محمد بسام العمري
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 09:33
المحور:
قضايا ثقافية
من استعمار الأرض إلى استعمار الوعي — ولادة العبودية الرقمية
كنتُ يومًا أرضًا تموج بالخصب، تفيض بالحياة كما يفيض النهر بحنينه إلى البحر. كانت الشمس تقبّل جبيني كل صباح، والريح تعبر سهولي كأنها ترتّل صلاةً للحياة.
أنا إفريقيا… القارة التي عاشت أكثر من مرة، وماتت أكثر من مرة، وما زالت تتنفس رغم كل شيء.
منذ أن رُسمت خطوطٌ على جسدي بمداد الحديد والنار، أدركتُ أن العالم لا يريد أن يفهمني، بل أن يمتلكني.
في البدء كان الاستعمار واضحًا كالسيف. كانت السفن تأتي من وراء البحر محمّلةً بالحديد والصلبان والخرائط، تحمل أسماءً من لغاتٍ لا أعرفها، لكنها كانت تعرف كل شبرٍ من دمي. كانوا يرسمون وجهي بخطوط الطمع، ويقسمونني كما يُقسم الميراث بين الورثة. أخذوا مني الذهب والعاج، ثم أخذوا أولادي، ثم علّموني أن أشكرهم لأنهم “أناروا لي الطريق”.
لكن ما لم يدركه الغزاة هو أنّ الأرض تُستعمر مرّة، أما الوعي فيُستعمر إلى الأبد إن نحن غفلنا عنه.
لقد خرجوا من ترابي، لكنهم بقوا في رأسي. زرعوا في تربة عقلي البذرة الأخطر: أن أرى نفسي بعينهم، وأقيس تقدمي بمعاييرهم، وأعتبر اختلافهم عني فضيلة واختلافي عنهم عيبًا.
ثم جاء قرن جديد — القرن الحادي والعشرون — وكنت أظنّ أنه قرن الحرية.
غير أني اكتشفت أن الحرية يمكن أن تُصنع من خيوطٍ غير مرئية.
لم يعودوا بحاجة إلى السلاسل، بل إلى الشاشات.
لم يعودوا يسرقون مناجم الذهب، بل مناجم البيانات.
لم يعودوا يبحثون عن النفط تحت الأرض، بل عن العقول التي تولّد “الذهب الرقمي” من كل نقرةٍ، وكل صورةٍ، وكل نبضةٍ تُسجَّل على الشبكة.
لقد دخلتُ زمنًا جديدًا من الاستعباد — عبودية الوعي.
في الماضي، كانوا يضعون القيود في معاصمي، أما اليوم فقد وضعوها في جيبي، وسمّوها “هاتفًا ذكيًا”.
أصبحتُ أنا، إفريقيا، مصدرًا لا ينضب للمعلومات: كلّ حركة، كلّ رغبة، كلّ عملية شراء، كلّ كلمة تُنطق في الفضاء الرقمي، تُباع وتُشترى في أسواقٍ لا أراها.
الاستعمار القديم كان ينهب الأرض باسم “التنمية”،
أما الاستعمار الجديد فينهب العقول باسم “التواصل”.
في زمن الذهب الأسود، كانت الشركات الكبرى تنصب خيامها في الصحارى؛
وفي زمن الذهب الرقمي، نصبت خوادمها في السحب الإلكترونية، وأحكمت قبضتها على الهواء ذاته.
تخيلوا معي — وأنا إفريقيا التي تتحدث — أن القارة التي كانت بالأمس مستعمَرة بالحديد والنار، أصبحت اليوم مستعمَرة بالكود والخوارزمية.
تلك الخوارزميات التي تقرر ما نراه وما نؤمن به، تُشكّل أذواقنا، توجه أسواقنا، وتتحكم في مصائر انتخاباتنا، وتختار لنا حتى الأغاني التي نسمعها.
هل هذا حرية؟ أم استعمارٌ جديد باسم “الاختيار”؟
لقد تغيّر وجه الإمبراطورية، لكنها لم تختفِ.
كانت بالأمس ترتدي قبعة عسكرية، واليوم ترتدي شعار شركة تكنولوجية.
في القرن العشرين، احتكرت النفط لتُسيطر على الطاقة.
وفي القرن الحادي والعشرين، تحتكر البيانات لتُسيطر على الوعي.
تُشير تقارير البنك الدولي لعام 2024 إلى أن إفريقيا أصبحت أسرع قارات العالم نموًا في عدد مستخدمي الإنترنت، حيث تجاوز العدد 650 مليون مستخدم، أي أكثر من نصف سكانها.
لكن المفارقة أن أكثر من 85% من بيانات هؤلاء المستخدمين تُخزّن وتُحلّل خارج القارة، في مراكز بيانات تابعة لشركات أمريكية وصينية وأوروبية.
أي أننا نعيش في قارة تُنتج المعلومات، لكن لا تملك مفاتيحها.
حتى ثروتي التي ظننتُ أني أملكها — من النفط والمعادن — أصبحت تُدار عبر منصات بيانات عالمية، تحدد الأسعار والإنتاج والاستهلاك بخوارزميات معقّدة.
كل شيء صار رقمًا، حتى الإنسان.
إنه استعمار ناعم، بلا دماء، لكنه أكثر فتكًا من المدافع.
في زمن النفط، كان الاستعمار يسلب الأرض والموارد.
وفي زمن البيانات، يسلب الذاكرة والهوية.
لأن الذاكرة حين تُفهرَس وتُشفَّر وتُباع على شكل بيانات، تفقد روحها الإنسانية.
ولأن الهوية حين تُقاس بالمؤشرات الرقمية، تُختزل إلى مجرد نمط استهلاك.
لكن رغم كل ذلك، لا أزال أتنفس.
ففي كل قرية، في كل مدينة صغيرة، هناك جيل جديد يرفع رأسه نحو المستقبل، يبحث عن معنى جديد للحرية الرقمية.
جيل لم يعد يرى الإنترنت مجرد نافذة للترفيه، بل أداة للتحرر.
جيلٌ يفهم أن التكنولوجيا لا يجب أن تكون قيدًا، بل وعيًا.
ولعل هذا هو ما يخشاه الاستعمار الجديد أكثر من أي شيء آخر: أن أستعيد السيطرة على بياناتي كما استعدتُ يومًا السيطرة على أرضي.
أنا إفريقيا، القارة التي تعرف جيدًا كيف تنهض من الرماد.
تعلمت من تاريخي الطويل أن العبودية لا تبدأ من الحديد، بل من الجهل.
وأن مقاومة الاستعمار لا تكون فقط بالبندقية، بل بالفكرة، وبالبيان، وبالوعي.
وها أنا أكتب من جديد فصلاً جديدًا في معركةٍ أزلية:
معركة الإنسان ضد كل أشكال الهيمنة — القديمة منها والرقمية.
الذهب الأسود والذهب الرقمي — حين تغيّر وجه الإمبراطورية
يقول المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل:
“التاريخ لا يكتب بالحروب وحدها، بل أيضًا بما يختفي تحت الأرض.”
كانت إفريقيا لقرونٍ طويلة جوهر الجغرافيا الاقتصادية للعالم.
من باطنها خرج الذهب والعاج والماس، ثم النفط — الذهب الأسود الذي غيّر موازين القوى في القرن العشرين.
واليوم، تُعيد القارة الدور نفسه في شكلٍ آخر: من باطنها المعرفي تُستخرج البيانات، “الذهب الرقمي” الذي يحكم الاقتصاد العالمي الجديد.
وفقًا لتقرير وكالة الطاقة الدولية (IEA, 2023)، تمتلك إفريقيا حوالي 8% من احتياطي النفط العالمي المؤكد، أي ما يعادل 125 مليار برميل، وقرابة 7.2% من احتياطي الغاز الطبيعي.
إلا أن 70% من هذه الثروات تتركز في خمس دول فقط: نيجيريا، ليبيا، الجزائر، أنغولا، ومصر.
ورغم ذلك، تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن حوالي 80% من أرباح النفط الإفريقي تُحوّل إلى الخارج، عبر عقود امتياز مع شركات متعددة الجنسيات مثل "توتال إنرجي"، "إكسون موبيل"، و"شيل".
إنه شكل من الاستعمار الاقتصادي المقنّع، حيث تُنتج القارة ما لا تستهلك، وتستهلك ما لا تُنتج.
لكن المفارقة الكبرى أنّ الاستعمار لم يعد يقف عند حدود المادة، بل امتد إلى ما هو غير مادي — إلى المعلومة.
فبينما كانت الإمبراطوريات القديمة تُقاتل من أجل النفط والممرات البحرية،
تتنافس اليوم الشركات العملاقة مثل غوغل، ميتا، هواوي، وأمازون على بناء كابلات الإنترنت البحرية التي تربط القارة بالعالم.
تقرير “Statista 2024” يشير إلى أنّ أكثر من 35 كابلًا بحريًا رئيسيًا يمرّ من السواحل الإفريقية، معظمها مملوك لشركات أجنبية.
وبالتالي، من يتحكم في الكابل، يتحكم في تدفق البيانات — أي في شريان الحياة المعاصر.
هذا التحوّل جعل إفريقيا تتحول من “مستعمرة موارد” إلى “مستعمرة بيانات”.
في الماضي، كان الغزاة يستخرجون الذهب من المناجم، واليوم يستخرجون أنماط السلوك من الإنترنت.
كانت الثروات تُحمَّل في السفن، أما اليوم فتنقلها خوادم عملاقة عابرة للقارات.
تغيّر شكل السفينة، ولم تتغيّر الغاية.
تُشير دراسة لجامعة كيب تاون (Cape Town, 2023) إلى أنّ إفريقيا تفقد سنويًا أكثر من 5 مليارات دولار من القيمة المضافة الرقمية بسبب تحكّم الشركات الأجنبية في البنية التحتية للمعلومات.
وتضيف الدراسة أن 98% من عمليات تحليل البيانات الضخمة التي تخص المستخدم الإفريقي تُجرى خارج القارة، ما يعني فقدان السيادة المعرفية.
إنّ أخطر ما في “الاستعمار الرقمي” أنه لا يُدرك بسهولة،
فهو لا يُمارَس بالقوة، بل بالإغراء:
يُغريك بالمنصّات المجانية، ثم يحوّلك إلى منتَج.
يُقدّم لك الخدمة، ثم يسرق أثمن ما تملك — سلوكك ووعيك وتاريخك.
يقول الفيلسوف الكوري بيونغ تشول هان في كتابه مجتمع الشفافية:
“الإنسان في العصر الرقمي لا يُستعبد بالقسر، بل بالانفتاح الطوعي.”
وهذا هو لبّ المأساة الإفريقية الجديدة: أننا دخلنا العالم الرقمي ونحن نستهلكه، لا نصنعه.
نستورد التطبيقات كما استوردنا السلع، ونصدّر البيانات كما كنا نصدّر المواد الخام.
لقد تغيّر الشكل، وبقي الجوهر ذاته.
إن القارة الإفريقية تملك اليوم فرصة نادرة — ربما الأخيرة —
لتعيد كتابة مصيرها في عصر الذكاء الاصطناعي،
وذلك عبر ثلاث ركائز أساسية:
1. السيادة الرقمية: إنشاء مراكز بيانات محلية وقوانين لحماية الخصوصية والبيانات الوطنية.
2. الاقتصاد المعرفي المحلي: الاستثمار في التعليم الرقمي، البرمجة، وريادة الأعمال.
3. الوعي الثقافي والفلسفي بالتكنولوجيا: لأن التقنية ليست محايدة، بل تعبّر عن قيم من صنعها.
من الهيمنة إلى الوعي — مستقبل إفريقيا الرقمي
إن المعركة المقبلة ليست بين الشرق والغرب، بل بين الهيمنة والوعي.
فمن يمتلك الوعي، يمتلك القدرة على إعادة تعريف نفسه خارج معادلات السوق.
ولذلك، فإن إفريقيا التي تستيقظ اليوم من سباتها الرقمي، تحتاج أن تحوّل التكنولوجيا من أداة استهلاك إلى أداة تحرر.
تُشير بيانات “African -union- Digital Report 2024” إلى أنّ القارة ستضمّ بحلول عام 2030 أكثر من 1.1 مليار مستخدم للإنترنت، وأن الاقتصاد الرقمي سيُسهم بما يزيد عن 712 مليار دولار سنويًا في الناتج المحلي الإجمالي.
هذه ليست أرقامًا فقط، بل فرصة حضارية لتجاوز قرونٍ من التبعية.
ولكن الوعي شرط النهضة.
فإن لم نملك رؤية فلسفية للتقنية، سنبقى عبيدًا للأجهزة التي صنعها غيرنا.
كما قال مالك بن نبي:
“المشكلة ليست في استعمار الآخرين لنا، بل في قابلية نفوسنا للاستعمار.”
الاستعمار الجديد لا يزرع أعلامه، بل تطبيقاته.
ولا يرفع جيوشه، بل إشعاراته.
ولن ينتصر عليه سوى من يعرف كيف يُغلق هاتفه ساعة، ويفتح عقله دهراً.
لقد مرّت إفريقيا بثلاث مراحل من الاستعمار:
الأولى جسدية، حين سُرقت أرضها.
الثانية اقتصادية، حين نُهبت مواردها.
والثالثة رقمية، حين يُستباح وعيها.
لكنها، كما في كل مرة، ستنهض.
لأنها القارة التي لم تمت رغم كلّ ما مات فيها.
ستنهض حين تدرك أن البيانات هي نفط القرن الجديد،
وأن من يملك الوعي يملك الوجود.
“من لا يملك تاريخه لا يملك بياناته،
ومن لا يملك بياناته لا يملك وعيه.”
— حكمة إفريقية معاصرة
محمد بسام العمري
________________________________________
المراجع الأكاديمية (مختارة):
• World Bank. (2024). Africa Digital Economy Report.
• International Energy Agency (IEA). (2023). Africa Energy Outlook.
• African -union-. (2024). Digital Transformation Strategy for Africa (2020–2030).
• Cape Town University Research Center. (2023). Data Colonialism in Africa.
• Statista. (2024). Submarine Cables and Internet Penetration in Africa.
• Byung-Chul Han. (2012). The Transparency Society. Stanford University Press.
• Malek Bennabi. (1956). Les Conditions de la Renaissance.
#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟