أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - – الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى














المزيد.....

– الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 01:49
المحور: السياحة والرحلات
    


إذا كانت الصحراء الكبرى جسدًا هائلًا يتمدّد بين إحدى عشرة دولة، فإن الجزائر هي قلبها الذي لا يتوقف عن الخفقان؛ قلبٌ يضخّ في هذا الامتداد الكوني معنى البدايات، ويربط ما بين زمنين: زمن الإنسان الأول حين خطّ رسوماته على الصخور، وزمن الإنسان الحديث وهو يرفع ناطحات المدن على حواف الرمال. هنا، في الجنوب الجزائري، لا تنفصل الجغرافيا عن الميتافيزيقا، ولا ينفصل الرمل عن الذاكرة، ولا ينفصل الضوء عن الدهشة. كل شيء في هذا الإقليم العظيم يبدأ هادئًا كسرّ، ويتحوّل فجأة إلى نشيد من نشائد الأرض القديمة.
ينفتح الجنوب الجزائري على العالم كأنّه صفحةٌ تُقرأ بطبقات. فأول ما يواجهك هو هضبة الطاسيلي ن آجر، ذلك المتحف السماوي المفتوح على عشرة آلاف سنة من الوعي الإنساني. صخورٌ محفورة لا تعرف إن كانت يد الإنسان هي التي صنعتها، أم أن الطبيعة استعارت لحظة من الجنون وقررت أن تكتب تاريخها على الحجر. في الطاسيلي، تعثر على الإنسان الأول وهو يرسم طقوسه، يصطاد، يرقص، يعبد، ويكتشف الماء؛ وكأن رسوماته ـ رغم بدائيتها ـ تحمل فصاحة شاعرٍ عتيق أراد أن يترك للعالم تذكاره الوحيد. هناك، في تلك الهضاب، يمكن للمتأمل أن يشهد كيف غيّر الزمن وجه الأرض: كيف انتقلت الصحراء من بحيرات وأنهار إلى صمت رملي يمتد بلا نهاية. ومهما حاولتَ أن تفهم هذا المشهد، تشعر أنّك أمام كتاب لا يمكن قراءته إلا بالحدس: كتاب يجعل الجزائر أقدم مما نعتقد، وأعمق من أن تُختصر في دولة أو تاريخ معاصر.
وما إن تغادر هذه الهضاب، حتى يدخل القارئ إلى مملكة الأهقار، ذلك الجدار الصخري الذي ينهض كأنه بقايا فجرٍ ما بعد الخلق. جبال الأهقار ليست جبالًا فحسب؛ هي تراجيديا من صخور سوداء وأبراج حجرية وأودية تتلوّى كأفاعٍ عملاقة من زمن لا نعرفه. هنا، يصبح الصمت لغة، وتتحول الوحدة إلى عبادة. عاش فيها الطوارق ـ “رجال الصمت” ـ الذين وهبوا الصحراء فلسفتها: صبرًا، كرمًا، وحرية مطلقة. وعاش فيها أيضًا رهبان وصوفيون ومرتدون من ضجيج العالم؛ كلهم جاؤوا إلى هذا المكان لأنهم آمنوا بأن من يقترب من الأهقار يقترب من قلب الحقيقة، وأن الجبال القاسية قد تُلين الروح أكثر مما يفعل البحر.
وتتلو هذه الجبال مدينة فريدة تُشبه حضارة داخل حضارة: وادي ميزاب، ذلك الوادي الذي لا ينتمي إلى الزمن بل إلى العقل. هناك، في مدن غرداية وبني يزقن ومليكة والعطف، لم يبنِ الناس بيوتهم كي يسكنوا فقط، بل كي يحافظوا على الجماعة. كل حجر جاء محملًا بحكمةٍ قديمة، وكل زقاق حُفر ليكون ملاذًا، وكل مسجد بُني كي يُسمع فيه صوت الإنسان دون مبالغة أو تفاخر. يدهشك أن هذه المدن التي تبدو بسيطة، تحمل أرقى أنظمة توزيع الماء، وأدقّ طرق التهوية، وأشدّ القوانين صرامة في التنظيم الاجتماعي؛ كأنها دولة مثالية اخترعت نفسها بعيدًا عن صخب المدن الكبرى.
ومهما تقدّم المسافر شمالًا أو شرقًا أو غربًا، فإن روح الصحراء تبقى هي الحبر الذي يُكتب به كل شيء. فالرمل هنا ليس عارضًا جغرافيًا، بل معلّمٌ روحي. تقول الصحراء للجزائري: كنْ ثابتًا كصخر الطاسيلي، صبورًا كقوافل الطوارق، متماسكًا كقصور ميزاب، ولا تخف من اتساع الأفق… فالفراغ الذي يحيط بك ليس فراغًا بل اختبارًا لمدى قدرتك على أن تكون ذاتك. هكذا، جعلت الصحراء الجزائر بلدًا يحمل صلابة الرمل في عمقه، مهما حاصرته الرياح السياسية، أو تغيّرت خرائط العالم.
ولأن الصحراء ليست سكونًا فقط، بل ممرًّا بين القارات، فقد جعلت من الجزائر قلبًا نابضًا في شبكة طرق القوافل القديمة. من هنا مرّ الملح، الذهب، العاج، الكتب، العلماء، والساندال. مرّت لغات ولهجات، وأساطير وقصائد، حتى تحولت الصحراء إلى معبرٍ ثقافي يسافر فيه الإنسان كما يسافر الضوء. كل هذا جعل الجنوب الجزائري ليس مجرد امتداد للفضاء، بل مختبرًا حقيقيًا للهويات؛ مكانًا تتجاور فيه الأمازيغية والعربية والتارقية والحضارة الإسلامية والروح الإفريقية، دون صراع، وكأن هذا الفضاء الرحب قادر على احتواء الجميع.
ومع أنّ الكثيرين ينظرون إلى الصحراء بوصفها فراغًا، إلا أن الحقيقة أن الصحراء الجزائرية تخفي ثروات هائلة: من أجود أنواع التمور في العالم إلى الغاز والنفط، ومن المعادن النادرة إلى الواحات التي تحافظ على أحدث أساليب الزراعة في بيئة مستحيلة. لكن القيمة الأعمق ليست اقتصادية؛ بل حضارية. فالصحراء هي التي منحت الجزائري ذلك الإصرار الغريب على البقاء، تلك القدرة على مواجهة الاستعمار بصلابة، وتلك الروح التي لا ترضخ بسهولة.
ولعلّ أجمل ما في الصحراء الجزائرية أنها تذكّر دائمًا بأن الإنسان جزء صغير من كونٍ ضخم، لكنه قادر ـ رغم صغره ـ على ترك أثر عظيم. في الليل، حين ينفجر قُبّة النجوم فوق السماء الصحراوية، تدرك أنّ هذا المكان ليس فراغًا، بل قربٌ من السماء. تدرك لماذا جاء إليها المتصوفة، ولماذا احتمى بها الثائرون، ولماذا أحبها الشعراء، ولماذا كانت دائمًا “القلب” لا “الهامش” في قصة الجزائر.
وهكذا، تصبح الجزائر
بلدًا يتجلّى من الجنوب، من عمق الصحراء، من تلك البدايات التي لا يمكن للأمم أن تصنعها لنفسها إن لم تقدّم لها الأرض هديةً من زمن آخر.
إنها الجزائر التي لا تأتي من المدن الكبرى، بل من الصحراء التي صنعت روحها؛ الجزائر التي تعلمت من الرمل كيف تكون ثابتة، ومن الريح كيف تكون حرة، ومن السكون كيف تكتب تاريخها دون أن تحتاج إلى صخب العالم كي يسمع.
هذه هي الجزائر…
القلب العميق للصحراء الكبرى، والعقل الذي يربط بين زمنين، والروح التي لا تزال تسأل العالم:
هل يمكن للفراغ أن يكون وطنًا؟
والجواب يأتي من صمتها نفسه:
نعم… إذا كان الفراغ هو الصحراء الجزائرية.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطلاق كدرس… الرحلة نحو الوعي والحكمة
- بعد الانفصال… أثر الطلاق على قلب الإنسان ومستقبله
- العائلة والمجتمع بين الانفصال والوحدة
- الأطفال بين شظايا الحب
- حين يتحول الحب إلى صمت
- غويانا الفرنسية – نهاية الحوض وبداية الرحلة الجديدة
- : فنزويلا – الأنهار المتقاطعة ومرتفعات غويانا
- : الإكوادور – نقطة التقاء خط الاستواء مع الغابة
- بوليفيا – حيث تتصارع الهضاب والمناخات
- كولومبيا – الغابة التي تحرس أسرارها
- البرازيل – قلب الحوض، عندما يصبح الوطن نهراً
- حين يبدأ النهر بالهمس… وتستيقظ الأرض من الماء
- «حين يُصغي القلب إلى حكمة الكون»
- علمني حبك سيدتي أن أحزن وأنا محتاج منذ عصور لامرأة تجعلني أح ...
- رحلة النفس الإنسانية بين الصراع والسلام الداخلي: من النفس ال ...
- من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيق ...
- من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية
- رحلة الروح نحو النور
- حين يتصوّف الأدب الفرنسي: رحلة من الرمز إلى الكشف
- مراثي الكرسي رقم 7


المزيد.....




- مغامرة عُمان تنتهي.. تأهل المغرب والسعودية من -مجموعة الموت- ...
- نتنياهو يقول إن المرحلة الثانية من خطة السلام في غزة باتت وش ...
- كأس العرب: المغرب يحسم التأهل والصدارة في حضور جماهيري ضخم
- ألمانيا لن تستقبل طالبي لجوء جدد عام 2026 وفقا لآلية التضامن ...
- غزة مباشر.. انتهاء البحث عن جثة أسير إسرائيلي والاحتلال يقتح ...
- قانون -قيصر-.. سوريا تسعى لإزالة آخر العقبات أمام إعادة البن ...
- اليمن.. غارتان أميركيتان تستهدفان عناصر من -القاعدة- في مأرب ...
- فيديو: غارات إسرائيلية تستهدف مواقع في جنوبي لبنان
- ترامب يحذر الدول التي -تغرق- الولايات المتحدة بالأرز -الرخيص ...
- لماذا حذر وزير دفاع أمريكا الحالي في تصريحات سابقة من إصدار ...


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - – الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى