أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر















المزيد.....

روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8525 - 2025 / 11 / 13 - 02:50
المحور: السياحة والرحلات
    


فيتنام ليست أرضًا تُرى، بل تُحَسّ.
حين تطأ قدماك ترابها، كأنك تدخل في صلاةٍ صامتةٍ مع الطبيعة؛
كأن الجبال تخاطبك بلغةٍ لم تعد تُدرَّس،
والأنهار تهمس بأغنيةٍ من زمنٍ لم يُكتَب بعد.
كل شيء هنا يحمل معنىً مزدوجًا:
الحجرُ حكمة، والماءُ ذاكرة، والريحُ درسٌ في الحرية.
في الصباح، حين يتصاعد الضباب فوق المدرّجات الخضراء،
يبدو المشهد كما لو أن الأرض تحلم بنفسها؛
حلمٌ هادئٌ تُعيد فيه الطبيعة ترتيب علاقتها بالزمن.
هناك، في أعالي سابا، تنزل الغيوم إلى مستوى الأيدي،
فتصبح قابلة للمسّ، كأن السماء قررت أن تنحني لتُصافح الإنسان.
تلك اللحظات ليست مشهدًا جماليًا فحسب،
بل تجربةٌ روحيةٌ كاملة،
يختبر فيها الوعي معنى الاتحاد بين الكائن والمكان.
يقول الحكماء في الشمال الفيتنامي:
"من يشرب ماء النهر ثلاث مرات، يسمع صوته الداخلي بوضوح."
ولعلّهم يقصدون أن من يعيش هنا طويلاً،
يكتشف أن الطبيعة ليست مجرد بيئةٍ خارجية،
بل امتدادٌ للنفس ذاتها.
فيتناميٌّ بسيط يجلس أمام بيته الخشبي،
يصلح شباكه القديمة بهدوء،
وعيناه تتأملان حفيف الأشجار كما لو كان يسمع كلامًا من الغيب.
هو لا يملك فلسفة مكتوبة،
لكنه يعيش فلسفةً منسوجة من الطين والمطر،
يعبّر عنها بفعله اليومي: العمل بصمت، والرضا بلا ادّعاء.
في كل قريةٍ من قرى دلتا الميكونغ،
تجد للروح مكانًا في تفاصيل العيش:
النساء يقدمن الأرز للأرواح قبل الوجبة الأولى،
الرجال يحيّون شروق الشمس بانحناءةٍ خفيفة،
والأطفال يركضون حفاةً في الحقول،
كأنهم أبناء الأرض حقًا، لا ضيوفها.
ليس في الأمر خرافة، بل إدراكٌ عميق لحقيقة الوجود:
أن الإنسان لا يعيش فوق الأرض، بل يعيش معها،
ولا يملكها، بل ينتمي إليها.
البوذية والنهر الداخلي
فيتنام بلدٌ تدين بأغلبها بالبوذية،
لكنها لم تأخذها كعقيدة جامدة،
بل صاغتها من جديد بروحٍ زراعيةٍ متصالحة مع الفصول.
الراهب البوذي في معبده الصغير على ضفة النهر
لا يتحدث عن الخلاص فقط، بل عن الزراعة أيضًا،
عن الوقت المناسب لبذر الحبوب،
وعن حكمة الماء حين يتراجع ليمنح للنبات فرصة التنفس.
إنها بوذيةٌ تنبض بعمقٍ إنسانيٍّ بسيط،
تجعل من التأمل في ورقة شجرةٍ عبادةً،
ومن الاستماع لصوت المطر صلاةً.
وربما لهذا السبب يشعر الزائر أن فيتنام بلدٌ "هادئٌ من الداخل"،
حتى في أكثر لحظاته ازدحامًا.
ففي عمق ضجيج المدن، يظل صوت النهر حاضرًا في الذاكرة الجماعية.
إنه النهر الذي غسل عن البلاد رماد الحروب،
وروى جراحها بالماء بدل الدماء.
منه تعلّم الفيتناميون سرّ اللين الذي لا يُهزم،
كالماء الذي لا يصطدم بل يلتف، لا ينكسر بل يحتضن.
قال أحد شعرائهم القدامى:
“حين تغضب، كن كالنهر:
يتسعُ لكلّ شيء، لكنه لا يحتفظ بالقذارة.”
روح العمل والبساطة
إنّ أجمل ما في فيتنام ليس ما تُنتجه مصانعها،
بل ما تصنعه أيادي ناسها في الصباحات الأولى.
عندما ترى النساء يحملن سلال الزهور في شوارع هانوي،
تشعر أن الجمال هنا عادة يومية، لا ترفًا فنّيًا.
وحين تمرّ على حقول القهوة في المرتفعات الوسطى،
وتشمّ عبقها المختلط بالندى،
تفهم أن هذه البلاد تزرع العمل كما تزرع الأرز:
بحبٍّ وصبرٍ ودأبٍ طويل.
كل شيءٍ هنا يتمّ ببطءٍ عاقل،
كأن الزمان فيتناميٌّ هو الآخر.
ليس في الأمر كسل، بل حكمةٌ عتيقة تقول:
“من يستعجل الحصاد، يفسد الثمر.”
ولذلك تجد فيتنام تتطور بوتيرةٍ هادئة،
لكنها ثابتة، مثل نهرٍ يعرف طريقه إلى البحر دون ضجيج.
في المقاهي الشعبية، حيث يمتزج صوت المروحة بالضحك،
يكتب الشعراء على المناديل الورقية قصائد قصيرة،
ويتركها الزبائن بعد رحيلهم.
وحين تسأل أحدهم لماذا يفعلون ذلك، يجيبك مبتسمًا:
“نترك أثرنا الخفيف، كما يفعل المطر على النافذة.”
الجمال كفعل أخلاقي
إن الجمال في فيتنام ليس زينةً سطحية،
بل شكلٌ من أشكال الأخلاق.
فالمرأة التي ترتب الزهور عند مدخل بيتها
لا تفعل ذلك لتُبهر أحدًا، بل لتحفظ تناغم الكون حولها.
والفنان الذي ينحت تمثال بوذا في الخشب
لا يسعى إلى الشهرة، بل إلى تطهير نفسه من الضوضاء الداخلية.
هذه الروح الجمالية المتصالحة مع الأخلاق
هي ما يمنح المجتمع الفيتنامي ذلك الإيقاع الهادئ المتوازن
الذي نادرًا ما تجده في أماكن أخرى.
حتى أزياؤهم التقليدية — الـآو دَاي —
تبدو كترجمةٍ حسية لفلسفتهم:
بسيطةٌ، انسيابية، بلا زركشةٍ فاضحة،
تحمل أنوثةً رقيقةً تشبه النهر لا العاصفة.
فيها احتشامٌ دون جمود، وجمالٌ دون تصنّع،
وكأن المرأة الفيتنامية تعلن بلباسها
أن الانسجام مع الذات هو أجمل ما يمكن أن ترتديه الروح.
التعايش الديني والثقافي
ورغم اختلاف الديانات والمذاهب،
تعيش فيتنام تناغمًا قلّ نظيره في العالم.
المسجد الصغير بجوار المعبد البوذي،
والكنيسة القديمة تظللها شجرة بانيان ضخمة.
لا أحد يرفع صوته فوق الآخر،
لأن الجميع تعلموا من التاريخ أن الانقسام يهدم،
وأن التعدد يمكن أن يكون ثروةً روحيةً قبل أن يكون اختلافًا.
وحين تسأل الفيتنامي عن إيمانه،
قد يجيبك بابتسامةٍ هادئة:
“أنا أؤمن بالمطر، لأنه ينزل على الجميع.”
عبارةٌ تبدو بسيطة، لكنها تختصر قرونًا من الحكمة،
وحضارةً كاملة تؤمن أن العدالة الكونية تبدأ من الطبيعة،
لا من الدساتير.
وحين تغيب الشمس خلف جبال الشمال،
وتتحول الحقول إلى مرايا تعكس لون الغروب،
تشعر أن فيتنام ليست مجرد بلد،
بل حالة وعيٍ إنسانيٍّ سامٍ،
يتجسّد في علاقتها بالطبيعة، بالزمن، وبالذات.
هنا، المطر ليس مجرد ماء، بل صلاة.
والنهر ليس جغرافيا، بل ذاكرة.
والأرض لا تُحرَث فحسب، بل تُخاطَب ككائنٍ حيٍّ له قلب.
ومن هذا الانسجام تنبثق فيتنام الحديثة،
واثقةً أنها إن عرفت كيف تصون روحها،
فإن جسدها المادي — اقتصادها، عمرانها، تكنولوجيتها —
سيتبعها دون عناء.
وفي هذا التوازن الخارق بين الطين والسماء، بين الإنسان والأسطورة،
تكمن أجمل دروس فيتنام للعالم:
أن التطور لا يكتمل إلا حين تتقدم الروح أولًا.
في الفصل السابع، سنواصل هذه الرحلة عبر المرافئ والمنازل والأسواق،
لنتتبع حكاية الإنسان الفيتنامي وهو يكتب قصيدته اليومية بين الحداثة والتقاليد،
فنرى كيف يعيش الحب، وكيف يفكر في الموت،
وكيف يصنع من كل صباحٍ عاديٍّ عيدًا صغيرًا للحياة.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...
- الإنسان والآلة — من التنافر إلى التكامل دراسة في البدايات ال ...
- -شظايا الحب في عيون القمر-
- الانتكاسة
- -أنثى تتوضأ بالضوء-
- إلى التي كانت نُورَ النصفِ قرن
- -من رحم الشدائد تولد العظمة-
- حينَ تاهَ العُشّاقُ بينَ الزمانِ والحنين
- تاريخ النقد الأدبي والفلسفي في الثقافات العربية والغربية
- أدب الأطفال كوسيلة للتكيف مع التحديات المستقبلية
- -التجريب والاستكشاف: مفتاح الإبداع لدى الأطفال-


المزيد.....




- روبيو يعلق على مساعي تصنيف -الدعم السريع- السودانية كـ-منظمة ...
- القصة الخفية لصعود الأسلحة البيولوجية
- ترامب يرفع دعوى قضائية ضد - بي بي سي-.. وستارمر يعلق
- مجموعة السبع تدعو للسماح بدخول المساعدات إلى غزة
- سنتكوم تكشف حصيلة عملياتها الأخيرة ضد داعش في سوريا
- روبيو يعرب عن تفاؤله بشأن إصدار قرار أممي حول غزة
- النمسا.. اتهام مسؤولين سابقين في نظام الأسد بارتكاب جرائم
- تحذير-نادر- من أمريكا لرعاياها في اليابان بشأن -الدببة-
- عقب العفو عنه بطلب من شتاينماير.. صنصال يصل إلى برلين لتلقي ...
- دراسة: إتقان التحدث بأكثر من لغة يبطئ الشيخوخة


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر