أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد بسام العمري - رحلة النفس الإنسانية بين الصراع والسلام الداخلي: من النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة














المزيد.....

رحلة النفس الإنسانية بين الصراع والسلام الداخلي: من النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 04:52
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


يطرح القرآن الكريم مفهوم أنواع النفس كإشارات إلهية تُرشد الإنسان نحو فهم ذاته وصراعاته الداخلية، في رحلة تهدف إلى تهذيب الروح والتقرب إلى الله. وقد ذكر القرآن ثلاث حالات للنفس، هي: النفس الأمارة بالسوء، النفس اللوامة، والنفس المطمئنة. هذه الحالات ترسم لنا خارطة لجوهر الإنسان، بين الميل إلى الشهوات، ومحاولة ضبط الذات، والسعي نحو السلام الداخلي، وهي رحلة تعكس تطور الإنسان بين الخير والشر، بين الغرائز والحكمة، وبين الذات والمجتمع.
النفس الأمارة بالسوء هي تلك التي تقود صاحبها نحو رغباته وشهواته، حيث لا يكترث بالعواقب ولا القيم. وقد أشار القرآن إلى هذه النفس في قوله تعالى:
"وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي" (سورة يوسف، آية 53).
هنا، يُصور القرآن لنا حالة الإنسان وهو في أسفل درجاته النفسية، مستسلمًا لغرائزه الحيوانية، حيث تغلب عليه الأنانية والطمع، ويتجه إلى ارتكاب الذنوب دون تردد. من منظور فلسفي، تعكس هذه النفس نزعة "الهو" (Id) لدى الإنسان، والتي تحدث عنها فرويد كقوة غريزية تدفع صاحبها إلى الإشباع الفوري للشهوات دون قيود أو معايير. النفس الأمارة بالسوء تمثل تحديًا للإنسان ليختبر قوة إرادته، وكيفية سيطرته على أهوائه في مواجهة الحق والباطل.
في تأمل آخر، يأتي ذكر النفس اللوامة كمرحلة متقدمة في رحلة الإنسان نحو التهذيب الذاتي، حيث يبدأ بلوم نفسه ومحاسبتها. وقد أقسم الله بهذه النفس في قوله تعالى:
"وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ " سورة القيامة،). آية 2(
هذا القسم القرآني يضفي على النفس اللوامة قيمة عالية، ويجعلها ركيزة في بناء الإنسان الأخلاقي. من المنظور الفلسفي، تُعد النفس اللوامة تجسيدًا لما وصفه كانط بـ"الضمير الأخلاقي"، الذي يجعل الإنسان يميز بين الخير والشر، بين ما ينبغي وما لا ينبغي، ويدفعه لمحاسبة نفسه على ما فاته من الخير. وتظهر هنا الحالة النفسية للإنسان في صورة صراع داخلي؛ حيث يصبح الفرد مراقبًا لنفسه، يندم على أخطائه، ويسعى للإصلاح.
النفس اللوامة تلعب دورًا رئيسيًا في تكوين المسؤولية الاجتماعية، إذ تدفع الفرد لإدراك أفعاله وأثرها على من حوله. فالأشخاص الذين يغلب عليهم هذا النوع من النفس يسعون لتحسين المجتمع من حولهم، ويتجسد فيهم مبدأ التعاون والتكافل، مما يجعلهم عناصر بناء وتوجيه داخل المجتمع. فالنفس اللوامة هي التي تساهم في نهضة المجتمعات، لأنها تدعو الفرد إلى تجاوز ذاته والارتقاء بأخلاقه.
وأخيرًا، تأتي النفس المطمئنة كحالة من السمو الروحي، بعد أن تجاوز الإنسان صراعاته الداخلية ووجد راحته في طاعة الله وذكره. وقد وردت النفس المطمئنة في قوله تعالى:
"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي" )سورة الفجر، الآيات 27-30. (
تمثل النفس المطمئنة حالة "تحقيق الذات" كما يصفها ماسلو؛ فهي حالة من الاكتفاء الداخلي، يجد فيها الفرد السلام مع ذاته، وينجذب نحو المبادئ والقيم دون أن يتأثر باضطرابات الحياة المادية أو الشهوات العابرة. على المستوى الفلسفي، النفس المطمئنة هي النموذج المثالي الذي يدعو إليه الفلاسفة، حيث يصل الفرد إلى مرحلة من التوازن بين عقله وروحه، ويجد طمأنينته في القيم الروحية والأخلاقية.
أما من منظور اجتماعي، فإن الإنسان الذي بلغ هذه النفس يمثل رمزًا للسلام والاستقرار. هو من أولئك الذين يعيشون لهدفٍ أسمى من ذاتهم، ويسعون لإحلال السلام والطمأنينة في مجتمعاتهم. وجود أفراد من أصحاب النفس المطمئنة يضفي على المجتمع حالة من الهدوء، فهم عناصر إيجابية يساهمون في نشر السعادة من حولهم، ويعملون على تعزيز القيم الأخلاقية بين الناس.
في النهاية، إن رحلة الإنسان بين هذه الحالات الثلاث ليست إلا مرحلة من مراحل التطور الأخلاقي والروحي. فالنفس الأمارة بالسوء هي نقطة البداية، حيث يبدأ الفرد بتجربة طاقاته الداخلية ومواجهة رغباته. ثم يتجه إلى النفس اللوامة، تلك التي تلومه وتدفعه إلى التصحيح والإصلاح، إلى أن يصل إلى النفس المطمئنة، حيث يجد السلام الداخلي والرضا بالله وأحكامه.
هذه الرحلة الروحية تضع الإنسان في مواجهة دائمة مع ذاته، وتجعله يسعى للتحكم في شهواته، وإيجاد السلام مع ضميره، حتى يصل إلى الطمأنينة. من هنا، فإن القرآن يقدم لنا هذه الأنواع الثلاثة كمراحل للنمو الروحي، حيث يستطيع كل إنسان أن يرتقي بنفسه من الأمارة بالسوء إلى اللوامة، ومنها إلى الطمأنينة، عبر التهذيب الذاتي، ومجاهدة الهوى، والعودة الدائمة إلى الله.
كل هذا يجعل من الإنسان كائنًا قادرًا على تخطي شهواته، وتطوير مجتمعه، وتحقيق انسجامه الداخلي، مما يجعله يعيش حياة ملؤها السلام والرضا، ويجعل من هذه الرحلة الروحية وسيلة لفهم نفسه، ومكانه في هذا العالم، وأهدافه الحقيقية.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيق ...
- من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية
- رحلة الروح نحو النور
- حين يتصوّف الأدب الفرنسي: رحلة من الرمز إلى الكشف
- مراثي الكرسي رقم 7
- أنشودة الضوء – إفريقيا التي لا تموت
- غناء الضوء في الغابة العتيقة
- بحيرة مالاوي: مرآة السماء ومهد الأساطير
- حين يؤذّن النور على ضفاف الميكونغ — المسلمون في فيتنام
- نشيد الماء والذاكرة
- روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر
- من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح


المزيد.....




- البرهان: مسعد بولس قدم -أسوأ ورقة- بشأن السودان.. وأشكر ولي ...
- الجيش السوداني يصد هجوما كبيرا في بابنوسة ويرفض ورقة بولس
- البرهان يهاجم بولس.. ويؤكد: لن نقبل وساطة -الرباعية-
- تبرير غريب من بولسونارو لمحاولة كسر سوار مراقبته الإلكتروني ...
- سوريا.. قبائل حمص تحذر من -الفتن- بعد جريمة مروعة واشتباكات ...
- إيران تدين اغتيال إسرائيل للطبطبائي في بيروت
- تفاؤل أميركي بإمكانية التوافق على خطة السلام في أوكرانيا
- مقترح أوروبي مضاد لإنهاء حرب أوكرانيا.. ما أوجه اختلافه عن خ ...
- أول حديث بعد الإفراج .. صنصال يفجر مفاجأة عن سبب سجنه بالجزا ...
- المفوضية الأوروبية تطلق -حزمة التنقل العسكري- لتعزيز الجاهزي ...


المزيد.....

- عملية تنفيذ اللامركزية في الخدمات الصحية: منظور نوعي من السو ... / بندر نوري
- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد بسام العمري - رحلة النفس الإنسانية بين الصراع والسلام الداخلي: من النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة