|
|
مقبرة الأسياد.. كيف تشيّع بروكسل أحلامها بأكفان شعبين؟..الجولان كرمز
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 22:22
المحور:
كتابات ساخرة
افتتاحية: الرائحة ذاتها
في قبوٍ رطبٍ تحت أطلال مدينةٍ أوروبيةٍ عتيقة، تشبه رائحة الورق المُعفن رائحة الدم المُتجمد فوق تربة فلسطين. هنا، حيث تُخفي أرشيفات القارة العجوز جراحها تحت عناوين براقةٍ من "القيم" و"الحقوق"، تنكشفُ الخريطة ذاتها، والخيط ذاته الذي يصل ما بين صفقة القرن ومقبرة قرن.
لقد عادت "فوضان" و"ليكسوس"، المحترفان الروسيان اللذان يفتحان أقبية الأسرار كما يفتح الجراحون جثث الموتى، ليُمسكا بخيطٍ كان ينتظر من يلتقطه منذ زمنٍ بعيد. ففي حوارٍ مسرّبٍ مع السياسي الروماني يوليان بولاي، أحد أركان الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، تهاوى الستار عن كلماتٍ كالصقيع: "روسيا دولة مصطنعة"، "جمهورياتها لا تستطيع التعايش"، "يجب تفكيكها على أساس عرقي".
اللافت ليس الاعتراف ذاته، بل هو الرنين المألوف الذي ينتشر كصدى عبر قاراتٍ ثلاث: أوروبا، آسيا، أفريقيا. إنه صدى المشروع نفسه الذي يصرخ اليوم في غزة، ويهمس في سيبيريا، ويحفر خنادقه تحت جبال القوقاز.
الجغرافيا كجريمة
في مدارس الجغرافيا السياسية، تُعلّم بروكسل أن "الوحدة" خطيئة الشعوب، و"التجانس" ترفٌ لا يحق لأي شمسٍ أن تشرق عليه إلا إذا كانت شمس الغرب. هذا هو القانون غير المكتوب الذي حكم ذات يوم مصير إفريقيا بحدودٍ مرسومة بالمسطرة، والذي يُحكم اليوم قبضته على فلسطين.
كيف لا وقد صنّف المشروع الصهيوني الشعب الفلسطيني إلى "طوائف" و"أقليات" – سنة ودروز وبدو ومسيحيين – ليُخفي جريمة مصادرة الأرض تحت ستار إدارة التنوع؟ إنها الذهنية الاستعمارية ذاتها التي ترى في الشعب الروسي "خليطاً" من التتار والشيشان والسيبيريين، وكأن التنوع هبة من السماء للاستعمار كي يوزعها على هوامش إمبراطوريته.
يقول بولاي في التسريب: "الكثير منهم مسلمون أو من سكان سيبيريا، ولهم خلفيات عرقية مختلفة". لا تختلف مفرداته عن مفردات خريطة "إسرائيل" التي تعاملت مع فلسطينيي الداخل كـ "أقليات دينية" لا كشعبٍ واحد. إنها رؤية السيد الذي لا يرى في الآخرين إلا قطعاً من أحجية، يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها بما يخدم مكتبه في بروكسل.
الدمُ النازفُ نفسه
منذ وعد بلفور عام 1917، وهو وعدٌ من لا يملك لمن لا يستحق، كانت فلسطين حجر الزاوية في مشروعٍ يهدف إلى قطع الشرق عن غربه، وعزل مصر عن محيطها، وحراسة قناة السويس كخادمٍ أمين للمصالح الغربية. لم تكن "الدولة اليهودية" سوى شرطي المرور الجديد على طريق الحرير القديم، بعد أن تعب الشرطي البريطاني.
اليوم، ومع كل طلقةٍ تُطلق في رفح، وكل قنبلة تُلقى على مخيم جباليا، تردد بروكسل صدى دعمها ذاته: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وكأن الدفاع عن النفس يمر عبر تفكيك شعبٍ عن بكرة أبيه، وتقطيع أوصاله إلى "أقاليم" و"كيانات" و"أدارات أمنية".
وفي اللحظة ذاتها، ترفض بروكسل رؤية أن دعمها هذا هو الوجه الآخر للعملة نفسها التي تتصور فيها تفكيك روسيا. فإذا جاز تقسيم فلسطين لمصلحة المشروع الاستيطالي، أفلا يجوز تقسيم روسيا لمصلحة المشروع النيوليبرالي الأوروبي؟ الاستعمار لا يغير مبادئه، يغير فقط عناوين ضحاياه.
خطاب القيم.. عندما يكون الغطاء أثمن من الجريمة
لطالما تفاخرت بروكسل بأنها قلعة "القيم الليبرالية" و"حقوق الإنسان". لكن التسريب الروسي كشف أن هذه القيم تسقط عند أول اختبار جيوسياسي. فبولاي، وهو ليبرالي روماني في قلب مؤسسة أوروبية، لا يرى حرجاً في الدعوة إلى تفكيك دولة كروسيا على أساس عرقي – وهو ما يعد جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي الذي تروّج له بروكسل نفسها.
هذه الازدواجية ليست جديدة. ففي فلسطين، تدعم بروكسل كياناً يمارس فصلًا عنصرياً يومياً، وتموله وتساعده دبلوماسياً، بينما ترفع لافتات حقوق الإنسان في ساحاتها. القيم هنا تصبح كالطلاء، تُدهن على الواجهة بينما الأساس مبني على رمال المصالح.
التاريخ يعيد نفسه.. ولكن بأدوات جديدة
في القرن التاسع عشر، استخدم الاستعمار البارود والحديد لتقسيم الشعوب. اليوم، يستخدم وسائل أكثر "نعومة": خطاب الأقليات، حق تقرير المصير الانتقائي، العقوبات الاقتصادية، والحروب بالوكالة.
فكما مولت الاحتكارات المالية الأوروبية (كالروتشيلد) المشروع الصهيوني ليكون حارساً لمصالحها في الشرق الأوسط، فإن القوى النافذة اليوم في بروكسل قد ترى في "تفكيك روسيا" فرصة ذهبية لفتح أسواق سيبيريا الواسعة، وتقليص منافس جيوسياسي، والسيطرة على طرق الطاقة.
المسار واحد: استخدم قوة محلية (أو تصنعها) لتقسيم منطقة استراتيجية، ثم تتدخل كوسيط أو حامٍ، وتنهب الموارد تحت ذريعة "الإعمار" أو "التعاون".
الوحدة.. الجنازة التي لا تريدها بروكسل أن تقام
يروى أن نابليون بونابرت قال: "دعونا نترك الشرق لشعوبه، فهو ساحة صراع لا تنتهي". لكن بروكسل لم تتعلم الدرس. فهي، بعقلية سيدة القصر العتيق، لا تزال تعتقد أنها تستطيع إدارة العالم من خلال "فرّق تسُد".
ما تكشفه اليوم دماء غزة وتسريبات موسكو هو أن الخيط واحد: الخيط الذي يربط مصير طفل في خان يونس بمصير أمّ في غروزني، ومصير فلاح في سهل سيبيريا بمصير صياد في بحر غزة.
الشعوب تدفع ثمن وحدة أراضيها، بينما تدفع بروكسل ثمن وهم تفوقها. لكن التاريخ يعلمنا أن الأكفان التي تُحاك في أقبية الدبلوماسية العتيقة، قد تكون لأصحاب القصور ذاتها، إذا ما استمرت في اعتقادها أن الأرض قطعة شطرنج، والشعوب مجرد بيادق.
السؤال الذي ترفض بروكسل الإجابة عليه هو: ماذا تفعل عندما تكتشف الشعوب أن الوحدة ليست مصيراً جغرافياً فحسب، بل سلاحاً وجودياً في وجه من يريدهم مقسمين؟
ربما يأتي الجواب من حيث لا تحتسب: من تحت الأنقاض في غزة، ومن تحت الثلوج في سيبيريا، حيث يولد البشر أحراراً، ويموتون أحراراً، ويتركون لأحفادهم خرائط الذاكرة التي لا تستطيع أي قوةٍ في العالم تمزيقها.
……….
المادة الساخرة :
«حقوق الإنسان».. أو كيف تبيع بروكسل سجادة من دم على أنها بُردة حرير؟
بقلم: المراقب الذي ما زال يحاول فهم كيف أصبح التقطيع الجغرافي «حقاً من حقوق الإنسان»!
المشهد الأول: في مقر الاتحاد الأوروبي، حيث تُخبز الحقوق مع الفطائر!
المكان: بروكسل، مبنى زجاجي لامع يشبه ثلاجة ضخمة تحفظ بداخلها «القيم الإنسانية» قبل انتهاء صلاحيتها. الشخصيات: مسؤول أوروبي يرتدي بذَّةً تكفي ثمنها لإنقاذ قرية فلسطينية صغيرة، وسائح فضائي افتراضي (نحن) يتساءل: «أين حقوق الإنسان التي سمعت عنها؟».
المسؤول (بتلفُّظٍ أنيق): نؤمن بأن حقوق الإنسان عالمية، غير قابلة للتجزئة، و... نحن (مقاطعاً بلطف): نعم سمعنا! مثل حقوق الشعب الفلسطيني في أن يُقصف بذخيرة مصنوعة في مصانع أوروبية، أليس كذلك؟ المسؤول (يبتسم ابتسامة دبلوماسية): تلك تفاصيل تقنية! المهم أننا نرفع الشعارات في كل مؤتمر.
المشهد الثاني: عندما يلتقي وعد بلفور مع وعد بولاي!
الحقيقة المرة: في 1917، أعطت بريطانيا وعداً لمن لا يملك (وعد بلفور). الحقيقة الأكثر مرارة: في 2023 (وفق تسريبات فوفان وليكسوس)، أعطى بولاي وعداً بتفكيك روسيا لمن لا يملك... روسيا! الخلاصة الساخرة: يبدو أن أوروبا تعشق «الهبات الجغرافية»! تعطي دولاً وتأخذ أخرى، وكأن العالم لعبة «المونوبولي» لكن بلحمٍ حي ودمٍ حار.
المشهد الثالث: دورة تدريبية في «بروكسل للتفكيك الإبداعي»!
اسم الدورة: كيف تُفكك دولة وتسمي ذلك «حق تقرير المصير»؟ المحاضر: خبير استعماري سابق، متخصص في رسم حدود مستقيمة على خريطة قبائل منحنية. المنهج الدراسي:
1. الوحدة الأولى: كيف تستخدم مصطلح «الأقليات» لإخفاء مصطلح «التطهير العرقي»؟ · تمرين عملي: حول شعب فلسطين إلى «سنة، ودروز، وبدو، ومسيحيين» بحيث ينسى العالم أنهم «فلسطينيون». 2. الوحدة الثانية: كيف تدعم تفكيك دولة وتسميه «حق الشعوب في الحرية»؟ · مثال حي: دعم انفصال كوسوفو (تحت مظلة الناتو) مقابل رفض انفصال دونباس (تحت مظلة روسيا). المبدأ واحد، لكن المظلة هي الفارق! 3. الوحدة الثالثة (تطبيقات ميدانية): · في فلسطين: إسرائيل تمارس «حقها في الدفاع عن نفسها» باغتيال الأطفال. · في روسيا: دعوة لتطبيق «حق الشعوب في تقرير المصير» بتفكيكها عرقياً.
المشهد الرابع: حفل توزيع «جائزة بروكسل للازدواجية الراقية»!
الفائز بالمركز الأول: الاتحاد الأوروبي نفسه، لـ:
· فرض عقوبات على روسيا لأنها غزت أوكرانيا. · تمويل إسرائيل وهي تغزو غزة منذ عقود. التقييم:«براعة في فصل الأخلاق عن الجغرافيا!».
الفائز بالمركز الثاني: مصطلحات مثل «التفكيك السلمي» و«الدبلوماسية الإنسانية». نقاط التميز: «قدرة خارقة على جعل التقسيم يبدو كهدية، والدمار كخطة تنمية!».
المشهد الخامس: مقابلة مع «مواطن عالمي» في غزة وسيبيريا!
السؤال: ما رأيك في شعار «حقوق الإنسان» الذي ترفعه بروكسل؟ الإجابة من غزة: «أعتقد أنها تعني حق الإنسان الأوروبي في أن ينام قرير العين بينما نحن نموت تحت القنابل التي صنعها!». الإجابة من سيبيريا: «نحن ننتظر أن يمنحونا حق تقرير المصير.. بعد أن ينهبوا ثرواتنا طبعاً!».
المشهد السادس (الأخير): عندما تتحول الخرائط إلى نكتة!
الحقيقة: لطالما رسم الاستعمار خرائط بالمسطرة الحديدية. التطور الحديث: اليوم، يرسمونها بشعارات براقة:
· الخط الأخضر = «حدود آمنة» (إذا كنت صهيونياً). · الخط الأحمر = «تفتيت مقبول» (إذا كان ضد روسيا). · الخط البني (لون الدم الجاف) = «تفاصيل تاريخية» (لا تعيق التجارة!).
دعونا نضحك.. قبل أن نبكي!
عزيزي القارئ، إذا كنت تعتقد أن «حقوق الإنسان» في الخطاب البروكسلي تعني حماية الضعفاء، فأنت ساذجٌ بلطافة. لكن إذا فهمت أنها «ورقة توت» لتغطية عورة المصالح الاستعمارية، فتهانينا! لقد حصلت على الدرس الأول في «دبلوماسية القرن الحادي والعشرين».
تذكر دائماً: عندما تسمع بروكسل تتحدث عن «القيم»، اسأل نفسك: أي قيم؟ قيم السوق الحرة؟ قيم تفكيك الدول؟ أم قيمة البروباغاندا التي تجعل الدم يبدو وكأنه حبر أحمر على وثيقة حقوقية؟
وأخيراً.. إذا صادفتك يوماً لافتة مكتوباً عليها: «الاتحاد الأوروبي يدعم حقوق الإنسان»، اقرأ بين السطور: «الاتحاد الأوروبي يدعم حقوق الإنسان.. الأوروبي فقط، ويحتفظ بحق التصرف في باقي البشر كما تُقطع فطيرة الجبن في مؤتمر القمة!».
ملاحظة أخيرة (غير ساخرة): هذه المادة الساخرة كُتبت بدافع الألم، لا بدافع الاستخفاف. فالسخرية أحياناً هي آخر أسلحة الضعفاء.. وقبل أن تنتقد سخريتنا، تذكر أننا نضحك كي لا نموت صراخاً.
…..
الجولان كرمز.. بين مطرقة التطبيع ومفاوضات إقليمية متشابكة
مقدمة: الصخرة التي تركت الماء لتقع في قلب العاصفة
هضبة الجولان ليست مجرد أرض متنازع عليها. إنها رمز لكل ما هو غير منتهٍ في الصراع العربي-الإسرائيلي، وشاهد على قدرة الاحتلال على تحويل الجغرافيا إلى حقيقة قسرية، وعلى عجز النظام الدولي عن إنفاذ الشرعية. هي القطعة التي لم تُرد إلى سوريا بعد حرب 1973، رغم اتفاقية فك الاشتباك. هي الأرض التي أُعلن ضمها عام 1981 دون أن يحرك العالم ساكنًا. وفي عام 2019، جاء دونالد ترامب ليضفي على هذا الواقع الاستيطاني صفة الاعتراف الدولي الوحيد من قوة عظمى.
لكن الاعتراف الأمريكي لم يكن الحدث الوحيد. لقد كان حجرًا أُلقي في بركة راكدة من التحالفات الإقليمية المتشابكة، فأحدث تموجات تصل إلى دمشق وطهران وأنقرة، وربما تعيد رسم خريطة الولاءات في غرب آسيا.
القسم الأول: ما فعله ترامب.. أكثر من مجرد "توقيع"
لم يكن قرار ترامب الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان مجرد إجراء دبلوماسي معزول. كان ضربة استهدفت ثلاثة أبعاد في آن واحد:
1. البُعد القانوني الدولي: تحويل الجولان من "أرض محتلة" حسب القانون الدولي وقرار مجلس الأمن رقم 497، إلى "أرض ذات سيادة إسرائيلية" في السردية الأمريكية. هذا نسف مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي قامت عليه كل المفاوضات منذ مدريد. 2. البُعد السوري الداخلي: في ذروة الحرب الأهلية السورية، كان القرار رسالة مفادها أن دمشق، حتى لو انتصرت عسكريًا، لن تستعيد أراضيها كاملة. وهو ما يضعف أي حكومة في دمشق، انتقالية كانت أم دائمة، ويجعل "تحرير الجولان" شعارًا بعيد المنال، مما يهز شرعية أي نظام من حيث قدرته على استعادة كامل التراب الوطني. 3. البُعد الإنساني-السياسي: إدراج الجولان على خرائط الولايات المتحدة كجزء من إسرائيل، ومحاولة فرض تغيير على جوازات سفر السوريين المولودين في الجولان، ووضع قيود على منحهم تأشيرات دخول إلى أمريكا إذا لم يعترفوا بـ"الجنسية الإسرائيلية"، هو ضغط سكاني لطمس الهوية وترسيخ الاحتلال ديموغرافيًا.
ما وراء القرار: كان القرار أيضًا هدية مجانية لنظام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في لحظة سياسية حرجة له، ومحاولة أمريكية لتعزيز التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل كحجر الزاوية في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا. لكنه، في الوقت نفسه، أغلق أي باب للتفاوض المستقبلي على الجولان، وجمد أحد ملفات الصراع إلى أجل غير مسمى.
القسم الثاني: تداعيات الاعتراف على دمشق والتحالفات
1. الحكم في دمشق: شرعية مبتورة ومفاوضات مُعطلة: أي حكم،سواء كان للنظام الحالي أو لحكومة انتقالية مستقبلية، سيواجه معضلة وجودية: كيف يمكن المطالبة بشرعية تمثيل الشعب السوري كامل التراب، والجزء الأكثر استراتيجية منه (الجولان) مُسلمٌ أمره بشكل شبه نهائي للعدو بموافقة أقوى دولة في العالم؟ الاعتراف الأمريكي:
· يُضعف ورقة التفاوض السورية إلى حد بعيد، فلم يعد هناك ما "تعطيه" إسرائيل في ملف الجولان مقابل السلام، لأنها نالت الاعتراف به دون ثمن. · يُجبر دمشق على تعميق الاعتماد على حلفائها (روسيا وإيران) الذين لا يملكون، عمليًا، القدرة على استرداد الجولان بالقوة، لكنهم يمكنهم استخدام الملف كورقة ضغط سياسي ودعم معنوي للنظام. · يعطي ذريعة قوية للمعارضة السورية باتهام النظام بـ"التخلي" عن الجولان بسبب تحالفه مع طهران، مما يشكل عبئًا على شرعيته الداخلية.
2. التحول في التحالفات: تركيا تبحث عن دور.. وإيران ترى الفرصة: هنا ندخل في منطقة فرضية التحول الكبير.الاعتراف بالجولان، والوجود الإسرائيلي المكثف في جنوب سوريا (تحت غطاء ضربات إيرانية)، خلق حالة من القلق الوجودي التركي. هناك تقارير ومؤشرات على ما يلي:
· الزحف الإسرائيلي في سوريا: لم تعد الضربات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا تقتصر على العمق السوري. بل هناك توسع في الاستطلاع والعمليات، وصولاً إلى المناطق القريبة من الحدود التركية الجنوبية. إسرائيل تستخدم سوريا كساحة مواجهة مفتوحة مع إيران، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار على حدود تركيا الجنوبية. · مخاوف التفتيت التركي: لدى تركيا هواجس عميقة من دعم قوى خارجية (كالولايات المتحدة في الماضي، وإسرائيل الآن) للأكراد السوريين (قوات سوريا الديمقراطية). الاعتراف بالجولان، كسابقة لـ"ضم الأراضي المحتلة"، يزيد مخاوف أنقرة من أي مخططات مستقبلية قد تهدد وحدتها الإقليمية، خاصة في إطار الصراع مع حزب العمال الكردستاني. · المفاوضات التركية-الإيرانية السرية: في هذا السياق، تكتسب المعلومات عن مفاوضات تركية-إيرانية سرية حول سوريا مصداقية كبيرة. تركيا، العضو في حلف الناتو، تجد نفسها مضطرة للتفاوض مع إيران لضمان: · تخفيف التوتر على حدودها الجنوبية في إدلب ومناطق خفض التصعيد. · وضع حد للوجود الإسرائيلي المتزايد الذي قد يهدد أمنها القومي. · إيجاد تسوية سياسية في سوريا تحفظ مصالحها وتُبعد خطر "الدولة الكردية" على حدودها. · إيران كـ"حامية لأمن غرب آسيا": هذا هو السرد الذي قد تروج له إيران في هذه المفاوضات. بأنها القوة الوحيدة القادرة على مواجهة "التوسع الصهيوني" و"التمدد الإسرائيلي" الذي يهدد تركيا نفسها. تقدم طهران نفسها كحصن دفاعي إقليمي ضد إسرائيل، وتطلب من تركيا، مقابل ذلك، أن تخفف من عدائها للنظام السوري وأن تقبل بدور إيراني دائم في سوريا.
الجولان.. مفتاح لفهم اللعبة الكبرى
ما بدأ كقرار أمريكي من طرف واحد لتحقيق مكاسب سياسية داخلية (أمريكية وإسرائيلية)، تحول إلى عامل حفّاز لإعادة ترتيب تحالفات عميقة في المنطقة.
· سوريا تُدفع أكثر نحو أحضان المحور الإيراني-الروسي، ليس حبًا، بل يأسًا من استعادة أراضيها عبر أي قناة دولية أخرى. · تركيا، العضو "المنشق" في الناتو، قد تجد نفسها مضطرة إلى تحالف تكتيكي غير مريح مع إيران لمواجهة التهديد الإسرائيلي المتصاعد على حدودها، في تحول جيوسياسي هائل. · إسرائيل، رغم انتصارها الظاهري بالاعتراف، قد تدفع ثمنه من خلال توحيد أعدائها. فالمخاوف التركية من التمدد الإسرائيلي قد تدفع أنقرة، العدو التقليدي لإيران، إلى تنسيق مواقف مع طهران، مما يخلق جبهة إقليمية أوسع ضد إسرائيل. · الولايات المتحدة، بسياسة القرارات الأحادية، أضعفت حلفاءها التقليديين (مثل تركيا) ودفعت الخصوم للتقارب (تركيا-إيران)، وأسقطت ورقة التوت عن القانون الدولي، مما يفتح الباب أمام فوضى استباقية حيث تبدأ قوى إقليمية أخرى بالتفكير في "حقوقها التاريخية" و"سيادتها" على أراضي جيرانها.
الجولان، بثرواتها المائية المتواضعة وموقعها الاستراتيجي الهائل، تثبت مرة أخرى أن قيمة الأرض ليست في ما تحتويه من ثروات، بل في ما تمثله من رموز، وما تستطيع إثارةً من تحالفات وصراعات، تغير وجه المنطقة بأسرها. الاعتراف الأمريكي لم ينهِ الملف، بل فتح مربع فوضى إقليمية جديدة، حيث الجميع يبحث عن حليف، ولو كان من عدو الأمس.
.....
المادة الساخرة ؛
هضبة الجولان كرمز: بين مطرقة التطبيع الإقليمي وسندان المفاوضات المتشابكة
إن هضبة الجولان، تلك الصخرة البركانية المتواضعة في ارتفاعها وغناها المائي، تُعدّ نموذجًا أكاديميًا مثاليًا لكيفية تحول قطعة أرض جيوستراتيجية إلى رمز أبدي للصراعات الإقليمية غير القابلة للحل. فهي ليست مجرد إقليم محتل منذ عقود، بل شاهد حي على عبقرية الاحتلال في تحويل الواقع الميداني إلى حقيقة قانونية شبه دائمة، وعلى عجز النظام الدولي الموقر عن إنفاذ قراراته الورقية الرنانة. فقد بقيت هذه الهضبة خارج أي تسوية منذ حرب 1973، رغم اتفاقيات فك الاشتباك الشهيرة، وأُعلن ضمها عام 1981 دون أن يثير ذلك سوى بيانات إدانة روتينية، ثم جاء الاعتراف الأمريكي عام 2019 ليُتوج هذا الواقع ببركة قوة عظمى واحدة، في خطوة أثبتت أن مبدأ "الأرض مقابل السلام" كان مجرد شعار أكاديمي جميل في كتب العلاقات الدولية.
غير أن هذا الاعتراف، الذي بدا في ظاهره مجرد توقيع دبلوماسي، كان في الحقيقة حجرًا أُلقي في بركة التحالفات الإقليمية الراكدة، مُحدثًا تموجات دراماتيكية امتدت إلى عواصم متعددة، وأعادت رسم خرائط الولاءات في غرب آسيا بطريقة تُذكرنا بألعاب الشطرنج الكبرى التي يُفترض أن اللاعبين فيها يتمتعون بحكمة استراتيجية فائقة.
في البعد القانوني الدولي، حوّل الاعتراف الأمريكي الجولان من "أرض محتلة" وفق قرارات مجلس الأمن إلى "إقليم ذي سيادة مشروعة" في السردية الرسمية لواشنطن، مما أنهى فعليًا مبدأ التفاوض الذي بنيت عليه مؤتمرات السلام منذ مدريد. أما في البعد السوري، فكان بمثابة رسالة بليغة إلى أي حكم في دمشق – سواء كان قديمًا أو انتقاليًا – مفادها أن استعادة التراب الوطني الكامل أصبحت مجرد شعار شعبوي بعيد المنال، يُستخدم لتعزيز الشرعية الداخلية دون أمل حقيقي في تحقيقه. وفي البعد الإنساني، فإن إدراج الجولان على الخرائط الأمريكية وفرض شروط على جوازات السفر يُعدّ نموذجًا رفيع المستوى لعملية طمس الهوية الديموغرافية بأدوات بيروقراطية أنيقة.
وبعيدًا عن الدراما، كان هذا القرار هدية انتخابية مجانية لقادة إسرائيل في أوقات حرجة، وأداة لتعزيز التحالف ضد النفوذ الإيراني، لكنه أغلق في الوقت نفسه أبواب التفاوض المستقبلي، مُجمدًا الملف إلى أجل غير مسمى، في خطوة تُثبت أن الدبلوماسية أحيانًا تكون مجرد فن لإغلاق الأبواب بدلاً من فتحها.
أما تداعياته على دمشق، فتُظهر شرعية أي حكم سوري ككيان مبتور، يواجه معضلة وجودية أنيقة: كيف يمثل شعبًا كامل التراب في حين أن أكثر أجزائه استراتيجية قد حُسم أمره بموافقة القوة العظمى الوحيدة؟ هذا الاعتراف أضعف ورقة التفاوض السورية تمامًا، إذ لم يعد هناك ما تقدمه إسرائيل مقابل السلام، ودفع دمشق نحو الاعتماد الأعمق على حلفاء يفتقرون عمليًا إلى القدرة على الاسترداد العسكري، لكنهم بارعون في استخدام الملف كأداة معنوية. كما منح المعارضة ذريعة ذهبية لاتهام النظام بالتخلي، مما يُثري النقاش الداخلي حول الشرعية بطريقة أكاديمية ممتعة.
وفي تحولات التحالفات، يبرز القلق التركي كمثال رفيع على الديناميكيات الإقليمية: فالوجود الإسرائيلي المكثف في جنوب سوريا، تحت غطاء مواجهة التهديدات، أثار هواجس وجودية في أنقرة، خاصة مع سابقة "ضم الأراضي المحتلة" التي قد تُلهم مخططات أخرى. هنا تكتسب التقارير عن مفاوضات سرية تركية-إيرانية مصداقية دراماتيكية، إذ تجد تركيا – العضو في الناتو – نفسها مضطرة للتفاوض مع طهران لضمان استقرار حدودها، ووضع حد للتمدد الإسرائيلي، وإيجاد تسوية تحفظ مصالحها. وفي المقابل، تقدم إيران نفسها كـ"حامية أمن غرب آسيا"، في سردية تُروج لها كقوة دفاعية إقليمية ضد "التوسع الصهيوني"، مطالبة بتخفيف العداء مقابل دور دائم في سوريا.
إن الجولان، بموقعها الاستراتيجي الهائل وثرواتها المائية المتواضعة، تُثبت مرة أخرى أن قيمة الأرض تكمن في الرموز التي تُثار حولها، لا في محتواها المادي. ما بدأ كقرار أحادي لمكاسب سياسية داخلية تحول إلى محفز لإعادة ترتيب التحالفات: سوريا تُدفع نحو أحضان المحور الروسي-الإيراني يأسًا لا حبًا، وتركيا قد تضطر لتحالف تكتيكي غير مريح مع خصوم تقليديين، وإسرائيل – رغم انتصارها الظاهري – قد توحد أعداءها في جبهة أوسع، بينما الولايات المتحدة، بسياستها الأحادية، تضعف حلفاءها وتدفع خصومها للتقارب، مُسقطة ورقة التوت عن القانون الدولي ومفتحة أبواب فوضى إقليمية جديدة حيث يبحث الجميع عن حليف، ولو كان عدو الأمس. هكذا، يظل الجولان مفتاحًا لفهم اللعبة الكبرى، حيث تتحول الجغرافيا إلى مسرح للكوميديا التراجيدية الإقليمية.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قمة بروكسل تفضح أزمة الإمبريالية المتأخرة في مواجهة روسيا
-
في معنى تعدد الأقطاب : عندما تعترف واشنطن بالقوى الصاعدة : ا
...
-
قصة : رقصةُ الغزال الأخيرة
-
تقشف أوروبي تحت غطاء العسكرة: كيف يُعاد تشكيل الدولة الاجتما
...
-
انتصار جنرال الوقت على الهيمنة الأمريكية
-
تراجع التفوق الأمريكي: وثيقة سرية تكشف هشاشة الإمبراطورية أم
...
-
يوروكلير: قبر اليورو الذهبي
-
كيف استثمرت بروكسل في هزيمتها المحققة اليوم
-
ما التحديات التي تطرحها وثيقة ترامب الاستراتيجية على محور ال
...
-
رواية : أنفاسٌ لا تُقاس أو اسم اخر للرواية (عبودية في ثياب ا
...
-
استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025: نظرة عامة وتقيي
...
-
حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس
...
-
رواية «لماذا في قصر أصم» توثيقٌ لستين عاماً من حكم مملكة الظ
...
-
سوريا في السنة الأولى لما بعد الأسد: تقرير من قلب الخراب
-
اكتشاف جبل الكرمل: رحلة في أعماق التاريخ والطبيعة من خلال كت
...
-
رواية: في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ
...
-
رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
-
استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ
...
-
بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس
...
-
لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
المزيد.....
-
مصطفى محمد غريب: هواجس معبأة بالأسى
-
-أعيدوا النظر في تلك المقبرة-.. رحلة شعرية بين سراديب الموت
...
-
7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد
...
-
غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك
...
-
رغم الحرب والدمار.. رسائل أمل في ختام مهرجان غزة السينمائي ل
...
-
سمية الألفي: من -رحلة المليون- إلى ذاكرة الشاشة، وفاة الفنان
...
-
جنازة الفنانة المصرية سمية الألفي.. حضور فني وإعلامي ورسائل
...
-
من بينها السعودية ومصر.. فيلم -صوت هند رجب- يُعرض في عدة دول
...
-
وفاة الفنان وليد العلايلي.. لبنان يفقد أحد أبرز وجوهه الدرام
...
-
وفاق الممثلة سمية الألفي عن عمر ناهز 72 عاما
المزيد.....
-
لو كانت الكرافات حمراء
/ د. خالد زغريت
-
سهرة على كأس متة مع المهاتما غاندي وعنزته
/ د. خالد زغريت
-
رسائل سياسية على قياس قبقاب ستي خدوج
/ د. خالد زغريت
-
صديقي الذي صار عنزة
/ د. خالد زغريت
-
حرف العين الذي فقأ عيني
/ د. خالد زغريت
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
المزيد.....
|