح العالم يسبق الزمان والمكان. الرؤية الدينية مثالية ساذجة لا تتماشى مع ما توصل إليه العلم، وتتعارض مع الممارسة التاريخية، التي خاضعها الإنسان منذ آلاف السنين في طريق تذليل قوى الطبيعة لأغراضه ومراميه.
ومع ذلك فثمة جوانب إيجابية في الدين لم يتوقف عندها المؤلف، ولا سيما الوظيفة التكاملية، وأهميتها الاجتماعية، وتوحيد الناس في نطاق معتقد ثابت وراسخ يقوم على مثل وقيم اجتماعية وأخلاقية وروحية قوية، متمسكة بعقيدتها وبمنظومة الأعراف الدينية المنبثقة عنها، حيث تشكل روح الجماعة سنداً بنيوياً متيناً لا تنفصم عراه.
ولا ننسى عند الحديث عن العلم، أن نذكر أن الإنسان ظاهرة تفوق كل تصور في أبعاده الاجتماعية والذهنية والعقلية، وفي ممارسته الأخلاقية والروحية والمعيشية، بحيث يعجز أي وصف عن تحديد ماهيته وسر كينونته. لغز الإنسان وسر كينونته سيبقى موضع بحث ودراسة لكشف ما هو إنساني في الإنسان، وما هو دخيل بحكم المواضعات الاجتماعية والظروف اللاإنسانية في المجتمع الطبقي.
أنست بمصنف الدكتور عبد الله الطوالبة، واستمتعت بأفكاره الجريئة، وآرائه السديدة التي نحتاج إليها في زمن الضياع، وخيبة الأمل التي نعيشها، العامرة رغم كل شيء بالأمل، والتفاؤل في مستقبل زاهر بفضل الجيل الجديد المنتظر، الذي يعيش الثورة التقنية بكل أبعادها وأهدافها، يحدوه التغلب على الصعاب، وإنجاز المعجزات، لا يستكين للظلم والاستبداد وقهر العباد، يستنير بالعلم والمعرفة لإضاءة جميع الدروب لبناء مجتمع الرفاه والمساواة والعدالة الحقيقية في الكون بأسره، ويسعى للتخلص من المجتمع الطبقي القائم على الاستغلال والملكية الخاصة لأدوات الإنتاج، والتحكم بعيش الآخرين وسلب إرادتهم في التعبير عن أنفسهم، وعن قناعاتهم الفكرية والروحية بأريحية وحرية تامة، وتطهير ذواتهم من النرجسية، وحب التملك على حساب الآخر.



#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية (11) والأخيرة خلاصات
- ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية (10) صدام مسلح مع الإنجل ...
- ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية (9) برنامج الثورة وانطلا ...
- لعبة الأمم (4) عهد جديد في مصر وقيادة مختلفة
- لعبة الأمم (3) دروس وعِبر لمن يريد أن يقرأ ويفهم ما يقرأ ويت ...
- لعبة الأمم (2) انقلاب حسني الزعيم من اعدادنا وتخطيطنا !
- لعبة الأمم (1) لا مجال للأخلاق في السياسات الخارجية الأميركي ...
- منطقتنا لن تقبل الكيان اللقيط يا سيادة المستشار
- ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية (8) أسباب الثورة
- مصر العربية أم الفرعونية؟! (3) وأخيرة
- الفلسفة في مواجهة التطرف
- مصر العربية أم الفرعونية؟!(2)
- ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية (7) احتقانات واجتماعات و ...
- مصر العربية أم الفرعونية؟! (1 )
- ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية (6) ارهاصات سبقت الثورة
- لماذا يندفع البرتقالي لوقف الحرب في أوكرانيا !
- وليس بعد الفَسْحَلَة غير الاستباحة !
- زيلينسكي يتهيأ لتجرع سُم الهزيمة
- ثورة البلقاء ومشروع الدولة الماجدية (5) خَطِيِّة الناس برقبت ...
- أحمر حمار في الغابة/ قصة قصيرة


المزيد.....




- لماذا يشهد يهود بريطانيا أكبر تحول لهم منذ 60 عاماً؟
- هل يحل تصنيف حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية في السودان ...
- هجوم سيدني: رئيس الوزراء يعتذر عما مرت به الجالية اليهودية و ...
- تقرير: مؤسسات أوروبية موّلت منظمات مرتبطة بالإخوان
- بعد هجوم سيدني.. وزير خارجية إسرائيل يوجه رسالة إلى اليهود
- 917 مستوطنا يقتحمون المسجد الأقصى.. وإبعاد أحد حراسه
- الكنيست يبحث فرض عقوبات على الحركة الإسلامية والإخوان المسلم ...
- عيد الميلاد في غزة بلا زينة والمسيحيون يكتفون بالصلوات
- اللواء موسوي: اغتيال اليهود مخطط اسرائيلي للايحاء بمعاداة ال ...
- إقامة قداس عيد الميلاد بالكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة ا ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالله عطوي الطوالبة - مداخلة بحثية في كتابنا (الإنسان والدين)