أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - الجزائر: وجه البحر، ذاكرة الجبال، وأنفاس المدن التي لا تنام














المزيد.....

الجزائر: وجه البحر، ذاكرة الجبال، وأنفاس المدن التي لا تنام


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 02:21
المحور: السياحة والرحلات
    


إذا كانت الصحراء هي قلب الجزائر العميق، فإن مدن الشمال هي وجهها الذي يراه العالم: وجهٌ محفورٌ على الصخر البحري منذ آلاف السنين، مُضاءٌ بمصابيح حضاراتٍ مرّت ثم بقيت آثارها كأنها توقيعٌ على باب الزمن. هنا، تمتدّ الجزائر كعقدٍ من مدنٍ واحدةٌ تشبه الأندلس، وأخرى تشبه روما، وثالثة تحمل ملامح العثمانيين، ورابعة تُنسب إلى البحر لا إلى الأرض. وتظلّ هذه المدن جميعًا، رغم اختلافها، متّصلة بخيطٍ واحد: أنها تشبه الجزائر وحدها.
تبدأ الحكاية من القصبة، المدينة التي تصعد فوق البحر كأنها نَفَسٌ حجريّ يحاول الإمساك بالسماء. القصبة ليست حيًّا عاديًا، بل مدينة عمودية تحاول أن تجمع ما بين العمارة العثمانية، والنَفَس الأندلسي، وروائح البحر، وصوت النحاس يُطرق في الأزقة الضيقة. كانت القصبة ذات يوم عاصمة لدولة بحرية قويّة، تهابها أوروبا، وتمنحها السفن الأوروبية خراجًا حتى لا تتعرّض لأساطيلها. في أزقتها، تنسى التقسيمات الحديثة للزمن، لأن كل حجر فيها يشبه صفحة من كتاب لا يمكن إغلاقه. إنها ليست معلمًا فقط، بل جذع الذاكرة الجزائرية كلها.
ومن القصبة، يميل المسافر نحو الغرب، إلى تلمسان، تلك المدينة التي تشبه حديقة أندلسية نبتت في المغرب الأوسط. هنا، يعانق التاريخ الموسيقى، وتتعانق الأقواس والقباب، وتنساب نغمات الموشحات كأنها مياه تنبع من الحجارة. تلمسان ليست مدينة عابرة، بل نقطة التقاء ثلاث حضارات: الأمازيغية، الأندلسية، والعربية الإسلامية. وفيها صُنعت واحدة من أرقى مدارس الموسيقى في العالم العربي: الغرناطي، موسيقىٌ تحمل حزن الأندلس، ولذة المدن التي لم تنسَ أنها كانت جسرًا بين الشرق والغرب.
وإذا اتجه المسافر شرقًا، يعثر على مدينة لا تشبه غيرها: قسنطينة، “مدينة الجسور المعلّقة”، التي علّقت نفسها فوق وادٍ عميق كأنها تستحي أن تلمس الأرض كثيرًا. قسنطينة ليست موقعًا جغرافيًا، بل رواية جيولوجية؛ مدينةٌ خرجت من كهف، وتحولت إلى قلعة، ثم صارت شاهدة على فصولٍ كاملة من التاريخ. هنا عاش ابن باديس، وهنا كتبت روح الإصلاح فصولها، وهنا عزفت “المالوف” نغمتها الثقيلة التي تشبه الزمن حين يتحوّل إلى موسيقى.
وبين الشرق والغرب، تمتد بجاية، المدينة التي كانت يومًا “مصباح أوروبا”. في القرن الثاني عشر، كانت بجاية مركزًا عالميًا للعلم، يقصده الطلاب من كل مكان، ومنه أخذ الأوروبيون الحساب العشري، والرياضيات، وفنون البحر. إنها مدينة يلتقي فيها البحر بالغابة، والصخور بالشلالات، وكأنها تقترح على العالم وجهًا لا يعرف كيف يكون واحدًا فقط.
وعلى بعد قليل، تقف جيجل، مدينة تتدلّى من الجبال إلى البحر كأنها تريد أن تلمس كل الجهات في وقت واحد. هنا، يتحول الأخضر إلى أزرق دون مقدمة، وتصبح الجزائر لوحةً كاملة الألوان: كهوف، شواطئ، ودروبٌ جبلية توصل إلى قممٍ تطلّ على ماءٍ لا ينتهي. جيجل ليست مدينة هادئة، بل أنشودة طبيعية تنطوي على سرّ خاص لا يفهمه سوى من عاشها.
وعلى حافة الغرب، تنبض وهران، المدينة التي لم تتوقف عن الرقص منذ ولدت. وهران ليست مدينة موسيقى فقط، بل مدينة مزاج: خليط من العمارة الإسبانية، والذائقة الفرنسية، والنبض الإفريقي، والروح الجزائرية التي تعيد اختراع نفسها كل يوم. هنا، وُلد الراي، لا كفنّ غنائي عابر، بل كصرخة جيلٍ كامل أراد أن يكتب حياته دون وصاية. وهران تحبّ الضوء والضجيج، لكن في أعماقها، ثمة حزن نبيل يشبه المدن التي تعرف قيمتها.
ومن الغرب إلى الوسط، تفتح الجزائر ذراعيها نحو تيبازة، المدينة التي أحبها ألبير كامو، وقال عنها إنها “شمس تمشي على قدمين”. هنا، تختلط آثار الرومان بآثار الفينيقيين، وتتسلّق أشجار الزيتون جدران الماضي، وتجعل من المكان نصًا مفتوحًا على جمال لا يمكن تفسيره.
لكن المدن ليست كل شيء…
فعلى طول الساحل والداخل، تمتد جبال الأطلس التلي، مثل سلسلة من الهضاب الخضراء والصخور الحمراء. في تلك الجبال تعيش قرى بربرية قديمة، تتقن صناعة الفخار، وحياكة الزرابي، وتربية الأرض كأنها جزء من الأسرة. وفي أعماق هذه الجغرافيا المزروعة بالأغاني، نشأت أروع التقاليد الشفوية: من “الأهلال” إلى “العيطة”، ومن الشعر الملحون إلى الحكايات التي لا تزال تُروى في ليالي الشتاء.
ولا تكتمل الجزائر دون سكانها: ذلك الخليط العجيب من الطوارق، والشاوية، والقبائل، والزواوة، والأمازيغ، والعرب، وأحفاد البحّارة والأندلسيين، والبدو الذين حملوا معهم قصائدهم قبل أن يحملوا سيوفهم. هذا التنوع لم يذُب، ولم يتحوّل إلى صراع، لأنه كان دائمًا نسيجًا طبيعيًا لأرض واسعةٍ بما يكفي للجميع.
وهكذا، حين تُقرأ الجزائر من جهة مدنها وسواحلها وجبالها، تبدو كأنها بلدٌ صنعه البحر وصقلته الجبال ووسّعته الصحراء. بلدٌ يملك ثلاثة وجوه: وجهًا يحدّق في المتوسط، وجهًا ينام على الرمل، ووجهًا يستند إلى الجبال. لكن كل هذه الوجوه، حين تلتقي، تصنع جزائر واحدة: تلك التي لا تشبه غيرها، وتعرف كيف تحافظ على نفسها رغم كثرة الذين حاولوا أن يكتبوا تاريخها نيابة عنها.
وهكذا تكتمل الحلقة الثانية…
على وعدٍ بحلقة ثالثة أكثر عمقًا، عن:
الجزائر في الفنون، الإبداع، الطبخ، المخيال الشعبي، الأدب، السينما، أو العلاقات الخارجية.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- – الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى
- الطلاق كدرس… الرحلة نحو الوعي والحكمة
- بعد الانفصال… أثر الطلاق على قلب الإنسان ومستقبله
- العائلة والمجتمع بين الانفصال والوحدة
- الأطفال بين شظايا الحب
- حين يتحول الحب إلى صمت
- غويانا الفرنسية – نهاية الحوض وبداية الرحلة الجديدة
- : فنزويلا – الأنهار المتقاطعة ومرتفعات غويانا
- : الإكوادور – نقطة التقاء خط الاستواء مع الغابة
- بوليفيا – حيث تتصارع الهضاب والمناخات
- كولومبيا – الغابة التي تحرس أسرارها
- البرازيل – قلب الحوض، عندما يصبح الوطن نهراً
- حين يبدأ النهر بالهمس… وتستيقظ الأرض من الماء
- «حين يُصغي القلب إلى حكمة الكون»
- علمني حبك سيدتي أن أحزن وأنا محتاج منذ عصور لامرأة تجعلني أح ...
- رحلة النفس الإنسانية بين الصراع والسلام الداخلي: من النفس ال ...
- من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيق ...
- من وهم الظنون إلى يقين الحقائق: نظرة أخلاقية وفكرية
- رحلة الروح نحو النور
- حين يتصوّف الأدب الفرنسي: رحلة من الرمز إلى الكشف


المزيد.....




- إنفانتينو أمام شكوى لدى محققي أخلاقيات -الفيفا- بسبب جائزة ا ...
- مسؤول أميركي يتحدث للجزيرة عن مفاوضات المرحلة الثانية بغزة و ...
- ترامب ينتقد حكومات أوروبية: -قادة ضعفاء ودول تتدهور-
- الملياردير أندريه بابيش يؤدي اليمين الدستورية كرئيس وزراء ال ...
- غوتيريش يندد بإحالة -الحوثيين- موظفين أمميين إلى محكمة خاصة ...
- بعد تحركات -الانتقالي الجنوبي-ـ هل بات تشظي اليمن قاب قوسين؟ ...
- قمر اصطناعي فرنسي صيني يرصد وميضا كونيا هائلا يعود إلى 13 مل ...
- غزة مباشر.. قصف ونسف بالقطاع وحديث أميركي عن تقدم بمباحثات ا ...
- احتدام الجدل بشأن الخطة الأميركية لإنهاء حرب أوكرانيا
- أديس أبابا.. دعوات للسلام والعدالة بيوم التضامن مع فلسطين


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - الجزائر: وجه البحر، ذاكرة الجبال، وأنفاس المدن التي لا تنام