أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية














المزيد.....

ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 02:19
المحور: السياحة والرحلات
    


ليست الحروب في فيتنام فصولًا من التاريخ فحسب، بل طبقات من الذاكرة تتداخل كما تتداخل طبقات الأرزّ في دلتا الميكونغ؛ كلّ موسم يروي قصةً من الألم والنهضة، وكلّ جيلٍ يُعيد ولادة الأرض على طريقته.
ففيتنام، منذ نشأتها الأولى، عرفت أن مصيرها أن تعيش بين قوتين عظيمتين: الطبيعة، والإنسان الغازي.
وكأنّها كانت منذ البدء تتعلّم كيف تحمي نهرها من الفيض، وكرامتها من الاحتلال في آنٍ واحد.
يعود تاريخها إلى آلاف السنين، حين تشكّلت ممالك صغيرة بين الجبال والأنهار، تحكمها الأسر الزراعية التي تؤمن أن الأرض ليست ملكًا لأحد، بل أمانة تتقاسمها الأجيال.
ثم جاء الصينيون، فامتدّ احتلالهم أكثر من ألف عام، حاولوا خلالها أن يزرعوا في التربة روحًا غريبة عن وجدانها، وأن يحوّلوا اللسان الفيتنامي إلى صدىً للغة الإمبراطور.
لكنّ اللغة التي صمتت في الفم، ظلت تنبض في القلب،
وحين حانت ساعة اليقظة، خرجت البلاد من رحم الظلّ كما يخرج الربيع من رحم المطر.
منذ ذلك الحين، صار الصبر هو الميثاق غير المكتوب للأمة؛
فقد فهم الفيتناميون أن الحرية لا تُنتزع بالسيف وحده، بل تُربّى في الذاكرة.
فالمستعمِر يمكن أن يُهزم في المعركة، لكنه لا يرحل تمامًا إلا حين يزول أثره من طريقة تفكيرك، من نظرتك للأرض، من خوفك.
وهذا ما فعله الفيتنامي: انتصر على الخوف قبل أن ينتصر على العدو.
ثم جاءت الحقبة الفرنسية في القرن التاسع عشر، تحمل بريق الحضارة وحديدها،
لكن تحت أعلام التنوير، كانت تُخفي قيودًا جديدة من الطمع والتقسيم.
ورغم الطرق والسكك والمدارس، ظلّ قلب فيتنام يرفض أن يُختزل في مشروعٍ استعماري،
فانبثقت المقاومة من الأديرة، ومن القرى النائية، ومن صدور النساء اللواتي كنّ يخبئن الرسائل في سلال الأرز.
كان الشعب كله جيشًا صامتًا يتنفس الحلم بالحرية.
وحين رحل الفرنسيون، لم تنتهِ الحرب، بل بدأت الحرب الأشدّ قسوة: حرب المعنى.
فبعد أن انقسمت البلاد إلى شمالٍ اشتراكي وجنوبٍ تدعمه الولايات المتحدة،
تحوّلت فيتنام إلى مسرحٍ للصراع بين فكرتين: الفكرة التي تؤمن بالعدل والمساواة، والفكرة التي تؤمن بالحرية الفردية.
لكنّ الفيتناميين، وسط هذا الجنون العالمي، لم يبحثوا عن انتصار الأيديولوجيا، بل عن نجاة الإنسان.
حين انهالت القنابل على الغابات، ظلّ الفلاح يزرع الأرزّ،
وحين احترقت القرى، ظلّت النساء يغنين للأطفال،
كأنّ الأرض نفسها قررت أن تقاوم بالنبتة لا بالبندقية.
وهنا، في هذا الامتحان الطويل، تحوّلت فيتنام من جغرافيا إلى رمزٍ فلسفي للقدرة على التجدّد.
فقد أظهرت للعالم أن الإنسان يمكن أن يُحاصر بالنار، ويُدفن في الطين، ثم يعود ليزرع فيه سنبلة.
كأنّها تجسيدٌ حديث لفكرة البعث، أو كما قال دوستويفسكي: “من رحم العذاب، يولد الوعي.”
وحقًا، من رحم تلك الحروب، وُلدت فيتنام المعاصرة — بلدٌ فقير بالحديد، غنيّ بالروح.
اليوم، حين تمشي في شوارع هانوي أو في قنوات الميكونغ،
لا ترى آثار الدمار إلا كما يرى العارف آثار الجرح القديم الذي صار وشمًا.
الناس يبتسمون لأنهم عرفوا ثمن البقاء،
والبيوت تُبنى بخشب الخيزران لا لضعفٍ، بل لأنهم اختاروا البساطة طريقًا للاستمرار.
ذلك هو الصبر وقد تحوّل إلى فلسفة حياة:
أن تزرع بعد كلّ حربٍ شجرة، وأن تصنع من الرماد فجرًا آخر.
لقد فهم الفيتناميون درس التاريخ كما لم يفهمه كثيرون:
أن الحضارة ليست في ناطحات السحاب، بل في القدرة على النهوض بعد الانكسار،
وأن الحرية ليست شعارًا، بل حالة روحية من الانسجام مع الذات والطبيعة والمصير.
إنهم لا يخافون الحرب، لأنهم جرّبوها، ولا يخافون الفقر، لأنهم عاشوه،
لكنهم يخافون فقط أن يفقدوا إنسانيتهم — تلك هي ذروة الوعي.
وهكذا، حين تنتهي من قراءة تاريخ فيتنام، لا تشعر أنك قرأت سجلًّا من الأحداث،
بل كأنك سرتَ في رحلةٍ داخل روحٍ تعلّمت كيف تُعيد خلق ذاتها كلّ مرة.
لقد علّمهم التاريخ أن الثراء لا يأتي من الخارج، بل من الداخل،
وأنّ الاقتصاد — في جوهره — ليس حسابات الأرقام، بل فنّ تحويل الندرة إلى اكتفاء.
ومن هنا تبدأ الحكاية القادمة،
حيث تنقلب المأساة إلى مشروعٍ للنهوض،
وحيث تُصبح الزراعة، والتجارة، والصناعة، وجوهًا جديدة لذات الروح القديمة التي لا تعرف اليأس.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...
- الإنسان والآلة — من التنافر إلى التكامل دراسة في البدايات ال ...
- -شظايا الحب في عيون القمر-
- الانتكاسة
- -أنثى تتوضأ بالضوء-
- إلى التي كانت نُورَ النصفِ قرن
- -من رحم الشدائد تولد العظمة-
- حينَ تاهَ العُشّاقُ بينَ الزمانِ والحنين
- تاريخ النقد الأدبي والفلسفي في الثقافات العربية والغربية
- أدب الأطفال كوسيلة للتكيف مع التحديات المستقبلية
- -التجريب والاستكشاف: مفتاح الإبداع لدى الأطفال-
- تأثير الجمال على السلوك الأخلاقي بين الأديان والفلسفة
- الشهداء يصرخون ....... إننا قادمون
- -تأملات فلسفية في تجربة العشق والإنسانية-
- المرأة: الكينونة التي تلد المعنى — قراءة فلسفية وجمالية عبر ...
- -حين تبدأ العقارب من جديد: ولادة تحت الأنقاض-.


المزيد.....




- أكوام القمامة ومياه الصرف الصحي تفاقمان أزمة سكان غزة المدمر ...
- كيف تتسلل جماعات الضغط لمؤتمرات المناخ العالمية؟
- العثور على أكبر شبكة عناكب تضم 111 ألف عنكبوت
- مقتل 7 في قصف روسي استهدف منشآت طاقة في أوكرانيا
- الأمير جورج ينضم إلى ملك وملكة بريطانيا في مهرجان ذكرى الحرب ...
- باحثون يكتشفون عنكبوتا عملاقا -ميغاسيتي- في كهف على حدود ألب ...
- الشرع بواشنطن في أول زيارة لرئيس سوري
- إسرائيل تقتل شخصا في الضفة بتهمة التخطيط لاستهداف جنود
- شهود: اعتداءات عنيفة لمستوطنين إسرائيليين على صحفيين وفلسطين ...
- توقيف 3 أشخاص على خلفية تحقيق جديد مع الناجي الوحيد من كومون ...


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية