أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - نشيد الماء والذاكرة














المزيد.....

نشيد الماء والذاكرة


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 04:17
المحور: السياحة والرحلات
    


في حضن الأرض التي لا تموت
ما إن تلوح ملامح الفجر الأخيرة حتى تتنفس فيتنام من جديد، كأنّها كائنٌ عظيم خرج لتوّه من حلمٍ طويل.
الضباب يرقص على كتف الجبال، والشمس تفتح عينيها على حقول الأرز التي تمتد كأنها مرايا خضراء تعكس وجه السماء.
هناك، في كل زاوية من هذه الأرض، شيء يشبه الدعاء — دعاء الفلاح حين يغرس أول نبتة، أو الأم حين تهمس لابنها المسافر: “عد سريعًا، فالبلاد لا تزهر إلا بكم.”
منذ البداية كانت هذه النزهة الفكرية رحلة في روح بلدٍ ينهض من رماد الحروب ليغسل وجهه بماء الحياة.
تجولتُ في السهول والمجارى المائية، بين القرى التي تبدو كلوحاتٍ معلقةٍ على جدار الله.
سمعتُ أصوات الباعة في الأسواق المائية، رأيت النساء بثيابهنّ الملونة يبتسمن رغم التعب، كأنّ البسمة أصبحت جزءًا من نظام الطبيعة.
فيتنام ليست فقط أرضًا تُروى بالماء، بل أرضٌ تُروى بالدموع والصبر والحلم.
كم تشبه الأنهار هنا ذاكرة الناس — تجري، وتتعرّج، وتختزن في عمقها قصصًا لا تنتهي:
قصص الحروب والمصالحات، الهزائم والانتصارات، الشوق إلى السلام، والحبّ الذي لا يعرف الحدود.
حتى الجبال، تلك التي تقف في صمتٍ مهيب، ليست حجارة فقط، بل أرواح أجيالٍ حفرت فيها أنفاسها وبنت فوقها صلوات البقاء.
وحين تغرب الشمس، ترى قوارب الصيادين الصغيرة تتحرك كأنها أحلام من ضوءٍ تطفو فوق الماء.
إنهم لا يصطادون السمك فقط، بل يصطادون الحياة نفسها كل صباح.
ولعلّ سرّ الجمال في فيتنام أنها لم تتصنع الجمال يومًا، بل وُلدت منه:
من توازن بين الطين والمطر، بين العمل والسكينة، بين اليد التي تزرع والعين التي تشكر.
في المدن، يمتزج الصخب برائحة القهوة، وتملأ الدراجات النارية الشوارع كأنها نبضُ قلبٍ لا يهدأ.
ورغم الزحام، هناك شيءٌ روحيّ في هذا الإيقاع — كأنّ كل عجلةٍ تدور تذكّر الإنسان بأنه لا بدّ أن يمضي، أن يكافح، أن يحيا.
فالشعب الذي تعلّم كيف يزرع الأرز في الحقول الغارقة بالماء، تعلّم أيضًا كيف يزرع الأمل في القلوب الغارقة بالحزن.
لقد كانت فيتنام — وما زالت — قصيدة مقاومةٍ مكتوبة بلغة التراب والماء.
بلدٌ عاش طويلاً في عيون الآخرين كرمزٍ للحرب، لكنه عاد ليكون رمزًا للحياة.
ها هي اليوم تبني وتنتج وتفتح ذراعيها للسائحين والعشاق والباحثين عن سكينةٍ ضائعة في زحمة العالم.
إنها تذكّرنا بأن الجمال الحقيقي ليس في الرفاهية، بل في القدرة على تحويل الجراح إلى أغانٍ، والفقر إلى حكمة، والمطر إلى لحنٍ من طمأنينة.
وأنت تسير بين القرى، ترى الأطفال يضحكون وهم يركضون خلف الطائرات الورقية،
تسمع ضحكاتهم كأنها تصعد نحو السماء لتقول للعالم:
“ها نحن هنا، أبناء الأرض التي لا تموت.”
وحين تجلس قرب نهر الميكونغ، تدرك أن كل موجةٍ صغيرةٍ تحكي عن رحلة طويلة من الألم والنهضة.
لقد علمتني هذه الأرض أن لا شيء أكثر صدقًا من التراب حين يُروى بعرق الناس.
علمتني أن البلدان الفقيرة ليست تلك التي تفتقر إلى المال، بل التي تفتقر إلى الإيمان بالإنسان.
أما فيتنام، فغناها في عيون نسائها العاملات، وفي أصابع فتيانها الذين يصنعون من الخشب منحوتاتٍ تحاكي الذاكرة، وفي رائحة الشاي حين يُسكب عند الغروب وكأنه طقسٌ مقدّس للشكر على يومٍ آخر من الصبر الجميل.
وهكذا، حين تغادرها، تترك في قلبك أثرًا لا يُمحى.
تراك تتنفس كما تتنفس هي — ببطء، بامتنان، كأنك تكتشف المعنى الأول للوجود.
إنها ليست بلدًا يُزار، بل بلدٌ يُعاش في الحلم.
وحين تكتب عنها، تشعر أنك لا تصف مكانًا بل روحًا من نورٍ وماءٍ وذاكرة.
لذا، حين نطوي صفحات هذه الرحلة، لا نطويها وداعًا، بل عهدًا على العودة.
فالبلد الذي علّمنا كيف يُغسل الحزن بالمطر، وكيف تُكتب القصائد على ضوء القمر، وكيف تُهزم الحرب بالحبّ،
يستحق أن يُروى في فصلٍ جديدٍ من فصول الوعي والجمال.
وغدًا، حين نفتح الفصل القادم، سنمضي من الطبيعة إلى الإنسان،
من الجبل إلى القلب،
من تأمل الأرض إلى قراءة الروح التي تسكنها…
لأنّ فيتنام، كالحياة، لا تنتهي عند حدودها، بل تبدأ منها.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر
- من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...
- الإنسان والآلة — من التنافر إلى التكامل دراسة في البدايات ال ...
- -شظايا الحب في عيون القمر-
- الانتكاسة
- -أنثى تتوضأ بالضوء-
- إلى التي كانت نُورَ النصفِ قرن
- -من رحم الشدائد تولد العظمة-
- حينَ تاهَ العُشّاقُ بينَ الزمانِ والحنين
- تاريخ النقد الأدبي والفلسفي في الثقافات العربية والغربية
- أدب الأطفال كوسيلة للتكيف مع التحديات المستقبلية


المزيد.....




- فرنسا تحيي الذكرى العاشرة لهجمات 13 نوفمبر في ظل خطر إرهابي ...
- - بي بي سي- تعتذر لترامب وتؤكد عدم وجود أساس قانوني لدعوى ال ...
- الجيش الأميركي يقدم خطة لترامب لضرب فنزويلا ويعلن عملية -الر ...
- غالبية أطفال غزة يُظهرون سلوكا عدوانيا بسبب الحرب
- كييف تتعرض لهجوم روسي -ضخم-
- أوكرانيا.. كييف تتعرض لهجوم -ضخم- وانفجارات بالمدينة
- يتحدى المسودة الأميركية.. روسيا تقترح مشروع قرار بشأن غزة
- واشنطن تحذر من -تبعات خطيرة- لعدم تبني خطة ترامب بشأن غزة
- بي بي سي تعتذر لترامب وترفض مطالبته بالتعويض
- زوجان بريطانيان يضربان عن الطعام احتجاجًا على استمرار احتجاز ...


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - نشيد الماء والذاكرة