أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - مقامة الكتابة بين السراج والسراب














المزيد.....

مقامة الكتابة بين السراج والسراب


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 04:52
المحور: الادب والفن
    


الحمدُ للكلمةِ التي وُلدَ منها النور، وانشقّ عنها الوجودُ سطرًا بعد سطر،
وسبحان من علّم بالقلم، وجعل الحرفَ سلّمًا إلى الفهم،
وأسبغ على العقول رداء البيان،
فما نطقَ الفكرُ إلا بلُغته، ولا تجلّى الجمالُ إلا بسطوره.
هيهات أن تُدرك الكتابةُ بمدادٍ دون روح،
أو تُمسكَ المعاني بأيدٍ خاليةٍ من المعاناة،
فالكتابةُ سرٌّ لا يُكشفُ إلا لمن تطهّرت سريرته،
ونورٌ لا يُرى إلا بعينٍ اغتسلت بماء الصدق.

حدثنا عيسى بن هشام قال:
خرجتُ أفتّش عن معنى ضاع منّي في زحام الحروف، وعن فكرٍ أضاع بوصلته في متاهة الحبر. فمررتُ بمدادٍ يسيل من أفواه الأقلام، وحروفٍ تتزاحم كالنمل على فتات المعاني. فقلتُ في نفسي: لعلّي أجد في هذا السوق حرفًا يليق بأن يُكتب به ما يستحقّ الكتابة.
فلم ألبثْ أن أبصرتُ شيخًا جليلًا، على وجهه نور المعنى وغبار المكابدة، يُقلب أوراقه كما يُقلب المتصوّف سبّحته. فدنوتُ منه وقلت:
ــ ما تصنع أيها الشيخ؟
فقال: أكتب يا بنيّ ما يُكتب بي، لا ما أكتبُه أنا.
فقلتُ: ما أعجب قولك!
قال: أعجبُ منه أن ترى من يكتب ليُقال إنّه كتب، لا ليُنير ما كُتب.
ثمّ تنفّس تنهيدة كمن حمل الهمَّ قرونًا وقال:
ــ الكتابة يا صاحبي، ليست صنعةَ الأقلام بل صناعةَ الأرواح؛ هي مصباحُ البلور، يضيءُ لمن طهُر قلبه، ويعمي من دنّسه حبُّ الظهور.
قلت: ولكنّ الناس اليوم كثرَ كتّابُهم وقلَّتْ كتبُهم!
قال: بل كثر حبرهم وشحّ فكرهم؛ ترى الواحدَ منهم يملأ الصحفَ ضجيجًا كمن ينفخ في رماد، يزهو بجهله زهوَ الطاووس بريشه، وينثر الحروف نثرَ الدراهم على موائد المديح.
قلت: أوَليس فيهم من يكتب للحقّ؟
قال: قليلٌ يا هذا، قليل. أكثرهم يكتب ليُصفّق له المتابعون، أو ليُقال عنه “كاتبٌ عميق”، ولو غاصَ في إنائه لعاد بصدفةٍ خاوية. يبيع المجازَ في سوق التكرار، ويشتري من بائع اللغة قوافيَ جاهزةً منتهية الصلاحية.
ثمّ رفع يده إلى السماء وقال:
ــ آهٍ على أقلامٍ صارت تُساقُ بالعناوين كالإبل العطشى!
يكتبون عن الوطن وهم لا يعرفون حدود قلوبهم،
ويُنشِدون عن الحرية بألسنةٍ مربوطةٍ بخيط الدعاية،
ويكتبون عن العشق ولم يُجرّب أحدهم وجع الانتظار.
قلت: فما الكتابة إذن في عُرفك؟
قال: الكتابة يا ابن هشام، روحٌ نُفِخَت في طين اللغة؛ تُصيب من كتبها بإخلاصٍ، وتخذل من أراد بها المباهاة. هي سجدةُ المعنى في محراب الفكر، وصهيلُ العاشق في مدار اللغة.
هي جرحٌ يُزهر، ووجعٌ يُرتّل.
ثمّ أطرق قليلًا وقال مبتسمًا:
ــ وقد صارت اليومَ موضةً تُباع مع القهوة والواي فاي!
كلُّ من امتلك هاتفًا ادّعى الحكمة،
وكلُّ من خابَ حبُّه صار شاعرًا،
وكلُّ من لم يُفهَم صار فيلسوفًا!
يا للعجب! صار الصمتُ أبلغَ من كتاباتهم، والفراغُ أعمقَ من معانيهم.
قلت: فأين مكانك بينهم؟
قال: بين السطر والأنين، بين مجرّة السؤال وكوكب اليقين. أكتبُ لا لأنشر، بل لأنجو. الكتابةُ عندي معراجُ الروح إلى سدرة اليقين، إذا كتبتُ سكنتُ، وإذا سكتُّ احترقت.
ثمّ نهض الشيخ، ومسح على أوراقه كما يمسح الأب على رأس ولده، وقال:
ــ أما علمتَ يا ابن هشام أن الكلمة إذا خرجت من القلب دخلت القلوب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان؟
قلت: بلى والله!
قال: فإياك أن تكتب ما لا تعيش، أو تقول ما لا تعي، فكم من كاتبٍ كتب وهو أمّيّ الروح!
ثمّ أخذ عصاه ومضى يقول وهو يبتعد:
“الكتابةُ يا صاحِ، لا تُنالُ بالحبر، بل بالخبر،
ولا تُصاغُ في الدفاتر، بل في الضمائر،
من كتبَ ليُقالَ، ضاعَ قوله في القيل والقال،
ومن كتبَ ليُضيءَ، أبقاه الله شعلةً في ليل المعنى.”
فقلتُ وأنا أنظر إليه يختفي في سراب الحروف:
رحم اللهُ شيخَ البلاغة، ما قال إلا حقًّا.
فما الكتابة إلا صلاةٌ بلا قبلة، ودمعةٌ بلا ندم،
وحقيقةٌ تمشي على صهوة مجازها،
تتعثّر بالغرور، وتنهض باليقين.

ثم قلتُ – وقد انطوى الشيخ في عباب المعنى –:
رحم اللهُ من كتب ليُطهّر لا ليُشهر،
ومن نثرَ الكلمة كما يُنثرُ البذرُ في صحراء الصدق، لا كما تُنثرُ المديحُ على موائد السلطان.
فالكتابةُ يا سادةُ، ليست حبرًا يُراق، بل نورًا يُستراق؛
من كتبَ بقلبٍ طاهرٍ أغناه المعنى عن الثمن،
ومن كتبَ بلسانٍ مريضٍ أفقره الزيفُ إلى الوطن.
إنها ميزانُ الأرواح لا الأقلام،
وسُلَّمُ الارتقاء لا السلّم إلى الإعلام.
فيها يعلو من صدقَ، ويسقط من صُفّق،
تسعفُ المتأملَ وتخذلُ المتاجرَ،
تُباهي بالسكوت حين يكثر الضجيج،
وتسكنُ في الظلّ حين يلهثُ الحبرُ خلفَ البريق.
فيا كاتبَ اليوم، إنْ كتبتَ، فاكتبْ لتُضيءَ لا لتُضيَّع،
ولتُخلِّدَ لا لتُخلَّد،
واعلَمْ أنَّ الكلمةَ عِرضُ صاحبها،
فإنْ طهُرتْ نُصِرت، وإنْ دنُستْ عُثِرت.
ثم ختمتُ مقامي بقولي:
"ما أكثر الكاتبينَ، وما أقلَّ من يُكتبُ بهم!
وما أيسرَ الحبرَ، وما أعسرَ الصدقَ حين يكتبُ القلم."



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تزهر الروح في ضوء الفجر
- نشأة القصة القصيرة وتطورها التاريخي
- كيف ينظر الحمير إلى انحدار الأخلاق البشرية؟-
- الثوم بين الفائدة والضرر: مراجعة علمية لأبرز أضراره وتأثيرات ...
- تفكك القيم الأخلاقية في العصر الحديث: مقاربة تحليلية بين الد ...
- الحلم العربي
- -وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ-
- أغاني الفراق- و -خيوط الأحلام المنثورة-
- حين يفكر القلب ويتكلم الجمال
- الوعي الإيكولوجي الإفريقي الجديد — حين تتحدث الأرض بذكاء الإ ...
- قهوة فيروزية وحكاية لم تنتهِ
- النهضة الخضراء في إفريقيا — بين صرخة الأرض وذكاء المناخ
- قائمة الموتى
- نهضة الجسد والعقل والذاكرة
- ما بعد الصرخة
- : العقل الإفريقي بين الطباشير والسحابة
- «الصحة والتعليم الرقميان في إفريقيا: الجسد والعقل بين بيانات ...
- البيان الإلهي وأسراره في التأثير على النفس الإنسانية
- التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى وأثرها المركّب على دول ا ...
- القارة التي تكتب نفسها — وعي إفريقيا في زمن التحول الرقمي


المزيد.....




- معرض العراق الدولي للكتاب يحتفي بالنساء في دورته السادسة
- أرشفة غزة في الحاضر: توثيق مشهد وهو يختفي
- الفنان التركي آيتاش دوغان يبهر الجمهور التونسي بمعزوفات ساحر ...
- جودي فوستر: السينما العربية غائبة في أمريكا
- -غزال- العراقي يحصد الجائزة الثانية في مسابقة الكاريكاتير ال ...
- الممثل التركي بوراك أوزجيفيت يُنتخب -ملكًا- من معجبيه في روس ...
- المخرج التونسي محمد علي النهدي يخوض -معركة الحياة- في -الجول ...
- سقوط الرواية الطائفية في جريمة زيدل بحمص.. ما الحقيقة؟
- منى زكي تعلّق على الآراء المتباينة حول الإعلان الترويجي لفيل ...
- ما المشاكل الفنية التي تواجهها شركة إيرباص؟


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - مقامة الكتابة بين السراج والسراب