أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - غناء الضوء في الغابة العتيقة















المزيد.....

غناء الضوء في الغابة العتيقة


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 02:48
المحور: السياحة والرحلات
    


لم تكن الغابة طريقًا من أشجارٍ فحسب، بل كانت عالَمًا يتنفّس.
كل خطوةٍ كنا نخطوها كانت تُحدث همسًا ناعمًا على بساطٍ من الطحالب الخضراء، كأن الأرض نفسها تستيقظ تحت أقدامنا لتصغي إلى وقع الرحلة.
من حولنا، كانت الأشجار الشاهقة — سيكويا العصور — تمتدّ إلى السماء في خطوطٍ مستقيمة، وكأنها تحاول ملامسة النجوم.
جذوعها الضخمة تفوح منها رائحة الزمن، أوراقها تعانق الضوء بخفّة فراشةٍ على حافة القداسة.
"تسلّل الشعاع بين الأغصان مثل نصلٍ من ذهبٍ سائل، يرسم على الأرض خطوطًا متراقصة كأنها موسيقى مرئية."
النسيم يحمل رائحة الطين الرطب، ممزوجة بعطر الأوركيد البريّ وزهر الزيزفون، فيمتلئ الصدر بعبقٍ يشبه صلاة الطبيعة حين تفتح قلبها للصبح.
أما الأصوات، فكانت نغمًا خالصًا من الحياة:
صوت جدولٍ بعيدٍ يضحك على الصخور، نقيق الضفادع كإيقاعٍ ليلي، صدى طائرٍ مجهول يغنّي من عمقٍ لا يُرى.
كلّ شيء كان يتحدّث، وكلّ ما في الغابة كان لغةً بلا حروف.
في لحظة، خُيّل إليّ أني أرى الهواء نفسه ينبض — يتحرك حولي ككائنٍ شفافٍ من نور، يتلو تعاويذ الهدوء.
الضوء ينسكب على الطحالب فيتحول إلى فسيفساءٍ من زمرد، والعصافير الصغيرة تهبط لتشرب من قطرات الندى كأنها ترتشف الحياة ذاتها.
تقدّمتُ بخطواتٍ خفيفة، كأن أي صوتٍ قد يوقظ حلماً نائماً منذ قرون.
ثمّ لاح لي جدولٌ من البلور، يتلوّى بين الصخور كالحرير السائل.
في مياهه انعكست الأشجار، فبدت السماء مقلوبة — والأرض تسبح فوق الغيم.
وعلى حافّة الماء، كانت ظباء الغزال الذهبي تشرب في سكونٍ طاهر، وعيونها تتوهّج بلون الكهرمان.
وحين التفتت إحداها نحوي، شعرت كأنها تُبصر ما وراء جلدي، ما وراء اللغة.
كانت النظرة مزيجًا من دهشةٍ وثقة، كأنها تقول: “من دخل الغابة، صار منها.”
أغمضتُ عينيّ لحظة، فسمعت الغابة تنفّسها — خفقانٌ عميق يشبه نبض الأرض.
تحت ظلال السنديان، كانت الفراشات تحوم حول شعاعٍ من شمسٍ محتجزة، أجنحتها شفافة كأفكارٍ لم تولد بعد.
ألوانها تتبدّل مع كل رفّة: بنفسجيّ، ثمّ أزرقٌ مائي، ثمّ أبيض يشبه الحنين.
كلّ ما حولي بدا وكأنه يرشدني إلى مركزٍ خفيّ في الغابة، حيث يولد الضوء.
وحين تقدّمتُ، لمحْتُ شجرةً مهيبة تختلف عن كلّ ما رأيت:
أوراقها فضيّة، تُشعّ كنجومٍ صغيرة، وجذعها العريض مائلٌ كأن الرياح حاولت اقتلاعها ثمّ خضعت أمام عزيمتها.
اقتربتُ منها بخطواتٍ مهيبة، ومددت يدي لألمسها — فإذا بي أشعر بحرارةٍ تسري من اللحاء إلى قلبي، وكأن في أعماقها دمًا يسري.
وفجأة… سمعت همسًا.
لم يكن صوتًا خارجيًا، بل نغمةً داخلية تتسرّب إلى الوعي:
“من يلامسني، يُقسم ألا يعود كما كان…”
تراجعتُ قليلًا، لكن الفضول شدّني كالسحر.
كانت تلك اللحظة بداية الانفتاح، حين أدركت أن الغابة كائنٌ مقدّس، وأنها تختبر من يدخلها كما يختبر الحلمُ من يحاول فهمه.
جلستُ تحتها، أحاول أن أكتب، لكن القلم ارتجف بين أصابعي.
كل كلمة كانت تبدو فقيرة أمام عظمة ما أراه، ففهمت أن الكتابة هنا خيانة للجمال، وأن الصمت هو أعلى درجات التعبير.
رفعت رأسي نحو قمم الأشجار، فإذا بوميضٍ ذهبيّ يلمع من بعيد — لا هو نار، ولا هو شمس.
ربما كان نبعًا من نور، أو بوابةً إلى سرٍّ أكبر.
وحين حملت الريحُ رائحة زهرٍ غريبٍ تشبه مزيجًا من العسل والليل، شعرت أن الغابة تدعوني، أن الوجود نفسه يقول لي:
“اقترب… فهناك يبدأ الحلم الحقيقي.”
سرتُ نحو الضوء، وكل ما حولي تغيّر.
الألوان ازدادت عمقًا، الأصوات أصبحت موسيقى كونية، والطريق امتلأ بفوانيس اليراعات التي تومض في انسجامٍ عجيب.
كنت أمشي، لكن لم أعد أشعر بقدمي، كأنني أطير بخفة فكرةٍ من جمال.
وعند حافة الغروب، وصلت إلى حيث يلتقي الضوء بالماء.
وهناك… رأيت النبع.
وقفْتُ أمامه مذهولًا.
النبع كان يشبه مرآةَ فجرٍ سائل، يتصاعد منه بخارٌ لطيفٌ كأنفاسٍ نائمة، وفي عمقه كانت تنعكس سماءٌ أخرى — أكثر زرقة، أكثر نقاء.
حين اقتربتُ، سمعت صوتًا يشبه عزف قيثارةٍ من قطراتٍ متساقطة، صوتًا لا يُسمع بالأذن بل يُحَسّ بالروح.
في تلك اللحظة، أدركت أن كل ما عشته قبل الغابة لم يكن سوى مقدمة.
أما هنا، فالعالم يبدأ حقًا — يبدأ من هذا النبع الذي لا يرتوي منه سوى من ينسى نفسه تمامًا.
وهكذا، في صمتٍ تام، جلستُ عند الحافة أرقب انعكاسي يتلاشى شيئًا فشيئًا…
ثمّ غمرني الضوء.
لكن الغابة، قبل أن تغلق بوابتها، همست لي كمن يودّع عاشقًا:
“لا تنسَ أن الطريق إلى النبع لا يُقاس بالمسافة، بل بالشوق.”
ما إن غابت آخرُ همسات الغابة خلف ظهري،
حتى أحسستُ أنني أخرج من رحمٍ حيّ،
رحمٍ كان يغذّيني بالألوان، ويغسل روحي بنقاء الضوء.
كنتُ أتنفّس بصعوبةٍ كمن صعد من عمقٍ مائيّ إلى هواءٍ جديد،
لكنّ الهواء هذه المرّة لم يكن هواءً عاديًّا،
كان مشبعًا بشيءٍ لا يُرى… كأنه ذاكرة الأرض حين تفكّر.
الطريق أمامي تغيّر —
لم تعد الأشجار تحيط بي كما كانت، بل انفتحت المساحة على سهولٍ ممتدةٍ لا نهاية لها،
سهولٍ يغمرها الغيم كستارٍ من حريرٍ فضيّ.
كانت الريح تمرّ فوق العشب الطويل فتترك وراءها موسيقى خفيّة،
تتماوج معها الظلال كأن الأرض تتنفّس نغمةً واحدة مع السماء.
توقّفتُ لحظة، أغمضتُ عينيّ،
فسمعتُ شيئًا يشبه الخفق، ليس خفق قلبي، بل خفق الكوكب نفسه.
تذكّرتُ البحيرة، والغابة، والشلالات التي رأيتها،
وفهمتُ أن كلّ ذلك لم يكن إلا فصولًا من روايةٍ أكبر — رواية الأرض ذاتها.
هناك، وسط السكون، خطر لي سؤالٌ لم يُفارقني منذ تلك اللحظة:
هل الطبيعة تتكلّم… أم نحن الذين نسينا كيف نصغي؟
حين فتحتُ عينيّ، كانت السماء قد تبدّلت إلى زرقةٍ عميقةٍ كالمحيط،
ومن بعيد، كانت الجبال ترتفع في الأفق كأكتافٍ لعمالقةٍ نائمة.
فيها صمتٌ مهيب، لكنّه صمتٌ متكلّم.
صمتٌ يُحدّثك عن الثبات، عن الكرامة، عن الزمن الذي يمرّ دون أن يغيّر جوهر الوجود.
أدركتُ حينها أن الرحلة لم تعد خارجية.
لقد بدأت الرحلة إلى الداخل — إلى حيث تتجلّى فلسفة الأرض،
وحيث يتحوّل الصمت إلى معلّمٍ،
والجبال إلى رموزٍ،
والمطر إلى كاتبٍ يعيد كتابة التاريخ بقطراتٍ لا تُمحى.
كانت الغيوم تتجمّع ببطءٍ،
كأن السماء تُحضّر سرًّا للمسافر وحده،
وسمعتُ الرعد يهمس من بعيد:
"اقترب... فهنا تتكلّم الجبال."



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بحيرة مالاوي: مرآة السماء ومهد الأساطير
- حين يؤذّن النور على ضفاف الميكونغ — المسلمون في فيتنام
- نشيد الماء والذاكرة
- روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر
- من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...
- الإنسان والآلة — من التنافر إلى التكامل دراسة في البدايات ال ...
- -شظايا الحب في عيون القمر-
- الانتكاسة
- -أنثى تتوضأ بالضوء-
- إلى التي كانت نُورَ النصفِ قرن
- -من رحم الشدائد تولد العظمة-


المزيد.....




- إسرائيل.. غارة على صور وتوصية بحرب على لبنان
- إسرائيل تقتل مسؤولا في حزب الله جنوب لبنان
- سوريا.. الكشف عن موعد محاكمة المتهمين في -انتهاكات الساحل-
- مقاتلات إف35 للسعودية: صفقة خلافية بين ترامب وإسرائيل
- شاهد..كيف لحقت الكونغو الديمقراطية بالملحق العالمي على حساب ...
- سوريا.. اشتباكات بين القوات الحكومية وقسد في ريف الرقة
- اليمن.. إحباط مخطط حوثي لتنفيذ اغتيالات في عدن
- واشنطن تحشد قرب فنزويلا.. أحدث حاملة طائرات تصل الكاريبي
- إيران تلجأ إلى تلقيح السحب وسط جفاف تاريخي لم تشهده البلاد م ...
- بعد 800 إفادة.. لجنة التحقيق الحكومية عاجزة عن دخول السويداء ...


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - غناء الضوء في الغابة العتيقة