أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - المقامة الهمذانية في الزمنِ المهزوم














المزيد.....

المقامة الهمذانية في الزمنِ المهزوم


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 02:48
المحور: الادب والفن
    


لِمَنْ عَرَفَ أنَّ الحكايةَ لا تكتبها الأقلام، بل الجراح
حدّثني قلبي—وكان يومئذٍ شيخًا أثقلتهُ الأسقام—
أنّ العقل إذا ضاقَ بالفواجع، تخيّل مجلسًا لا يُرى إلّا بالبصيرة،
ولا يُزارُ إلّا على صهوة الوجع الخطير.
فيا صاحِ،
ادنُ منّا نُحدّثك عن زَمانٍ انخلعتْ حضارته،
وانقلبتْ روحهُ على عقبيه،
حتّى عادَ البشرُ فيه إلى ما قبل الكهوف،
يستضيئون بلهيب المأساة،
ويستدفئون بخرابٍ لم يترك أحدًا ولا شيئًا إلّا ناله.
دخلتُ المجلسَ يومئذٍ،
والليلُ قد نشرَ سواده نشْرَ السِّجال،
ورفقةٌ على أطرافه كأنهم أطيافٌ تُساق إلى قدرها سوقًا،
وفي صدورهم من الحيرة ما لو عُصر لصار نهرًا.
وفي صدر المجلس شيخٌ،
لو أنّ الجبالَ لبست سيماء رجلٍ لكانت صورته،
ولو أنّ الحزنَ تمثّل بشرًا لما اختار غيره.
رفع رأسه، ومسح بلحيةٍ استوطنتها الأيامُ بقايا الرماد، وقال:
يا هؤلاء… حدّثتني الليالي حديثًا
لو سمعتهُ الصخورُ لتشقّقت،
ولو شهدتهُ الطيورُ لخلعت أجنحتها من الفزع.
فأصغينا إليه إصغاءَ ملهوف،
إذ ما في المجلس نفسٌ إلّا والهلعُ يحفّ بها حفًّا.
قال الشيخ:
خرجتُ في أرضٍ،
لا تُعرفُ فيها السماءُ إلّا شاهدًا على الموت،
ولا يعرفُ أهلُها من الجيران إلّا النار.
فأوّلُ ما لقيني—والعهدةُ على القلب—
صبيٌّ تمشي الجراحُ أمامه، ويجري الألمُ خلفه،
كأنه آخرُ شظايا الطفولة على وجه الأرض.
أفنت المقذوفاتُ بيته،
وأفنت معه أسرته،
وأفنت ما تبقّى من حلمٍ كان يُسمّى طفولة.
كان يحمل أخاه الصغير على كتفيه،
يمشي بين الركامِ مشيَ من لا يعرف الطريق
إلّا لأنَّ الخرابَ كلُّه طريق.
وكان يصيحُ صيحَ من سُرقت أمُّه من أحشائه:
يا أمّاه… يا أمّاه…
نداءٌ لو سمعته الصَّخرةُ لانشقَّت،
ولو سمعته الريحُ لاخضوْضَر هبوبُها من البكاء.
فناديته: إلى أين تمضي يا بُنيّ؟
فلم يجب؛
فإنّ من حمل قبرَه على كتفيه،
لا يحملُ جوابًا على لسانه.
ثم استجمع الشيخُ بقايا صوته،
وقال كمن ينزع الكلمةَ من قبر:
وبينا أنا في طريقي إذ برزت امرأةٌ
كأنها بقايا الهيكل بعد البعث القاسي،
ثوبٌ مخرّقٌ،
وجسدٌ ممزّقٌ،
وعينانِ لا ضوءَ فيهما إلّا ما بقي من رماد الإنسان.
مدّت يدها،
وصوتُها يتعثرُ في حلقها تعثّرَ العاصفة في شقوق الجبل، وقالت:
أنقذونا… فقد فتك بنا الجوعُ والرصاص!
يا صاحِ،
والله إنَّ صرختها لم تكن صرخة امرأة،
بل كانت تاريخًا يلطم جدار القدر.
كانت الكلماتُ تتهدّجُ منها
تهدّجَ الطير إذا رُمي بالسَّهام،
وكانت تستنجد بالبشرِ بعدما يئست من السماء،
فالسماء—يا صاحِ—قد امتلأتِ بالدعاء حتى ضاقت.
ثم قال الشيخ، وقد خيّم الصمتُ على المجلس:
وبينما نحن نُصلّي للرحمةِ أنْ تنزل،
ارتفعت صرخةٌ
كأنّ فمَ الأرضِ قد نطق.
فهرع قومٌ،
يحفرون بأظفارهم حفْرَ من يفتّش عن بقيّة عمره،
ويُزيحون الحجرَ والصفيحَ كأنهم يزيحون قدَرًا وُضع فوق صدورهم.
حتى بدا طفلٌ،
وجهُه مدرّجٌ بالدم،
وعيناهُ كنافذتين على خوفٍ لا يُكتب.
لم يتكلم،
فمن يختنقُ بالصدمة لا ينطق،
لكنّ عينيه—يا صاحِ—
كانتا كتابَ استغاثةٍ مكتوبًا بنار،
يخترقُ الهواء اختراقَ السهام.
وما كاد الشيخُ ينهي زفرته،
حتّى قال:
ورأيتُ امرأةً جاهدتْ لجمع الأعشابِ قوتًا لصغارها،
تركضُ بين الحجارة ركضَ من يطاردُهُ الجوعُ والقدر،
حتى إذا عادت،
وجدت العاصفةَ قد سبقتها إلى خيمتها الخَرِقة.
طوّحت الريحُ الخيمةَ
كما تطوَّحُ يدُ اليُتمِ شالَهُ الأخير،
وبقي صغارُها تحت المطر،
تظلّلهم المسيراتُ من فوق
ظلَّ الحديدِ لا ظلَّ الغيم.
يا صاحِ…
ما أقسى أن تنظر إليك السماء،
ثم لا تنظرُ إليك.
ثم نهض الشيخ وقال:
هذا زمنٌ مهزوم،
يُقتل فيه الحجرُ قبل أن يُقتل البشر،
وتُذبحُ فيه الرحمةُ من الوريد إلى الوريد،
وتعودُ الإنسانيةُ فيه إلى ما قبل الكهوف،
تحفرُ بأظفارها بحثًا عمّن ينقذها من نفسها.
فإن كتبتم عنه فاجعلوه مقامةً،
وإن سمعتموه فاتخذوه عِبرةً،
فإنّ الدهرَ يمضي،
ولا يبقى إلّا وجعٌ يكتبُ تاريخَه بحبرٍ من دم.

فانفضَّ المجلس،
وما بقي منه إلا صدىً
يسأل سؤالًا يذيبُ الحجارة:
أيُّ زمانٍ هذا
إذا صار الصراخُ لغةَ الأرض،
وصار الأطفالُ أعمدةَ العالم
على أكتافٍ نحيلةٍ…
لكنّها لا تنكسر؟



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- **الزمن بوصفه قدرًا: قراءة في مأساة الوعي والاغتراب في «أهل ...
- «حين يتحرّك السكون»
- النيجر: قلب الصحراء الذي يمشي بين ضوءين
- – ليبيا: الأرض التي تمتدّ من زرقة المتوسط إلى قلب الصحراء ال ...
- مالي: المملكة التي مشت فوق الذهب، ونامت على ضفاف النيجر، وظل ...
- موريتانيا: بلاد البيضان والمحيط والرمل الذي يتكلّم
- الجزائر: أنغام الماضي، إبداعات الحاضر، ونكهات الحياة
- الجزائر: الطبيعة الصامتة، الصحراء الذهبية، وواحات الحياة
- الجزائر: أنفاس الإبداع وروح الجمال
- الجزائر: وجه البحر، ذاكرة الجبال، وأنفاس المدن التي لا تنام
- – الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى
- الطلاق كدرس… الرحلة نحو الوعي والحكمة
- بعد الانفصال… أثر الطلاق على قلب الإنسان ومستقبله
- العائلة والمجتمع بين الانفصال والوحدة
- الأطفال بين شظايا الحب
- حين يتحول الحب إلى صمت
- غويانا الفرنسية – نهاية الحوض وبداية الرحلة الجديدة
- : فنزويلا – الأنهار المتقاطعة ومرتفعات غويانا
- : الإكوادور – نقطة التقاء خط الاستواء مع الغابة
- بوليفيا – حيث تتصارع الهضاب والمناخات


المزيد.....




- تحقيقات أميركية تكشف زيف الرواية الإسرائيلية بشأن مقتل أستاذ ...
- المنتج السينمائي التونسي شاكر بوعجيلة: أيام قرطاج السينمائية ...
- وفاة الفنانة المصرية سمية الألفي بعد صراع طويل مع السرطان
- وفاة الفنانة المصرية سمية الألفي
- إقبال على تعلم العربية في إسبانيا رغم العراقيل وخطاب العنصري ...
- موضة شرقية بروح أوروبيّة معاصرة.. إطلالات نانسي عجرم في كليب ...
- في يومها العالمي: اللغة العربية بين التطوير وخطر التراجع
- -الست-.. فيلم يقترب من أم كلثوم ويتردد في فهمها
- 5-نصوص هايكو :بقلم الشاعر محمد عقدة.دمنهور.مصر.
- الشاعر تامر أنور ضيف منصة نادى ادب قصرثقافة دمنهور ومناقشة آ ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - المقامة الهمذانية في الزمنِ المهزوم