أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد بسام العمري - من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم















المزيد.....

من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8535 - 2025 / 11 / 23 - 09:35
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


في أعماق الطبيعة البشرية، تموج الأحكام وتضطرب المشاعر في محاولة الإنسان لفهم ذاته والآخرين من حوله. وغالبًا ما يجد البشر أنفسهم أمام مفارقة كبيرة: بين العلم الذي يدفعهم للنظر إلى الأخطاء والعيوب بعين التحليل والتدقيق، وبين الحقيقة التي تكشف عن ضعف الإنسان وحاجته إلى الرحمة والتسامح. يلخص المثل الإيطالي "من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم" هذه الفكرة البسيطة، لكنها عميقة المعنى. ويطرح تساؤلاً عن كيفية التعامل مع الآخرين، بين العدل الذي يلتزم بالقوانين ويطبق المعايير الصارمة، وبين الرأفة التي تأخذ في اعتبارها الظروف والتجارب الإنسانية التي تجعل كل فرد عرضة للخطأ.
تدعو الأديان السماوية إلى التسامح والعفو، وتنظر إلى الإنسان على أنه كائن معرض للخطأ بحكم طبيعته، مما يستوجب العذر والتفهم. ففي الإسلام، نجد أن القرآن الكريم يدعو إلى التماس العذر للناس والتمهل في إصدار الأحكام عليهم، حيث يقول الله تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" [الإسراء: 36]، ما يشير إلى ضرورة التروي قبل الحكم على الآخرين، والتحقق من الأمور قبل إدانة أحدهم. ويصف الله الإنسان بالضعف في قوله: "وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" [النساء: 28]، مؤكداً على أننا بحاجة إلى التفاهم والتسامح مع الآخرين بالنظر إلى طبيعتهم البشرية.
كما تحث السنة النبوية على التماس الأعذار للناس وتجنب القسوة في الحكم عليهم، فقد جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "ألتمس لأخيك سبعين عذرًا" (رواه البيهقي في شعب الإيمان). فالنبي يوصي المسلمين بتمهل شديد في الحكم على الآخرين، ويحثهم على إيجاد أعذار للآخرين بدلًا من مقتهم. وفي حديث آخر، يقول النبي: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" (متفق عليه)، في دعوة واضحة لتجنب النظرة الضيقة والمرتبطة بالمظاهر، والتركيز على الرحمة في فهم الناس وتقييم تصرفاتهم.
في المسيحية، نجد رسالة التسامح والمحبة حاضرة بقوة، حيث يقول المسيح عيسى عليه السلام: "لا تدينوا لكي لا تدانوا" (إنجيل متى 7:1)، وهو توجيه يركز على أن الحكم على الآخرين غالبًا ما يكون جائرًا إذا لم يُفهم بعمق. كذلك، يُشدد الإنجيل على أهمية المحبة في التعامل مع الآخرين، حيث جاء في سفر الأمثال: "المحبة تستر كثرة من الذنوب" (أمثال 10:12)، وهو ما يعكس ضرورة التعاطف والرحمة في فهم أخطاء الآخرين، بدلاً من الاقتصار على الحكم القاسي.
الأديان الشرقية، كالبوذية والهندوسية، تنظر إلى التسامح وفهم دوافع الآخرين كجزء أساسي من طريق الإنسان نحو التنوير والصفاء الروحي. فالبوذية، على سبيل المثال، تدعو إلى الشفقة والتسامح باعتبارهما من أسس الطريق إلى النيرفانا. يقول بوذا: "الحقد لن ينتهي بالحقد، وإنما ينتهي بالحب؛ هذه هي الحقيقة الأبدية." وهنا يظهر دور الرحمة في تجاوز الأحكام القاسية وفهم الآخرين على حقيقتهم بعيدًا عن التحيز أو الكراهية.
أما الهندوسية، فتتحدث في كتابها المقدس، البهاغافاد غيتا، عن أهمية رؤية الناس كجزء من الذات الكونية الكبرى، مما يعزز نظرة التعاطف العميق والفهم الواسع للآخرين: "عندما يرى الإنسان الجميع على أنهم جزء من روحه، عندئذٍ ينال السلام الحقيقي." وبهذا، تُعلِّم الهندوسية أن التسامح والنظر بعين التفاهم هما السبيل للوصول إلى التوازن الروحي والفهم الأعمق للآخرين.
الفلاسفة قدموا رؤى مختلفة حول هذا المفهوم، موضحين تعقيد الحكم على الآخرين. الفيلسوف جان جاك روسو، على سبيل المثال، كان يؤمن بأن الإنسان في أصله خير، وأن المجتمع هو الذي يؤثر في سلوكه. وبناءً على هذا، دعا روسو إلى النظر إلى الآخرين بتسامح وتفهم؛ فالبشر بطبيعتهم يتأثرون بظروفهم وبيئتهم، ولذلك لا ينبغي لنا الحكم عليهم من منظور مطلق.
أما الفيلسوف الألماني نيتشه، فقد نادى بفكرة "تجاوز الخير والشر"، مشيرًا إلى أن التصورات الأخلاقية نسبية ومتغيرة، وأن الإنسان الذي يفهم ذلك يكون أكثر تسامحًا وتفهمًا، بدلاً من أن يمقت الآخرين لأخطائهم. كذلك، أرسطو يعتبر أن "معرفة النفس هي بداية الحكمة"، ما يعني أن الإنسان الحكيم يفهم ضعف البشر وأخطائهم، ويدرك أن هذه التجارب جزء من الطبيعة الإنسانية التي لا يجب مقتها بقدر ما يجب فهمها.
الأدباء عبروا عن هذه الفكرة من خلال قصص وشخصيات تجسد التحدي الذي يواجهه الإنسان في فهم الآخرين. الكاتب الروسي ليو تولستوي، في روايته الحرب والسلام، يقدم شخصيات متنوعة تعيش في بيئات معقدة، موضحًا كيف يتأثر سلوكهم بتجاربهم وتحدياتهم، ويدعو القارئ إلى التفهم بدلًا من الحكم. كما يعكس نجيب محفوظ، في رواياته، تعاطفه العميق مع شخصيات تبدو مذنبة، لكنه يعرض تجاربها وظروفها بطريقة تجعل القارئ يتفهم دوافعها.
أما الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، في روايته دون كيخوتي، فيبرز السخرية من الأحكام السطحية التي يطلقها المجتمع على الأفراد، مشيرًا إلى أن الحكمة الحقيقية تكمن في رؤية الخير والخبرة التي قد تختبئ خلف مظهر الجنون أو الضعف.
أظهرت الدراسات الاجتماعية أن الحكم السريع على الآخرين مرتبط بما يسمى "التحيز التأكيدي" (Confirmation Bias)، حيث يميل الأفراد إلى التركيز على الأدلة التي تعزز أحكامهم المسبقة وتجاهل أي معلومات تخالفها. وهذا التحيز قد يؤدي إلى تقييمات قاسية وظالمة. تشير الدراسات الحديثة أيضًا إلى أن الأشخاص الذين يمارسون التسامح ويبتعدون عن الأحكام السريعة يتمتعون بصحة نفسية أفضل وعلاقات اجتماعية أكثر استقرارًا. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2016 أن التسامح يقلل من التوتر ويعزز التواصل الاجتماعي، مما يجعل العلاقات بين الأفراد أكثر صحة وقوة.
إن المثل الإيطالي "من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم" هو دعوة للتسامح والفهم العميق للطبيعة الإنسانية. إنه تذكير بأن الحياة معقدة، وأن الحكم على الآخرين دون فهم دوافعهم وظروفهم قد يكون ظلمًا قاسيًا. من منظور الأديان السماوية، والفلاسفة، والأدباء، والدراسات الاجتماعية، يتضح أن التسامح والتفهم هما السبل لفهم الآخرين حق الفهم. إن العلم قد يكشف لنا العيوب، لكن الحقيقة تدعونا إلى الرحمة والتعاطف، وتجعلنا ندرك أن كل إنسان هو كائن فريد، يحمل في داخله قصته الخاصة التي تستحق أن تُفهم، وليس أن تُدان.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية
- رحلة الروح نحو النور
- حين يتصوّف الأدب الفرنسي: رحلة من الرمز إلى الكشف
- مراثي الكرسي رقم 7
- أنشودة الضوء – إفريقيا التي لا تموت
- غناء الضوء في الغابة العتيقة
- بحيرة مالاوي: مرآة السماء ومهد الأساطير
- حين يؤذّن النور على ضفاف الميكونغ — المسلمون في فيتنام
- نشيد الماء والذاكرة
- روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر
- من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...


المزيد.....




- أوكرانيون عن مخاوفهم بشأن خطة ترامب للسلام: -ستختفي أوكرانيا ...
- استطلاع يكشف مفارقة لافتة في مشهد التعليم الأفريقي
- هيئة البث الإسرائيلية تتحدث عن احتمال شن عملية عسكرية جديدة ...
- إيل بيسغارد تشيرش مستشارة ممداني و-يده اليمنى- في إدارة نيوي ...
- -تراك أيباك-.. مشروع رقابي يكشف تأثير أموال اللوبيات في السي ...
- أحزمة نارية ونسف مبان.. قصف إسرائيلي عنيف على جنوب غزة
- لغز مقتل خنساء.. غرب ليبيا بين جرائم النوع وصراع الميليشيات ...
- فيديو.. هكذا حاول رئيس البرازيل السابق -كسر سوار مراقبته-
- منصات التواصل والصحة العقلية.. هذا ما تحاول -ميتا- إخفاءه
- السعودية.. ترامب ينشر فيديو عن محمد بن سلمان بعد زيارته ويثي ...


المزيد.....

- عملية تنفيذ اللامركزية في الخدمات الصحية: منظور نوعي من السو ... / بندر نوري
- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد بسام العمري - من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم