أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - -غرفة رقم صفر-














المزيد.....

-غرفة رقم صفر-


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 02:48
المحور: الادب والفن
    


كل شيء بدأ حين انتقل كريم إلى تلك المدينة الصغيرة ليشغل وظيفة أرشيفي في مستشفى قديم يقع على مشارف الغابة. كان المستشفى أشبه بمتحف منسي، بأروقة معتمة تنبعث منها رائحة الرطوبة والمُطهّرات القديمة، وسقف تتدلّى منه أنفاس الماضي كالعفن.
في أول يوم، سلّمه المدير مفتاحًا صدئًا وقال له:
«لا تفتح غرفة رقم صفر... حتى لو وجدت مفتاحها بين مفاتيحك.»
ابتسم كريم، ظنًا أن الأمر مزحة للترهيب، كعادة الموظفين القدامى.
لكن الفضول... الفضول مرض لا يُشفى منه، بل هو بداية العدوى.
مرت أيام وهو يعمل في الأرشيف بين ملفات مرضى وموتى، بعضهم بلا أسماء، بعضهم بلا تواريخ خروج... وبعضهم بلا تاريخ دخول. كان يحاول تبرير ذلك بأخطاء التوثيق، أو ربما نظام فوضوي قادم من زمن ما قبل التكنولوجيا.
لكن اسمًا واحدًا تكرر كثيرًا...
"ر.أ"
دون اسم كامل، دون تفاصيل، فقط الأحرف، وبجانبه كلمة واحدة بخط باهت:
"مُراقب".
بدأت الأمور تتغيّر ببطء:
الأصوات التي يسمعها ليلاً في الأرشيف...
الورق الذي يعيد ترتيبه، فيتبعثر مجددًا كأن أحدًا قلبه عمدًا...
وانعكاسه في المرايا... الذي يتأخر نصف ثانية في الحراك.
في إحدى الليالي، وأثناء بحثه عن ملف مفقود، وجد بابًا خلفيًا مغلقًا...
كان أعلاه لوحة نحاسية صغيرة بالكاد تُقرأ، نُقش عليها:
"0"
يده ارتجفت، ولكن المفتاح الصدئ الذي نسيه في جيبه… انزلق من تلقاء نفسه إلى الباب، كأنه دُعي.
الباب انفتح. دون صرير. دون مقاومة.
وراء الباب لم تكن هناك غرفة… بل ممر طويل، معتم، جدرانه مغطاة بملفات سوداء مُرقّمة، وأرضه كأنها من زجاج…
وتحت الزجاج، رأى ما لا يُوصف: ناس نائمون تحت الأرض... يشبهونه. نسخة طبق الأصل منه. عشرات. مئات. كلهم بعيون مفتوحة تحدّق فيه.
وفي نهاية الممر… كرسي. ومصباح يتدلّى فوقه.
وعليه جلس "ر.أ"… أو ربما شخص يشبهه تمامًا.
قال له بصوت رخيم:
"أنت تأخرت. نحن نحاول استبدالك منذ أعوام. كل نسخة فشلت. لكنك… مستقر."
ثم ابتسم.
واختفى.
عندما استدار كريم ليهرب، وجد نفسه في غرفة أرشيفه… لكن الوقت متجمّد. الورق لا يسقط، العقارب لا تتحرك.
وهو… لا ينعكس في المرايا.
الناس تمر من أمامه ولا تراه.
والباب؟
الباب لا يُفتح إلا لمن لم يعد ينتمي للعالم.
غرفة رقم صفر ليست غرفة.
إنها اللحظة التي تنكسر فيها ذاتك، ولا يعود الزمن قادرًا على لملمتك.



مرّت ثلاثة أيام، أو على الأقل هذا ما حاول كريم إقناع نفسه به. في الواقع، الوقت لم يعد مفهومًا داخل المستشفى. الشمس لم تشرق، الليل لا يأتي، الساعة الحائطية في الأرشيف توقفت عند الواحدة وواحد، ولا تزال تدقّ كل دقيقة دون أن تتحرك عقاربها.
كل شيء يبدو مألوفًا، ولكنه منحرف… وكأن المكان يتنفس من تلقاء نفسه. الجدران تُصدر خفقًا بطيئًا، كأنها قلبٌ عملاق.
كريم ظلّ يعمل، أو يتظاهر بالعمل. ولكن لا أحد من الموظفين يرد على كلامه. إنهم يبتسمون أحيانًا، ابتسامات طويلة لا تنتهي، ثم يختفون في ممرات لا تقود إلى أي مكان.
وفي إحدى الليالي، رأى ورقة موضوعة على مكتبه، مكتوبة بخط يده:
"لا تنظر خلفك عندما تسمع اسمي."
الغريب… أنه لا يتذكر أنه كتبها. والأسوأ من ذلك… أنه لا يعرف اسم من كتبها له.
لكن في اللحظة التي قرأ فيها السطر، سمع همسة من خلفه بصوت طفولي:
"كريـم…"
تجمّد.
لم يلتفت.
ظلّ جسده يرتجف، والهمسات تقترب، تتكرر، ولكن بنبرات متعددة. صوت امرأة. صوت رجل. صوت طفل. وكلهم يقولون اسمه ببطء، كمن يذوقه.
أخيرًا، زحف نحو الحائط، وأدار جسده دون أن يدير رأسه، ثم خرج من المكتب.
لكن الممر لم يكن هو الممر المعتاد.
اللوحات تغيّرت. لم تكن طبية. كانت صوره… هو.
صور له نائمًا… باكيًا… يصرخ… عارٍ… يضحك بطريقة مجنونة… وواحدة فقط كانت تظهره وهو يختنق.
في نهاية الممر، وجد مرآة… لكنها لم تعكسه.
بل أظهرت نسخة منه جالسة على الأرض، تبكي وتخمش وجهها.
ووراءها، ظهر ر.أ، الذي لم يعد وجهه بشريًا تمامًا. جلد مشقّق، عين واحدة سوداء، وفم يتكلم دون صوت.
أشار إليه أن يدخل.
وكريم… فعل.

الداخل لم يكن غرفة، بل كان هو نفسه.
ممرات من جلده، أبواب من ذكرياته، وسقف من صمته.
وبينما هو يسير في أعماق "ذاته"، مرّ بغرف كثيرة:
غرفة تحوي جسده وهو رضيع، ملفوف بضمادات كأن النار أكلته.
غرفة فيها والدته تبكي وتقول: "كان يجب ألا نسمّيه كريم... كانوا قد حذرونا."
وغرفة أخيرة فيها مئات النسخ منه، يصرخون في آن واحد:
"أخرجنا من رأسك… نريد أن نعيش!"
سقط على ركبتيه. بدأ يبكي.
لكن دموعه لم تكن ماء… بل أوراق أرشيف محروقة.
وفجأة…
ظهر الباب.
باب خشبي قديم… محفور عليه بالدم:
"الخروج فقط للمفقودين."
مدّ يده، فتحه…

واستفاق كريم في سريره. في شقة صغيرة. في مدينة يعرفها.
ولكن… لا يتذكر كيف عاد. ولا أين كان.
نهض وذهب للمطبخ. وجد على الطاولة ورقة قديمة صفراء مكتوب عليها:
"الانعكاس عاد… ابقَ بعيدًا عن المرايا."
ضحك، ظنًا أنه كابوس.
لكن حين مرّ بجوار المرآة… لم يرَ نفسه.
بل رأى ر.أ… يقول له:
"هذه المرة… لن تخرج."



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التفاعل مع التفاصيل بين الواقعية والرمزية الجمالية
- رحلة في عوالم الأدب الأفريقي: من التراث الشفهي إلى الأدب الم ...
- أدب المرأة الأفريقية: من الهامش إلى المركز وتأثيره في الأدب ...
- الظلّ الأخير
- -حين يتنفس الغياب-
- -الأدب الأفريقي: من إرث الهوية إلى آفاق العالمية-
- -رحلة في عوالم الأدب الأفريقي: من التراث الشفهي إلى الأدب ال ...
- رحلة النشيد والارتعاش
- -قبور تمشي بيننا-
- -أشرعة الروح في ليل المنفى-
- درسٌ في الحساب: بين الأعداد واللّا-نهاية
- سنرو الأدعياء: هجاء قصير في زمن الأدب الزائف
- مفهوم السعادة والشقاء
- مِنْ حِكَمِ الأَجْدَادِ إِلَى الفِكْرِ الفَلْسَفِيِّ الحَدِي ...
- الملل المدرسي بين العوامل النفسية والبيداغوجية: قراءة في الأ ...
- حين يتجلى الجمال في مرآة الأخلاق: بين نيتشه والفكر المعاصر
- السلبيات والحلول الممكنة لمشكلة الملل والتسرب المدرسي
- -المرأة العصبية: بين الحقائق العلمية والافتراضات الاجتماعية-
- من سباحة الأجرام إلى تعاقب الليل والنهار: حوار العقل والقلب ...
- الملل والتسرب المدرسي: قراءة في الأسباب النفسية والاجتماعية ...


المزيد.....




- قصة القلعة الحمراء التي يجري فيها نهر -الجنة-
- زيتون فلسطين.. دليل مرئي للأشجار وزيتها وسكانها
- توم كروز يلقي خطابا مؤثرا بعد تسلّمه جائزة الأوسكار الفخرية ...
- جائزة -الكتاب العربي- تبحث تعزيز التعاون مع مؤسسات ثقافية وأ ...
- تايلور سويفت تتألق بفستان ذهبي من نيكولا جبران في إطلاق ألبو ...
- اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج ...
- حوارية مع سقراط
- موسيقى الـ-راب- العربية.. هل يحافظ -فن الشارع- على وفائه لجذ ...
- الإعلان عن الفائزين بجائزة فلسطين للكتاب 2025 في دورتها الـ1 ...
- اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - -غرفة رقم صفر-