محمد بسام العمري
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 08:49
المحور:
الادارة و الاقتصاد
في أتون التحول الكبير
إن العولمة التي برزت في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي قامت على التجارة المفتوحة، والتدفق الحر لرأس المال، والتكامل الصناعي الدولي، باتت في مراحلها الراهنة تواجه تحدياتٍ جذرية. فقد دخل العالم حقبة تحكمها التكنولوجيا الرقمية، وسياسات القوة الناعمة، والتمويل الجديد، والتحول المناخي، ما يقتضي من دول العالم الثالث أن تعيد صياغة موقعها في النظام العالمي، وليس أن تظل رهينةً للتطورات التي تُقرّرها مراكز القوة الكبرى.
في هذا المقال، أُقسّم المعالجة إلى أربعة محاور كبرى: (1) الإطار العام والتحوّل الهيكلي، (2) الثورة الرقمية والاقتصاد المعرفي، (3) التمويل الدولي والتبعية الجديدة، (4) المناخ والتنمية الخضراء، ثم أتوقف عند الخلاصات الاستراتيجية للتعامل مع هذا الواقع المضطرب.
1. الإطار العام والتحوّل الهيكلي
1.1 مفاهيم التطور والتحول البنيوي
يمثل التحول البنيوي (structural change) الانتقال من قطاعات منخفضة الإنتاجية مثل الزراعة واليد العاملة كثيفة العمالة إلى قطاعات أعلى إنتاجية مثل الصناعة المتقدمة والخدمات المعرفية. وهذا المفهوم ليس جديدًا، لكنه يتغيّر في عمق آلياته في عصر الرقمية والذكاء الاصطناعي. فالتنمية لم تعد فقط بأن تُنتِج أكثر، بل بأن تنتج بذكاء، بأن تضيف قيمة فوق القيمة، وأن تبتكر في سلاسل القيمة العليا.
هناك ارتباط وثيق بين الرقمنة والتحول الهيكلي؛ فقد أثبتت دراسات أن الرقمنة تُغيّر أنماط الإنتاج والوظائف وربط القطاعات بعضها ببعض. (انظر مثلاً “Structural change and digitalization in developing countries”) (Science-dir-ect)
1.2 موازين القوى والتحوّل في النظام الدولي
في العقود الأخيرة، بدأت تظهر مراكز قوة جديدة في الجنوب والشرق، فباتت الدول الصاعدة مثل الصين والهند ودول أفريقيا تتحرك في فضاءات النفوذ العالمية بشكل مستقل إلى حدّ ما عن الهيمنة التقليدية الغربية. تشكيل كتلة “بريكس” وإطلاق مؤسسات تمويلية بديلة يُعدّ تجسيدًا لهذا التحول.
لكن هذا التحول ليس كافياً بطبيعته لاحتواء مخاطر التبعية: فالقوة الحديثة لا تقلل من الأدوار الجيواقتصادية، بل تُغيّرها – من السيطرة بالاستعمار إلى السيطرة بالتمويل، ومن النفوذ العسكري إلى النفوذ التقني والمالي.
2. الثورة الرقمية والاقتصاد المعرفي
2.1 الرقمنة كمتغيّر تحولي
في قلب التحولات الراهنة تقف الرقمنة: إنترنت الأشياء، الذكاء الاصطناعي، البلوكشين، الحوسبة السحابية، تحليل البيانات الكبيرة، كلها أدوات تغير قواعد اللعبة. البلاد التي تؤخّر في بناء البنى التحتية الرقمية أو تأمين المهارات الرقمية ستجد نفسها في ذيل سلسلة التحول.
يُشير البنك الدولي إلى أن تحقيق الوصول الشامل إلى الإنترنت والبنى التحتية الرقمية يعدّ من الركائز الأساسية لدعم الاقتصادات الرقمية، لكن تكلفة بناء هذه البنى تُقدّر بمئات المليارات دولار على مدى العقد المقبل. (Banque Mondiale)
كما أن الفجوة الرقمية تتسع: في الدول الأقل نمواً، نسبة السكان المتصلين بالإنترنت لا تزال في أرقام ضئيلة، مما يهدد بأن تُحرم شرائح واسعة من المزايا التي تمنحها الرقمنة. (انظر تقرير الأمم المتحدة عن الفجوة الرقمية) (United Nations Press)
2.2 تأثير الرقمنة على الوظائف وسلاسل القيمة
أحد أخطر التحديات التي تطرحها الرقمنة هو أتمتة الوظائف التقليدية، خاصة في القطاعات التي اعتمدت الدول النامية عليها كمكاسب تصديرية — مثل النسيج والتجميع الخفيف. فبمجرد أن تصبح الروبوتات والماكينات الذكية أرخص وأكثر كفاءة، تفقد العمالة اليدوية القديمة قيمتها.
في المقابل، قد تمنح الرقمنة قدرات للقفز التقني: من خلال اعتماد نماذج أعمال جديدة، ومنصات مدمجة، وخدمات رقمية تتخطى الحاجز المكاني. دول مثل كينيا استخدمت الهاتف المحمول لقيادة الشمول المالي عبر M-Pesa، مما سمح بجسر الفجوة بين النسبة الكبيرة من السكان الذين لا يملكون حسابات مصرفية رسمية والبنية المالية الرقمية.
ومع ذلك، فإن النجاح في هذه القفزة يتطلّب استثمارات كبيرة في التعليم الرقمي، وتحديث المناهج، وتطوير المهارات المتقدمة، إلى جانب سياسات حماية اجتماعية للقطاعات التي ستتعرض للاختلال في الانتقال الرقمي.
3. التمويل الدولي والتبعية الجديدة
3.1 دين العالم النامي وتضخّم الالتزامات
أصبحت الدول النامية غارقة في تراكم الدين الخارجي، سواء مع مؤسسات مالية دولية أو مع دول صاعدة. في عام 2025، تواجه حوالي 75 دولة من الدول الفقيرة ديونًا ضخمة تُستحق للصين وحدها، بنحو 35 مليار دولار، منها 22 مليار دولار موجهة لتلك الدول الفقيرة. (Al Jazeera)
مشروع الحزام والطريق الصيني يُعدّ من أبرز نماذج التمويل البنية التحتية الضخم، لكن غالبًا ما تُثار تساؤلات حول ما إذا كانت شروط القروض تؤدي إلى تبعية استراتيجية. مثلاً، في سريلانكا، اضطرّت الدولة إلى تأجير ميناء هامبانتوتا للصين لعقود طويلة بعد أن عجزت عن سداد القروض. (Wilson Center)
ومع ذلك، هناك نقاش أكاديمي يشير إلى أن “دبلوماسية الديون” ليست دائمًا خطة محكمة من الدائن، بل تتداخل مع سياسات الحكومات المحلية، الشروط المالية، والمخاطر الاقتصادية. (انظر تحليل “A critical look at Chinese ‘debt-trap diplomacy’”) (ResearchGate)
3.2 مؤسسات التمويل البديل
في مواجهة الهيمنة التقليدية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، سعت دول الجنوب إلى خلق بدائل. من أبرزها بنك التنمية الجديد (New Development Bank) الذي أسسته دول بريكس ليمنح قروضًا بشروط أكثر مرونة وحجم تمويل أكبر للدول النامية. هذا البديل يمثّل تحوّلاً في البناء المؤسساتي للنظام المالي الدولي، رغم أن صلاحيته وتأثيره لا تزال تخضع للتقييم النقدي في الأوساط الأكاديمية.
إضافةً إلى ذلك، بعض الدول الناشئة تحاول تنويع مصادر الاقتراض عبر إصدار سندات دولية، التعاون مع صناديق سيادية، وتفعيل القروض المشتركة الإقليمية، وكلها أدوات تُخفف من ضغط التبعية لشركاء تقليديين.
4. المناخ والتنمية الخضراء
4.1 الأعباء المناخية على الدول النامية
إن الدول التي أقلّ تلويثًا تاريخياً هي الأكثر معاناة من الكوارث المناخية: الفيضانات، الجفاف، التصحر، الأعاصير، وارتفاع مستوى البحار. تقدّر بعض الدراسات أن الدول الجزرية قد تفقد سنويًا من 5 إلى 10٪ من ناتجها المحلي بسبب هذه الكوارث — وهو عبء ينهك الميزانيات ويقتطع من موارد التنمية الأساسية.
ولعلّ من أبرز الأمثلة ما يحدث في دول الكاريبي والمحيط الهادئ الصغيرة، التي تُجبر على تخصيص موارد ضخمة للتكيف والتعافي، بدلًا من استثمارها في التعليم أو البنية التحتية التنموية.
4.2 الفرص الخضراء والتحوّل الطاقي
ورغم التحديات، هناك فرصة ممكنة للدول النامية تُدعى “الاقتصاد الأخضر”. فالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والهيدروجين الأخضر، قد تشكل مصدرًا جديدًا للدخل، بل قد تغيّر خريطة التصدير الدولي.
على سبيل المثال، المغرب استثمر بكثافة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ويخطط لتصدير الطاقة النظيفة إلى أوروبا. كذلك، تسعى جنوب إفريقيا لأن تكون من المنتجين الرئيسيين للهيدروجين الأخضر في القارة.
إذا ما استطاعت الدول النامية استثمار مواردها الطبيعية بحذر، وإنشاء بيئة تشريعية وتنظيمية محفزة للاستثمارات الخضراء، فإنها قد تتحول من مستهلكي الطاقة إلى مورّدين لها، مما يُنتج انقلابًا في موقعها في النظام الاقتصادي العالمي.
5. الخلاصات وتوصيات استراتيجية
من خلال هذا العرض التحليلي، تظهر جملة من الدروس الأساسية التي ينبغي أن تفكر فيها الدول النامية والباحثون:
1. الاعتماد على المعرفة لا التجارة المنخفضة القيمة
لا يكفي أن تُصدّر المواد الخام أو تجميع القطع؛ بل يجب الاستثمار في قطاعات التكنولوجيا، الابتكار، القيمة المضافة، والمحتوى الرقمي.
2. التعليم والمهارات الرقمية أساس الانتقال
ينبغي أن تُركّز سياسات التعليم على المهارات الرقمية، التفكير التحليلي، التصميم، الذكاء الاصطناعي، بدلاً من الاكتفاء بالتدريب التقليدي.
3. تنويع الشراكات التمويلية
لا ينبغي أن تضع الدول جميع بيضها في سلة واحدة (صندوق النقد، البنك الدولي، الدول الكبرى)، بل تنويع مصادر التمويل، وبناء تحالفات إقليمية، وإنشاء آليات مالية جنوبية.
4. إدارة ذكية للديون
القروض ليست عصًا سحرية، بل أدوات يجب استخدامها بحذر. عند الاقتراض، يجب تقييم جدوى المشروع، شروط السداد، المخاطر الجيوسياسية، والتأكد من أن المشروع يولد عائداً حقيقيًا يمكن أن يخدم الدين نفسه.
5. التحول الخضراء ليس رفاهية بل ضرورة استراتيجية
حتى إن الدول اليوم تملك موارد طبيعية مناسبة (الشمس، الرياح)، فإن فاعلية هذا التحول تعتمد على القدرة على التنظيم القانوني، البنية التحتية، والربط بالسوق العالمي.
6. الاستقلال الرقمي والسيطرة على البيانات
في عصر تُصبح فيه البيانات رأس مال، ينبغي أن تمتلك الدول قدرات تنظيمية وتشريعية تمكنها من حماية خصوصية مواطنيها، وضمان أن البيانات تُستخدَم في صالح التنمية الوطنية، وليس تُسلب من قبل كيانات أجنبية.
7. التكامل الإقليمي والتعاون الجنوبي
الدول التي تعمل في عزلة تضعف موقعها التفاوضي. التعاون الإقليمي في البنية التحتية الرقمية، الربط الكهربائي، مشاريع الطاقة المشتركة، والتحالفات الاقتصادية يمكن أن يكوّن مناعة ضد الصدمات العالمية.
إن العالم اليوم لا ينتظر المتلكئين، ولا يفتح الأبواب إلا لمن يعرف مفتاح العصر الجديد. الدول التي تراهن على أن تعيش من الهوامش، أو تعتمد على الركود في الاقتصادات التقليدية، ستجد نفسها تُقرأ يومًا في كتب التاريخ كمجرد تذكيرٍ بما فات.
أما الدول النامية التي تقرّ بأن المستقبل مُنجَز بالفكر والعلم والمبادرة، فلتنهض وتعيد صياغة مكانتها في هذا العالم المتغيّر. ليس في الانتظار من لا يملك رغبة التصنيع المعرفي، ولا في التراجع من لا يكون في قلب المعركة الرقمية.
أخيرًا، أوجه دعوة للباحثين وطلبة الدراسات العليا: إن هذا العصر يحتاج إلى دراسات تحليلية تتجاوز الوصفي، تدمج الأبعاد التقنية والاجتماعية والسياسية، وتبتكر حلولاً مستقبلية. فلتكن كتاباتكم أدوات بناء، لا مجرد تسجيل للأحداث.
#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟