أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد بسام العمري - من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية














المزيد.....

من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 02:48
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


سوء الظن هو أحد الأمراض الاجتماعية والنفسية التي تفتك بالعلاقات الإنسانية، فهو حاجز منيع بين الأفراد يعمي البصيرة ويشوه الحقائق، ويؤدي إلى بناء جدران من الشك والعداء بين الناس. إن الظن، بمعناه السلبي، هو إحكام العقل على أشياء غير معلومة بدقة، ويأتي غالبًا نتيجة انطباعات سطحية أو أحكام مسبقة أو تأثيرات اجتماعية تفتقر إلى عمق المعرفة أو التحقق. ومن هنا تأتي ضرورة معالجة هذا الموضوع من جوانب فلسفية واجتماعية وأخلاقية، بالاستعانة بشواهد من الأديان السماوية، وأفكار الفلاسفة والشعراء في القديم والحديث.
في القرآن الكريم، يشير الله عز وجل إلى خطورة الظن ويأمر المؤمنين باجتنابه، حيث يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (الحجرات: 12). هنا، يأتي التحذير الإلهي واضحًا وصريحًا، لأن الظن السلبي ينجم عنه إساءة وظلم، ولا يستند إلى حقائق مؤكدة. وفي الحديث النبوي الشريف، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث". يؤكد الحديث على أن الظن، عندما يُستخدم كوسيلة لتقييم الآخرين، يصبح حديثًا كاذبًا، يبعد الإنسان عن الحقيقة ويجعله يسير في طريق الباطل.
وفي أقوال السلف الصالح نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قال: "احمل أخاك المؤمن على سبعين محملًا من الخير فإن لم تجد له مخرجًا فقل لعل له عذرًا لا أعلمه". إن هذا القول هو أروع تجسيدٍ لما يعنيه حسن الظن، ويحثُّ على التماس الأعذار وعدم التسرع في إطلاق الأحكام.
أما التوراة، فقد جاء فيها وصيةٌ مهمة ترتبط بمسألة سوء الظن، إذ ورد فيها: "لا تشهد على قريبك شهادة زور". إن هذا التحذير من الشهادة الكاذبة يُعد درسًا في أهمية العدل والنزاهة، لأن الظن السيء يُحرف الحقائق ويؤدي إلى إطلاق الاتهامات دون برهان.
في الفلسفة البوذية والهندوسية، نجد التركيز على مفهوم "التأمل" و"التنقية الذاتية"، حيث يتم توجيه الإنسان نحو عدم الحكم على الآخرين دون معرفة حقيقية، والتركيز على النفس وتطويرها بدلًا من السقوط في فخ الأحكام السطحية. في البوذية، يُشجع الفرد على أن "يرى الأشياء كما هي" دون أن يكون محاصرًا بالأوهام أو الظنون، لأن التمسك بالظن يؤدي إلى العمى الروحي ويمنع الصفاء الذهني. أما في الهندوسية، فإن الكارما (أي العمل والنتائج المترتبة عليه) تدعو الإنسان إلى التعامل بحذر مع الآخرين، فالسوء الذي يُرتكب تجاههم سيرتد إلى مرتكبه.
من الناحية الاجتماعية، يؤدي سوء الظن إلى خلق فجوات واسعة في المجتمع، فهو يجعل الناس أكثر تباعدًا وأقل استعدادًا للتعاون، ويساهم في تشكيل صور سلبية تعتمد على الانطباعات الأولى أو الصور النمطية. في الدراسات الاجتماعية الحديثة، وُجد أن سوء الظن يعزز من انتشار التمييز والعنصرية، حيث أثبتت دراسة من جامعة هارفارد أن الظنون السلبية بين الجماعات المختلفة تؤدي إلى تصاعد الأزمات والصراعات، ويزداد العداء بين الأطراف بدلًا من التعاون. وبما أن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، فإن اعتماد الظن كأساس للتعامل قد يهدد السلم الاجتماعي والاستقرار.
ينبثق من عمق الفلسفة الأخلاقية مفهوم العدل الذي يقتضي الحكم على الآخرين بالحق، لا بالظن. قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت: "الإنسان هو غاية في ذاته، وليس وسيلة". هذا المبدأ يعبر عن ضرورة النظر للآخرين باعتبارهم كائنات ذاتية لا يجوز الحكم عليهم من خلال منظورٍ ظني، لأن ذلك يخل بكرامتهم الإنسانية.
كذلك نجد أن أرسطو قد اعتبر في كتاب "الأخلاق" أن الفضيلة تقوم على التوازن، وأن الحكم الظني يفقد التوازن العقلي الذي يجب أن يسود في اتخاذ الأحكام. إن الحكم بالظن يعتبر ضربًا من الظلم الذي يضر بمفهوم العدالة، وهو جوهر الفضيلة في فلسفة أرسطو، حيث أن العدالة تقتضي التروي والتحقق، وليس الاستناد إلى الظنون أو الأحكام المسبقة.
ومن الأدباء، كتب الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي في "المثنوي" عن ضرورة "البصيرة" التي تتجاوز الظاهر، حيث يقول: "ما تراه الأعين يضل، ولكن ما تراه البصيرة لا يضل أبدًا". ويعني هنا أن العين البشرية قد تخدع، بينما البصيرة الداخلية هي التي ترى الحقيقة على ما هي عليه، وتُبعد الإنسان عن الشكوك والأوهام.
أما في الأدب العربي، فقد عبّر الشاعر إيليا أبو ماضي عن خطورة الظن السيء في قصيدته "الطلاسم"، حيث تساءل عن معنى الحياة وحث على عدم الحكم على الناس من خلال المظاهر الظاهرة فقط، بل برؤية أعمق للجوهر الإنساني.
أشارت الدراسات الأكاديمية إلى أهمية "التفكير النقدي" كبديل لسوء الظن، فالإنسان عندما يعتمد التفكير النقدي، يصبح أكثر قدرةً على التحليل المنطقي ويقلل من الاعتماد على الانطباعات السطحية. إن الشك البنّاء، الذي يدعمه الفلاسفة كديكارت في قوله "أنا أشك إذن أنا أفكر"، يمثل بديلًا عقلانيًا يتطلب التحقق وليس الاتهام العشوائي.
في ضوء ذلك، يتضح أن سوء الظن هو تحدٍ أخلاقي واجتماعي يستدعي التأمل والانضباط الذاتي، فالأديان السماوية والفلسفات المختلفة، وكذلك الأدب والشعر، يوجهوننا نحو حكم عادل ومتزن. والحقيقة أن الإنسان كلما أعمل عقله وتجنب التسرع في إصدار الأحكام، اقترب أكثر من تحقيق العدل الذي يجمع بين القيم الأخلاقية والدينية والفكرية. اللهم اجعلنا من الذين لا يحكمون بالظن ولا يغفلون عن نور الحق، وارزقنا القدرة على التمييز بين الخير والشر، وقوة الصمت حينما لا نعلم اليقين، وهمة السعي خلف الحقيقة في كل حين.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة الروح نحو النور
- حين يتصوّف الأدب الفرنسي: رحلة من الرمز إلى الكشف
- مراثي الكرسي رقم 7
- أنشودة الضوء – إفريقيا التي لا تموت
- غناء الضوء في الغابة العتيقة
- بحيرة مالاوي: مرآة السماء ومهد الأساطير
- حين يؤذّن النور على ضفاف الميكونغ — المسلمون في فيتنام
- نشيد الماء والذاكرة
- روح فيتنام — حين يتكلم القلب بلغة المطر
- من طين الحقول إلى مرايا الزجاج — فيتنام بين الهوية والحداثة
- بين ترف التأويل وتيه المعنى: قراءة في نقد لامية عويسات لنصّ ...
- حين تنهض الأرض من رمادها
- حيث تتكلم الأرض بلغة الماء
- ألف عام من الصبر تاريخ فيتنام ومعنى الحرية
- بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...
- الإنسان والآلة — من التنافر إلى التكامل دراسة في البدايات ال ...


المزيد.....




- الجيش الأمريكي ينفذ -أكبر استعراض للقوة- قرب فنزويلا قبل أيا ...
- انتقادات واسعة لدراسة في فرنسا حول واقع المسلمين في البلاد.. ...
- -مذكرات سجين-.. ساركوزي يستعد لنشر كتابه عن أيامه العشرين ور ...
- نيجيريا ـ خطف 227 تلميذا ومعلما على الأقل من مدرسة كاثوليكية ...
- كيف تتأثر مفاوضات الصيد بين المغرب والاتحاد الأوروبي بقرار م ...
- ما بدائل زيلينسكي أمام الضغط الأمريكي والروسي؟
- بين الأمل والخداع.. كيف يتلاعب المحتالون بمشاعر ذوي المفقودي ...
- بعد تراشق.. ترامب يشيد بعمدة نيويورك المنتخب وممداني يتطلع ل ...
- تصريحات -مفاجئة- في أول لقاء بين ترامب وزهران ممداني بعد شهو ...
- عقوبات أوروبية على مسؤولين عن السجون الروسية على خلفية وفاة ...


المزيد.....

- عملية تنفيذ اللامركزية في الخدمات الصحية: منظور نوعي من السو ... / بندر نوري
- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - محمد بسام العمري - من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية