أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - -حين تبدأ العقارب من جديد: ولادة تحت الأنقاض-.















المزيد.....

-حين تبدأ العقارب من جديد: ولادة تحت الأنقاض-.


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 09:56
المحور: الادب والفن
    


كانت السماء داكنة، مثقلة بغيوم شتوية رمادية، كأنها تعكس حال المدينة التي بالكاد تعافت من سنوات الحرب. في ركنٍ من المدينة، وقف مبنى قديم متداعٍ، كان يومًا ما مركزًا ثقافيًا يضج بالحياة. اليوم، أصبح ملاذًا لشخصيات تجر خلفها حقائب مثقلة بالأحلام المكسورة.
داخل المبنى، اجتمعت ثلاث شخصيات حول طاولة خشبية مهترئة. مصباح يتيم معلق في السقف يلقي ضوءًا خافتًا على وجوههم المتعبة. كانت ليلى، المعلمة التي هربت لوحاتها من النار كما هربت هي من مدينتها، تنظر إلى فراغ الجدار وكأنها تبحث عن إجابة غير مرئية. بجانبها، عادل، الطبيب الذي قضى سنوات يعالج الجرحى فقط ليرى الجراح الأكبر تتسلل إلى روحه. أما كريم، الشاب حامل الكاميرا المتهالكة، فقد جلس في زاوية الغرفة يحدق في عدسة كاميرته، كأنه يحاول التقاط صورة تشرح معنى هذا الخراب.
قالت ليلى بنبرة ملؤها السخرية:
"كل عام وأنتم بخير... إن كان الخير يعرف طريقه إلينا."
رد عادل بابتسامة باهتة:
"عام جديد بنفس الأحلام المؤجلة. هل هذا ما يسمونه الاستمرارية؟"
رفع كريم رأسه أخيرًا وقال:
"ربما نحن من نؤجل أحلامنا، أو نخشى مواجهتها. ألسنا هنا الآن، أحياء؟ أليس هذا بحد ذاته معجزة؟"
في زاوية الغرفة، لفتت انتباههم ساعة حائط قديمة توقفت عقاربها منذ وقت لا يذكر. أصبحت الساعة محور الحديث، كأنها تعكس أحوالهم: عالقون بين ماضٍ ثقيل ومستقبل غامض.
قالت ليلى:
"الوقت متوقف هنا، كما في حياتنا. نحن مجرد ظلال تمشي فوق جروح لا تندمل."
رد كريم:
"ربما توقفها رسالة. رسالة تقول لنا: حان وقت التحرك."
ابتسم عادل وهو يراقب الساعة وقال:
"أو ربما توقفها يعني أننا لا نزال عالقين، غير مستعدين لما سيأتي."
مع اقتراب منتصف الليل، اقترح كريم فكرة:
"ماذا لو صنعنا من هذا المكان بداية جديدة؟ معرض صغير... لوحاتك يا ليلى، وصوري عن حياة الناس، ومحاضراتك يا عادل. نحتاج إلى أن نحمل قصصنا ونشاركها، حتى لو كان جمهورنا محدودًا."
نظرت ليلى إليه بشك:
"معرض؟ وسط هذا الدمار؟ ومن سيأتي؟"
أجابها كريم بثقة لم تكن مألوفة:
"لا نحتاج إلى الكثير. يكفي أن نبدأ. لربما كانت هذه الخطوة الأولى لإيجاد معنى جديد."
مع بزوغ الفجر، بدا المشهد وكأن المدينة القديمة تستيقظ من غفوة طويلة. كانت أشعة الشمس الأولى تتسلل عبر شقوق الجدران المهترئة، تضيء اللوحات التي علقتها ليلى على الحيطان، وكأنها تبعث فيها الحياة من جديد. كانت الألوان تروي قصصًا لا تحتاج كلمات؛ لوحاتها حملت وجوهًا حزينة، لكنها متشبثة بالأمل، ومشاهد لمدن مدمرة تتنفس تحت رماد الحرب.
كريم، الذي قضى الليلة السابقة في تحميض الصور في ركن مظلم من الغرفة، بدأ بعرض لقطاته على الجدران. الصور لم تكن فقط توثيقًا للحياة في المدينة، بل كانت صرخة خفية تحكي عن البشر الذين ظلوا رغم كل شيء: امرأة تخبز الخبز في فرن متهالك، طفل يحمل حقيبة مدرسية مرقعة، ورجل مسن يجلس بجانب حطام منزله ممسكًا بعود قيثار قديم.
عادل وقف في الزاوية يلقي كلماته على الحضور الصغير. كانت كلماته أشبه بمرهم للجراح النفسية التي يحملها الجميع:
"نحن لسنا وحدنا، هذه المدينة كلها جرح مفتوح، لكنها تتنفس. كما هذه الجدران التي تقف رغم التشققات، كذلك نحن. يمكننا أن نكون البداية، أن نصبح الجسر بين ما كنا وما نريد أن نكون."
رمزيًا، كان الفجر يمثل ولادة جديدة، لحظة انتقال بين ظلامٍ طويل ونور خافت يحاول التسلل. كان المعرض أشبه بقطرة ماء تسقط في صحراء جافة، صغيرة لكنها تحمل وعدًا ببداية. نفسيًا، بدأت الشخصيات تشعر بشيء جديد: ليس الأمل الكامل، بل بذرة صغيرة تنمو في دواخلهم، تحفّزهم على الاستمرار. أما واقعيًا، فقد أصبح هذا الحدث الصغير رمزًا لإمكانية الحياة وسط الدمار، وصورة مصغّرة لما يمكن أن تكون عليه المدينة إذا ما أعادت بناء ذاتها.

بينما كانوا يجمعون ما تبقى من يومهم الطويل، التفت الجميع نحو ساعة الحائط القديمة. كانت متوقفة منذ سنوات، عقاربها جامدة كأنها تحاكي حالة الركود التي عاشتها المدينة. فجأة، ومن دون سابق إنذار، بدأت العقارب تتحرك ببطء، كأن الزمن ذاته قرر أن يبدأ من جديد.
كانت حركة العقارب تحمل دلالة عميقة على الزمن وكيفية تعامله مع البشر. الزمن لا يتوقف فعليًا، لكنه ينتظر اللحظة التي نتجرأ فيها على التحرك. كأن الساعة تقول لهم: "لقد أعدتم للوقت معناه؛ الوقت ليس فقط عدادًا للأيام، بل هو ما نصنعه به."
شعرت ليلى وكأن شيئًا ثقيلًا انزاح عن صدرها. لقد كانت تعتقد أن كل شيء انتهى، أن حياتها توقفت مع أول لوحة احترقت وأول طالب نزح. حركة العقارب أعادت لها إحساسًا داخليًا بالاستمرارية، وكأنها تقول لها إن الماضي قد يُحفر في الذاكرة، لكنه ليس نهاية المطاف.
عادل وضع يده على قلبه، يشعر بنبضه وكأنه يتناغم مع حركة العقارب. كان هذا النبض يحمل رسالة: "طالما أننا أحياء، فإن الزمن يتيح لنا فرصة جديدة لنصنع الفرق." شعر أن دوره لم ينتهِ، وأنه لا يزال قادرًا على شفاء جراح، حتى وإن كانت الجراح غير مرئية.
كريم، الذي عاش سنوات يشعر أن عدسة كاميراه هي عينه الوحيدة التي ترى الحقيقة، شعر لأول مرة أن الحقيقة ليست مجرد صورة تُلتقط، بل هي شيء يصنعه الإنسان. حركة العقارب جعلته يدرك أن قصصه، التي كان يعتقد أنها صرخات في الفراغ، قد وجدت أخيرًا من يسمعها.
الساعة المتحركة أصبحت رمزًا للتحول الجماعي. لم تكن مجرد جهاز مادي، بل تجسيدًا لحالة الشخصيات. مثلما بدأت الساعة تتحرك، كذلك بدأت أرواحهم تتحرك نحو أفق جديد. كان هذا التحول بمثابة ولادة ثانية، كأن الزمن نفسه يعترف بشجاعتهم ويكافئهم على محاولتهم النهوض.
بين النظر إلى الساعة وصدى حديثهم عن المعرض، أدرك الجميع شيئًا مشتركًا:
"نحن الزمن. نحن من يعطيه معناه. طالما كنا نعيش دون أمل، كان الزمن مجرد وهم. أما الآن، فقد بدأنا نفهم أنه لا يوجد مستقبل ينتظرنا، بل نحن من نصنعه."
مع حركة العقارب، لم يكن الفجر الجديد مجرد لحظة من الطبيعة، بل بداية رمزية لحياة قرروا أخيرًا أن يعيشوها، رغم كل ما خلفته الحرب.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -أجزاء من الدجاج تهدد صحتك-
- إسهامات رواد القصة القصيرة
- مقامة الكتابة بين السراج والسراب
- حين تزهر الروح في ضوء الفجر
- نشأة القصة القصيرة وتطورها التاريخي
- كيف ينظر الحمير إلى انحدار الأخلاق البشرية؟-
- الثوم بين الفائدة والضرر: مراجعة علمية لأبرز أضراره وتأثيرات ...
- تفكك القيم الأخلاقية في العصر الحديث: مقاربة تحليلية بين الد ...
- الحلم العربي
- -وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ-
- أغاني الفراق- و -خيوط الأحلام المنثورة-
- حين يفكر القلب ويتكلم الجمال
- الوعي الإيكولوجي الإفريقي الجديد — حين تتحدث الأرض بذكاء الإ ...
- قهوة فيروزية وحكاية لم تنتهِ
- النهضة الخضراء في إفريقيا — بين صرخة الأرض وذكاء المناخ
- قائمة الموتى
- نهضة الجسد والعقل والذاكرة
- ما بعد الصرخة
- : العقل الإفريقي بين الطباشير والسحابة
- «الصحة والتعليم الرقميان في إفريقيا: الجسد والعقل بين بيانات ...


المزيد.....




- لماذا تراجع نفوذ مصر القديمة رغم آلاف السنين من التفوق الحضا ...
- موريتانيا تطلق الدورة الأولى لمعرض نواكشوط الدولي للكتاب
- انطلاق الدورة الرابعة من أيام السينما الفلسطينية في كولونيا ...
- سطو اللوفر يغلق أبواب المتحف الأكبر وإيطاليا تستعين بالذكاء ...
- فساتين جريئة تسرق الأضواء على السجادة الحمراء بمهرجان الجونة ...
- ورشة برام الله تناقش استخدام الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار ...
- أسماء أحياء جوبا ذاكرة نابضة تعكس تاريخ جنوب السودان وصراعات ...
- أنقذتهم الصلاة .. كيف صمد المسلون السود في ليل أميركا المظلم ...
- جواد غلوم: الشاعر وأعباؤه
- -الجونة السينمائي- يحتفي بـ 50 سنة يسرا ومئوية يوسف شاهين.. ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - -حين تبدأ العقارب من جديد: ولادة تحت الأنقاض-.