أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - النيجر: قلب الصحراء الذي يمشي بين ضوءين














المزيد.....

النيجر: قلب الصحراء الذي يمشي بين ضوءين


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 02:59
المحور: السياحة والرحلات
    


في قلب القارة، حيث تتقاطع الرمال مع خطوط القبائل، وتختلط الأزمنة القديمة بالحاضر المتعب، تمتدّ النيجر كأنها فكرة منسية من كتاب الجغرافيا، أو صفحة سقطت من سجل القوافل التي كانت تربط تمبكتو بطرابلس، وغاو ببحيرة تشاد. بلدٌ بلا بحر، لكنه مفتوح على كل الجهات بحدود أطول من صبر الصحراء نفسها، تحوطه الجزائر وليبيا وتشاد ونيجيريا وبنين وبوركينا فاسو ومالي، في تماس جغرافي يصنع منه مفترق طرق إفريقيا الداخلية.
هنا، يصبح الرمل هو اللغة الأم، والكثبان هي الأرخبيل الحقيقي، والواحات نقاط الضوء التي تتشبّث بالحياة كما تتشبث القصيدة بجملةٍ أخيرة.
النيجر ليست صحارى فقط، وإن كان ثلثا أرضها ينتميان إلى الصحراء الكبرى، لكنها أيضًا نهرٌ أخضر يشق البلاد اسمه النيجر، يعطيها اسمها ورئتيها معًا. على ضفافه تقوم نيامي، العاصمة التي تتوزع بين ضوء النهر وحرارة السهول، مدينة نشأت من قرية صغيرة ثم تمددت كأنها تحاول الإمساك بماء الزمن قبل أن يتبخر.
التاريخ هنا متعدّد مثل خيوط الملح فوق جلد الأرض. فمن الشمال، حيث الطوارق يعبرون الوديان الحجرية لجبال آير، تشعر أنك تدخل جغرافيا أسطورية؛ جبال تشبه متحفًا مفتوحًا لنقوش بشرية مضى عليها آلاف السنين، وأوديتُها كانت مسارًا للقوافل البدائية التي حملت الملح والذهب، وحملت معها أساطير ما تزال تتردد في غناء الإيمزاد.
ومن الشرق، يصعد وجدان قبائل الكانوري الذين جعلوا حوض بحيرة تشاد مركز مملكة كانم-برنو، واحدة من أطول الدول الإفريقية عمرًا، والتي امتد سلطانها إلى ما وراء حدود الحاضر.
أما الجنوب، فقد كان عالم الهوسا الذين شيّدوا مدنًا من الطين الأحمر، مثل زيندر ومارادي، مدن تشبه الحلم إذا نظر إليها المرء من الأعلى: مربعات هندسية، وأسواق تفور بالحركة، ومساجد طينية لا تزال تحتفظ ببصمة العمران السوداني الساحلي.
في هذه المدن وُلدت صنعة النحاس والدباغة والجلود، تلك الحرف التي عبرت القرون وتحولت إلى جزء من هوية النيجر، كما تحول صوت الطبل الإفريقي إلى جزء من الإيقاع الروحي للبلد.
النيجر فقيرة بمدنها، غنية بأرضها؛ بلد يملك أحد أكبر احتياطات اليورانيوم في العالم، لكنه يعيش مفارقة العنوان: ثراءٌ مدفون لا ينعكس على حياة الناس. من مناجم أرليت وآغاديز تتدفق شحنات اليورانيوم إلى دول كبرى، أبرزها فرنسا التي يمثل لها هذا المعدن شريانًا حيويًا لمحطاتها النووية، فيما تبقى مدن الشمال تعيش على هامش الزمن.
وهذه المفارقة بين غنى الأرض وفقر البشر صنعت سردية النيجر الحديثة: بلد يمشي دائمًا بين ضوءين… ضوءٌ يمتلكه، وظلامٌ يُفرض عليه.
أما الطبيعة، فهي منحت النيجر جمالًا قاسيًا يُشبه لوحةً رسمتها الريح. إلى جانب جبال آير يقف هضاب تينيري، الصحراء التي سمّاها الطوارق "أرض العطش"؛ مساحة لا تنتهي من الرمال البيضاء والصفراء، وفي قلبها شجرة "تينيري" الشهيرة التي كانت تُعدّ أبعد شجرة وحيدة في الصحراء قبل أن تقتلها شاحنة بالخطأ، وكأنما أرادت الصحراء أن تقول للبشر إنّ الوحدة ليست شيئًا يمكن العبث به.
في المخيال الشعبي، تُروى آلاف الحكايات عن الجنّ في الكهوف، وعن التائهين الذين يظهرون في الليالي العاصفة، وعن رجال زرقة العين الذين لا يشيخون. وللنيجر موسيقاها الخاصة، تجمع بين ناي الطوارق، وإيقاعات السونغاي، وأغاني الهوسا المتواترة في الاحتفالات، موسيقى تجعل القارئ يشعر أن الرمال نفسها تتحرك.
في الأدب، لم تنل النيجر حظها من العالمية، لكن كتاباتها الشفوية، خاصة شعر الطوارق وملحمة السونغاي، تمنحها مكانة فريدة. وفي السينما، تنتمي النيجر إلى الموجة الإفريقية الأولى، وبرز منها المخرج العظيم عثمان سيمبين الذي جعل إفريقيا تُحكي من داخلها لا من عيون الآخرين.
اقتصاديًا، يعتمد البلد على الزراعة البدائية على ضفاف النهر، وعلى تربية الماشية، وعلى اليورانيوم. لكنه يعيش اليوم تحديات الانقلابات، وعدم الاستقرار، وتغير المناخ الذي يهدد الحزام الزراعي القليل أصلاً. ومع ذلك، يبقى شعب النيجر من أكثر شعوب إفريقيا تمسكًا بالأمل؛ يزرعون في الرمل، ويبتسمون للصعاب، ويغنون حتى حين لا يكون هناك ما يستحق الغناء له.
النيجر ليست بلدًا يُقرأ في كتب الجغرافيا، بل بلدٌ يُعاش ببطء.
بلدٌ يقول للقارئ:
إنّ الصحراء ليست خلوًّا، بل امتلاءٌ من نوع آخر؛ امتلاءٌ بالأثر، وبالأصوات المخفية، وبالذاكرة التي لم تجد بعد من يكتبها كاملة.
وأنت، حين تكمل هذا الفصل، تدرك أنّ رحلتك في الصحراء الإفريقية الكبرى أصبحت أعمق… وأن النيجر، رغم صمتها، هي القلب الذي يحتفظ بضربات الرمل كلها.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- – ليبيا: الأرض التي تمتدّ من زرقة المتوسط إلى قلب الصحراء ال ...
- مالي: المملكة التي مشت فوق الذهب، ونامت على ضفاف النيجر، وظل ...
- موريتانيا: بلاد البيضان والمحيط والرمل الذي يتكلّم
- الجزائر: أنغام الماضي، إبداعات الحاضر، ونكهات الحياة
- الجزائر: الطبيعة الصامتة، الصحراء الذهبية، وواحات الحياة
- الجزائر: أنفاس الإبداع وروح الجمال
- الجزائر: وجه البحر، ذاكرة الجبال، وأنفاس المدن التي لا تنام
- – الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى
- الطلاق كدرس… الرحلة نحو الوعي والحكمة
- بعد الانفصال… أثر الطلاق على قلب الإنسان ومستقبله
- العائلة والمجتمع بين الانفصال والوحدة
- الأطفال بين شظايا الحب
- حين يتحول الحب إلى صمت
- غويانا الفرنسية – نهاية الحوض وبداية الرحلة الجديدة
- : فنزويلا – الأنهار المتقاطعة ومرتفعات غويانا
- : الإكوادور – نقطة التقاء خط الاستواء مع الغابة
- بوليفيا – حيث تتصارع الهضاب والمناخات
- كولومبيا – الغابة التي تحرس أسرارها
- البرازيل – قلب الحوض، عندما يصبح الوطن نهراً
- حين يبدأ النهر بالهمس… وتستيقظ الأرض من الماء


المزيد.....




- فيديو كيف استقبل ترامب رفات الجنديين المقتولين بكمين داعش في ...
- بعد تعهد ترامب بالانتقام لهجوم سوريا.. الجيش الأمريكي ينشر س ...
- سوريا.. أول تعليق رسمي على وقف مجلس الشيوخ قانون قيصر كاملا ...
- ما هي الخطوات الـ 4 لتجنب نوبات غضب الأطفال في عيد الميلاد؟ ...
- كأس العرب: طموح أردني بلقب أول، وسعي مغربي لمواصلة سجل الإنج ...
- 4 قتلى في ضربة أميركية على سفينة في الهادئ وفنزويلا تطلب اجت ...
- أديلسون تعيد جدل ولاية ترامب الثالثة بعرض تبرع سخي
- ترامب: أوقفت 8 حروب.. ولدينا أقوى جيش في العالم
- بعد إشادة زيلينسكي.. محادثات أميركية روسية بشأن أوكرانيا
- -أكبر صفقة غاز في تاريخ إسرائيل-.. هل تمهد للقاء بين نتنياهو ...


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - النيجر: قلب الصحراء الذي يمشي بين ضوءين