محمد بسام العمري
الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 10:17
المحور:
قضايا ثقافية
(الحلقة الأولى: الجذور، التكوين، والملحمة الأولى للإنسان)
في البدء كانت الأرض كتلةً من نارٍ وماء، تهمس في ظلمة الكون الأولى ككلمةٍ تتردد في صدر شاعرٍ يبحث عن المعنى. ومن بين الشقوق التي تفتحت في جلد الكوكب الوليد، خرجت قارة تشبه المعجزة، تُدعى أفريقيا. لم تكن قطعةً من الجغرافيا وحسب، بل كانت رحمًا أوليًا للوجود، كتابًا مفتوحًا على فصول الخلق، وصفحةً أولى في سيرة الإنسان. هنا مشى الكائن الأول على قدمين، وهنا نطق الصمت بلغاتٍ متعددة قبل أن يعرف العالم معنى الكلمة.
أفريقيا هي البدء، وهي النهاية المؤجلة. فيها تكمن قصة الأرض كلها: من وهج البراكين الأولى إلى الحقول الخضراء الممتدة حول النيل والكونغو والنيجر. لا عجب أن يسميها العلماء "القارة الأم"، فهي التي أنجبت الإنسان كما تنجب الأرض بذرتها الأولى. ففي وادي أومو بإثيوبيا اكتُشفت أقدم أحفورة للإنسان العاقل قبل نحو مئتين وثلاثة وثلاثين ألف عام، وفي طبقات لايتولي في تنزانيا وُجدت آثار أقدام لأشباه البشر الذين مشوا على قدمين قبل ثلاثة ملايين وستمئة ألف سنة. وفي كينيا عُثر على أدوات حجرية تعود إلى ما قبل ثلاثة ملايين عام، أي إلى فجر التقنية الأولى، حيث كان الحجر سيف الإنسان وقلمه ومطرقتَه في آن. هكذا بدأت الملحمة الإنسانية، على ترابٍ أفريقيٍ حارٍ يفيض حياةً وبداءة.
لكنّ أفريقيا لم تكن فقط مهد الإنسان، بل مختبره الأول أيضًا. في سهولها الواسعة وجبالها القديمة تعلّم الإنسان مراقبة النجوم، واستطاب الزراعة، وصاغ موسيقاه الأولى من نبض الأرض. من رحمها خرجت حضاراتٌ كبرى: مصر القديمة، كوش، أكسوم، قرطاجة، وغانا القديمة. كانت هذه الممالك تجسيدًا لفكرةٍ بسيطةٍ وعميقة في آن: أن الجمال يولد من الصبر، وأن الحضارة ليست حجارةً مصفوفة، بل ذاكرةُ أجيالٍ تتناقل النور.
اليوم، وبعد أن طوَّت الأرض آلاف السنين، تقف أفريقيا مجددًا في نقطةٍ تشبه البداية، ولكن بملامح مختلفة. فعدد سكانها تجاوز مليارًا وأربعمئة وسبعين مليون نسمة وفقًا لتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام ٢٠٢٤، أي ما يقارب ثمانية عشر في المئة من سكان الكوكب. ويتوقّع أن يتضاعف العدد ليبلغ مليارين ونصف المليار عام ٢٠٥٠. غير أن اللافت في هذه الأرقام ليس العدد وحده، بل طبيعة هذا التزايد: فستون في المئة من الأفارقة دون الخامسة والعشرين من العمر، ما يجعل القارة الأصغر سنًا والأكثر شبابًا على وجه الأرض. شبابٌ يحمل في عروقه إرث الأجداد وأحلام الغد في آنٍ واحد، بين قسوة الواقع واتساع الأمل.
تبلغ مساحة أفريقيا أكثر من ثلاثين مليون كيلومتر مربع، أي خُمس مساحة اليابسة، وتضم أربعةً وخمسين دولة معترفًا بها. تنطق بأكثر من ألفي لغة ولهجة، بعضها يعود إلى ما قبل التاريخ المكتوب. وهي القارة التي تختزن تحت ترابها أربعين في المئة من الذهب العالمي وتسعين في المئة من الكوبالت وستين في المئة من الماس وثلاثين في المئة من احتياطي النفط والغاز غير المكتشف بعد، حسب دراسة البنك الإفريقي للتنمية لعام ٢٠٢٣. ومع ذلك، يعيش أكثر من أربعمئة وثلاثين مليون إنسان تحت خط الفقر، بأقل من دولارين وربع في اليوم، كما تشير تقارير البنك الدولي لعام ٢٠٢٤.
إنها المفارقة الكبرى: القارة الأغنى بالثروات، والأفقر في التوزيع. قارةٌ تُستنزف منذ قرون باسم التنمية، وتُقهر باسم الحضارة، ومع ذلك لا تزال تقف، مرفوعة الرأس، كأمٍّ عتيقةٍ لا تفقد حنانها مهما اشتد الفقر في بيتها.
وليس الفقر في أفريقيا قدرًا بيولوجيًا، بل نتيجة تاريخٍ طويلٍ من النهب الممنهج والاستغلال الممنهج أيضًا. فمنذ القرن الخامس عشر، حين امتدت أيادي الاستعمار الأوروبي إلى سواحلها، تحولت القارة إلى منجمٍ مفتوحٍ للذهب والعاج والعبيد. ثم توالت القرون والأنظمة، وتغيّرت الأسماء، لكنّ الاستنزاف لم يتوقف. الاستعمار القديم غادر جغرافيًا، لكنه ترك مكانه لاستعمارٍ جديدٍ ناعمٍ وذكي: استعمار الاقتصاد والبيانات والثروات الرقمية.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن أفريقيا اليوم تتحرك، ببطءٍ لكنه بثقة، نحو نهضةٍ جديدة. فالناتج المحلي الإجمالي للقارة بلغ نحو ثلاثة تريليونات ومئة مليار دولار عام ٢٠٢٤، أي ما يعادل اقتصاد ألمانيا تقريبًا. ومع أنّ التفاوت بين دولها شديد، إذ تستحوذ نيجيريا وجنوب أفريقيا على أكثر من أربعين في المئة من الناتج القاري، فإن الحراك الاقتصادي في بقية الدول يشهد تغيرًا ملحوظًا. تقارير صندوق النقد الدولي تؤكد أن معدل النمو في أفريقيا جنوب الصحراء بلغ نحو ٣.٨ في المئة عام ٢٠٢٤، وهو من أعلى المعدلات في العالم بعد آسيا.
وربما كان التحوّل الأبرز هو التحول الرقمي. ففي دراسة حديثة لمعهد "ماكينزي العالمي" عام ٢٠٢٣، وُجد أن عدد مستخدمي الإنترنت في أفريقيا سيتجاوز المليار ومئة مليون شخص بحلول عام ٢٠٣٥، أي أكثر من ضعف العدد الحالي. التجارة الإلكترونية تنمو بنسبة خمسةٍ وثلاثين في المئة سنويًا، وهي النسبة الأعلى عالميًا. الهواتف الذكية أصبحت أداة اقتصادية في القرى قبل المدن، وأضحى المزارع الإفريقي يتلقى بيانات الطقس والأسعار عبر تطبيقٍ رقميٍّ بلغةٍ محليةٍ بسيطة. هذه ليست ثورة تقنية فحسب، بل ولادة جديدة للعقل الأفريقي بعد قرونٍ من التهميش.
لكن في مقابل النهضة الرقمية، تواجه أفريقيا معركةً وجودية ضدّ تغيّر المناخ. فهي تمتلك أكبر الغابات الاستوائية بعد الأمازون، لكنها تفقد سنويًا أكثر من أربعة ملايين هكتار من غطائها النباتي. التصحر يزحف على مساحاتٍ شاسعة في الساحل والقرن الإفريقي، وندرة المياه تهدد حياة ثلاثمئة مليون إنسان بحلول عام ٢٠٣٠. تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ لعام ٢٠٢٣ تحذر من أنّ أفريقيا ستكون القارة الأكثر تضررًا من ارتفاع درجات الحرارة، رغم أنّها تساهم بأقل من أربعة في المئة من الانبعاثات العالمية.
ومع ذلك، فإن الأمل يتجذر من قلب المحنة. فمشاريع الطاقة الشمسية في النيجر وناميبيا ومصر قادرة على توليد أكثر من مئتي غيغاواط من الكهرباء النظيفة خلال العقد المقبل. كما أطلقت دول الساحل مشروع “الحزام الأخضر العظيم”، الذي يمتد على طول ثمانية آلاف كيلومتر من السنغال إلى جيبوتي، لزرع مئة مليون هكتار من الأشجار حتى عام ٢٠٣٥، في محاولةٍ لاستعادة التنفس الأخضر للقارة. هذه ليست مشاريع بيئية فقط، بل صلواتٌ أرضيةٌ لتكفير خطايا الإنسان في حقّ الطبيعة التي أنجبته.
أفريقيا ليست مجرد معطيات إحصائية، إنها كيانٌ رمزيٌّ وروحيٌّ في الذاكرة البشرية. ففيها اختلطت الأسطورة بالعلم، والشعر بالفلسفة، والإنسان بالطبيعة. كان الأفارقة يقولون في أمثالهم القديمة: “حين تفقد الطريق، استمع إلى قلبك، فهو أيضًا من تراب أفريقيا.” تلك الجملة تختصر فلسفة القارة كلها: أن المعرفة ليست عقلًا فقط، بل حسٌّ وذاكرة ووجدان.
إنّ ما يجعل أفريقيا مختلفة عن سواها ليس تنوّعها البيولوجي أو غناها المعدني، بل قدرتها على النهوض بعد كلّ سقوط. ففي وجه الاستعمار قاومت بالروح، وفي وجه الجهل قاومت بالأسطورة والتعليم معًا، وفي وجه الجفاف قاومت بالأغنية والمطر والدعاء. هي القارة التي تعلّم العالم أنّ البقاء لا يعني الحياة فحسب، بل الإصرار على معنى الحياة.
في أعماقها صوتٌ خفيٌّ يشبه ترتيلةً قديمة: “أنا لست القارة المنسية، بل القارة التي تنسى من ظلمها.”
ذلك الصوت هو ما يجعلها تستمر، كأنها تعرف أن المستقبل سيعود إليها يومًا ليطلب منها الصفح والمعرفة. فالعالم الحديث، بكل تقنياته وصوره، يحتاج إلى ما تمتلكه أفريقيا من حكمة الأرض ومرونتها. يحتاج إلى روحها الجمعية التي ترى في الجماعة امتدادًا للذات، لا نفيًا لها.
وحين تنظر إلى خريطة الأرض من الفضاء، ترى أفريقيا في القلب تمامًا، تشبه قلبًا نابضًا في جسدٍ أزرقٍ عظيم. ليست في الأطراف، بل في المركز، كأنها تشير إلى أصل الأشياء ومركز الوجود. وربما لهذا السبب لم يستطع العالم أن يتجاهلها مهما حاول. فكلّ طريقٍ في الجغرافيا ينتهي إلى أفريقيا بطريقةٍ ما، وكلّ سلالةٍ بشريةٍ تحمل في دمها ذرةً من ترابها القديم.
لقد آن للعالم أن يرى أفريقيا كما هي: ليست أرض الذهب الأسود وحده، ولا منجم الكوبالت والماس، بل منبع الوعي الإنساني الأول. من رحمها خرج الإنسان، وبصبرها سيستمر الوجود. إنها ليست قارة تبحث عن مكانها في العالم، بل عالمٌ كاملٌ يبحث عن نفسه فيها.
حين نعيد قراءة التاريخ من جديد، ندرك أن كل قصة نهضةٍ تبدأ من رمادٍ ما، وأن أفريقيا اليوم تكتب فصلها الجديد من بين رمادٍ كثير. رماد الحروب، والفقر، والاحتلال، ولكن أيضًا رماد الخوف. وها هي تشتعل من جديد، لا بلهيب الحرب هذه المرة، بل بنار المعرفة والإرادة.
إنها القارة التي تنهض، القارة التي تعلمنا أن البقاء ليس حظًّا بل قرار، وأنّ الذاكرة ليست عبئًا بل هوية. من سهولها ولدت الخطوة الأولى، ومن جبالها انحدر النهر الأول، ومن ترابها انبثق الإنسان وهو يقول للعالم للمرة الأولى: أنا هنا.
#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟