أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة














المزيد.....

من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 03:22
المحور: السياحة والرحلات
    


حين تخرج من قلب الريف الفيتنامي، كأنك تخرج من زمنٍ آخر:
نساءٌ يزرعن الأرز وهنّ يضحكن تحت قبعات الخيزران الواسعة،
أطفالٌ يجرون بين الماء والطين كما لو أن الأرض ملعبهم الأبدي،
وشيوخٌ يجلسون على عتبات البيوت الخشبية يحتسون الشاي الأخضر
ويتابعون الحياة وهي تمضي بلا استعجال.
ثم، فجأة، يتغير المشهد — تتسارع الألوان،
تتوهج النيونات فوق واجهات ناطحات الزجاج،
ويُفتح الباب على مدينةٍ جديدة،
كأنها فيتنام أخرى:
هو تشي منه، دا نانغ، هانوي… مدنٌ تعانق المستقبل بأذرعٍ من فولاذٍ وضوء.
في هذا التناقض المدهش بين الطين والزجاج،
تسكن روح فيتنام الحديثة:
لا هي ترفض الماضي، ولا تذوب في الحاضر،
بل تمسك بخيطٍ خفيٍّ يربط الاثنين معًا،
كأنها تقول للعالم: نحن لا ننسى من كنا، ونحن نعرف من نريد أن نكون.
تسير الدراجات النارية بالعشرات في شوارع المدن،
كأنها نهرٌ من عجلاتٍ لا يتوقف عن الجريان.
هي رمز الحرية الصغيرة، الاستقلال الشخصي في بلدٍ تعلّم أن ينتزع حريته بنفسه.
كلّ فيتنامي تقريبًا يملك دراجة نارية؛
ليست ترفًا، بل امتدادًا لحركته في الحياة،
وسيلةً للكدح، للحلم، للذهاب إلى السوق،
وللسفر أحيانًا إلى مدنٍ بعيدة كي يرى البحر الذي يسمّونه "نَفَس الآلهة".
لكن رغم التقدم الاقتصادي المدهش —
حيث باتت فيتنام من أسرع الاقتصادات نموًا في آسيا —
إلا أن الإنسان الفيتنامي ظلّ متواضعًا في طموحه،
يريد بيتًا صغيرًا، طعامًا دافئًا، قلبًا هادئًا.
كأنّه أدرك ما لم يفهمه كثير من أبناء الحضارات الغنية:
أن الرفاه لا يُقاس بالمال، بل بتوازن الروح.
إن ما يُدهش الزائر في فيتنام ليس الأبراج العالية،
بل السكينة التي تحيا بين ضوضائها.
حتى المدن الكبرى، رغم ضجيجها،
تحمل في هوائها رائحة الريف —
رائحة المطر الطازج، والأرز المطهوّ على نارٍ هادئة،
وصوت الطيور وهي تهاجر نحو الضوء.
لقد فهمت فيتنام، بعد قرونٍ من الصراع،
أن الحداثة الحقيقية ليست في تقليد الآخرين،
بل في اكتشاف الذات من جديد،
وفي أن يكون التطور امتدادًا للأصالة لا نفيًا لها.
هكذا أصبحت المدارس تُدرّس التاريخ كما تُدرّس التكنولوجيا،
وتُزين المعابد بلمسات الفن الحديث،
وتُقام المهرجانات الشعبية تحت الأضواء الذكية،
دون أن تفقد أرواحها القديمة.
في الأسواق الليلية لهانوي،
ترى الفتاة التي تبيع الزهور وقد علّقت في شعرها وردةً بنفسجية،
تبتسم لزبائنها والسلال بين يديها تفوح منها رائحة الأرض.
وفي المقاهي القديمة، يجلس الشعراء الشبان يكتبون عن الحب والحرب والحنين،
كما كان يفعل آباؤهم حين كانت البلاد تشتعل.
حتى السياسة هنا، في زمن الاقتصاد المفتوح،
صارت تميل إلى الحكمة الشرقية القديمة:
“ابنِ المستقبل ببطء، ولكن لا تفقد روحك.”
هكذا تتقدم فيتنام…
بخطواتٍ تشبه نغمة موسيقى هادئة تعلو من بعيد،
لا تستعجل اللحن، لكنها تعرف إلى أين يمضي.
ومن هذا التوازن بين المادي والروحي، بين السرعة والسكينة،
ولدت فلسفة جديدة، لا تدرّس في الجامعات،
بل تُمارس في الحقول، في المصانع، في الأسواق، وفي البيوت الصغيرة:
فلسفة الرضا الواعي.
أن تعمل لتعيش، لا لتفنى في العمل.
أن تمتلك التكنولوجيا، دون أن تفقد علاقتك بالطبيعة.
أن تبني المدن، لكن تظل قلبك معلّقًا بظلّ نخلةٍ على حافة النهر.
وهكذا، بين السكون والضجيج، بين النهر والبرج،
تواصل فيتنام رحلتها الطويلة من طين الذاكرة إلى أفق الحلم.
لكن هذه الرحلة لا تكتمل دون أن نغوص في أعماق إنسانها:
في ثقافته، في روحه التي تتغذى من الشعر والموسيقى والمعتقدات القديمة،
في تلك المرافئ التي تلتقي فيها البوذية والكونفوشيوسية والمسيحية والروحانية الشعبية،
لتصنع معًا نَفَسًا واحدًا من الإيمان الهادئ.
في الفصل السادس، سنمضي أبعد في هذه النزهة الفكرية،
نستكشف روح فيتنام الخفية:
كيف تعيش الأخلاق في ظل التغير؟
كيف تتحول الأسطورة إلى واقع؟
وكيف ما زال الإنسان هناك يتحدث إلى الأرض كأنها أمه،
ويحاور السماء كما لو كانت قلبه؟



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...
- الإنسان والآلة — من التنافر إلى التكامل دراسة في البدايات ال ...
- -شظايا الحب في عيون القمر-
- الانتكاسة
- -أنثى تتوضأ بالضوء-
- إلى التي كانت نُورَ النصفِ قرن
- -من رحم الشدائد تولد العظمة-
- حينَ تاهَ العُشّاقُ بينَ الزمانِ والحنين
- تاريخ النقد الأدبي والفلسفي في الثقافات العربية والغربية
- أدب الأطفال كوسيلة للتكيف مع التحديات المستقبلية
- -التجريب والاستكشاف: مفتاح الإبداع لدى الأطفال-
- تأثير الجمال على السلوك الأخلاقي بين الأديان والفلسفة


المزيد.....




- خارجية أمريكا ترد على -لقاء كوشنر وأبو شباب قائد الميليشيا ا ...
- الاتحاد الأوروبي يسعى لتأجيل قانون إزالة الغابات
- مجموعة السبع تبحث بكندا أزمات غزة والسودان والكاريبي وأوكران ...
- العلاج الحراري المنزلي ربما يكون الحل الأمثل لخفض ضغط الدم
- روسيا تتصدى لمسيّرات وأوكرانيا تؤكد تدهور الأوضاع في زاباروج ...
- نشأة وتطور التصوير الفوتوغرافي في القدس
- علاج جديد يحمي الخلايا العصبية المتضررة من مرض العصبون الحرك ...
- فيديو.. تركيا تعلن مقتل 20 عسكريا في -كارثة الطائرة-
- وثائق سرية تكشف -مخاوف مكبوتة- من إمكانية انهيار اتفاق غزة
- بعدما خدعت 128 ألف شخص.. القضاء يقرر عقوبة -ملكة الكريبتو-


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة