أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - موريتانيا: بلاد البيضان والمحيط والرمل الذي يتكلّم














المزيد.....

موريتانيا: بلاد البيضان والمحيط والرمل الذي يتكلّم


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 02:52
المحور: السياحة والرحلات
    


موريتانيا… ذلك الامتداد الرملي الذي يشبه صفحةً منسية من كتاب قديم، كلما قلبت فيها وجدتها تتنفسُ هدوءًا غريبًا، كأنها بلاد خُلقت على مهل، على مقاس خطّ الأفق. دولةٌ تتكئ على المحيط الأطلسي بكتفٍ ممتدّ بطولٍ يقارب السبعمئة كيلومتر، تطلّ على بحرٍ متقلّب الملامح، يشتدّ حينًا ويغدو طريقًا للأساطير حينًا آخر، بينما يدير ظهره لصحراءٍ تتوغّل بلا انتهاء في عمق القارة. هنا يلتقي الماء المالح بملوحة الرمال، وتنشأ علاقةٌ سرّية بين زرقة الأطلسي وصفرةٍ لا تحدّها العين.
ولم تكن هذه السواحل يومًا عابرةً في التاريخ؛ فقد كانت محطّ أنظار بعثات أوروبية كثيرة، فرنسية وبرتغالية وبريطانية، مرّت عليها في القرون الماضية لأغراض التجارة والاستكشاف، تحاول أن تفهم هذا الشريط الغامض من الساحل الذي بدا كأنه نهاية العالم القديم وبداية عالمٍ آخر. لكن موريتانيا ظلّت، رغم مرورهم، أرضًا مستقلة في روحها، لا تنتمي إلا لنفسها ولأهلها، وللصحراء التي صنعت طباعهم وعاداتهم وسلّم قيمهم.
وهي واحدة من البلدان التي تحتضن الصحراء الإفريقية الكبرى في جزءٍ واسع من جسدها، ذلك الامتداد الأسطوري الذي يضم الجزائر ومالي والنيجر وتشاد وليبيا ومصر والسودان، وتشاركهم موريتانيا هذا العمق الصحراوي بروحٍ تخلو من التكلّف؛ إذ لا تزال الكثبان تنتقل فيها كما تنتقل الصفحات في كتاب الريح. في الشمال تبرز آدرار، تلك الهضاب القديمة التي تحتوي مدنًا عتيقة مثل وادان وشنقيط — مدن كُتبت على حجارتها قرونٌ من العلم والفقه والرحلات والمخطوطات. وشنقيط تحديدًا ليست مدينة فحسب؛ إنها كلمةٌ صارت مرادفًا لرحلة الحجيج في التاريخ الإسلامي، وصارت لقبًا يطلق على أهل البلاد أنفسهم: الشناقطة، أهل العلم الذين حملوا كتبهم على ظهور الجمال من المحيط إلى الحجاز.
وحين تدخل نواكشوط، العاصمة الشابة التي وُلدت من بين الرمال بعد الاستقلال بقليل، تشعر كأن الصحراء ما زالت تهمس في أذنيها، فهي مدينة بلا مبالغات، تعرف أن بداياتها كانت خيامًا، وأن هواءها يحمل أخلاق البداوة حتى في قلب العمران. شوارعها واسعة، فسيحة، كأنها ممرّات في صحراء مفتوحة، لا تضيق بسهولة ولا تزدحم إلا على مهل.
وليس بعيدًا عن البحر، تمتدّ الحياة في نواذيبو، المدينة الثانية في البلاد، بوّابة الأطلسي وموطن الصيد وكنوز المياه العميقة، حيث يخرج الرجال كل صباح إلى زرقةٍ لا يمكن التنبؤ بها، وفي المساء يعودون بقصص أكثر من عودتهم بشباك ممتلئة. هنا تختلط رائحة السمك بملح الأمواج وبالحكايات القادمة من موريتانيا الداخلية، لتصبح المدينة خليطًا بحريًا–صحراويًا لا يشبه أي مكان آخر.
وفي الشرق والجنوب، يصبح اللون الأخضر أكثر حضورًا قرب نهر السنغال، الذي يشكّل شريانًا من الحياة بين بلدين، ويمنح موريتانيا مزارع صغيرة، وواحات تحتضن أشجار النخيل كأنها صورٌ ملونة في كتاب أحادي اللون. وفي ولايات مثل الترارزة والبراكنة ولعصابة والحوضين، تجد القبائل تمارس حياتها كما فعلت منذ قرون: احترامٌ للضيف، أصوات عربية ممزوجة بحسانية رخيمة، وخيول رشيقة تعطسُ في وجه الريح كأنها جزء من القصيدة التي لم تُكتب بعد.
أما الثقافة الموريتانية فهي عالمٌ آخر؛ موسيقى "أزوان" بعودها الخفيف وإيقاعاتها الممدودة، والبيوت المنسوجة بالأشعار، والنساء اللواتي يلبسن الملحفة بألوانٍ تجعل الصحراء أقل قسوة، وأكثر رِقّة. والمخيال الشعبي هنا يصنع أساطيره الخاصة: الجنّ الذي يسكن أعماق الكثبان، القوافل التي لا تزال تُرى ليلاً رغم انقراضها منذ زمن، حكايات الأولياء الذين يمشون في الرمل دون أن تتبعهم آثار.
وموريتانيا بلد الشعر أولًا، بلد القصيدة الشفهية التي تُقال في الخيمة أكثر مما تُكتب في الكتب، بلد البدو الذين جعلوا من اللغة حصانًا ومن البيان سلاحًا ومن العروض دستورًا. هنا يُمكن لرجل أن يرتجل بيتين من الشعر أفضل مما يكتب شاعرٌ محترف في مدينة كبيرة. لذلك لم يكن غريبًا أن يقولوا عنها "بلد المليون شاعر".
ومع ذلك، فهي ليست تاريخًا فقط؛ إنها دولة تحاول رسم حاضرها، تبحث عن مكانها بين جيرانها، وتبني علاقات سياسية هادئة تعتمد على التوازن والوساطات، وقد لعبت أكثر من مرة دور الوسيط في أزمات إفريقية ودولية، مستفيدةً من موقعها الوسطي بين شمال القارة وغربها.
موريتانيا… تلك البلاد التي تجمع بين ماء الأطلسي ورمل الصحراء، بين ذاكرة المدن القديمة وضجيج المدن الجديدة، بين الشعر والملح، بين الخيمة والميناء، بلدٌ يشبه لحظة بين غروبَين: غروبِ البحر الأزرق، وغروبِ الشمس على كثيبٍ ذهبي لا ينتهي.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزائر: أنغام الماضي، إبداعات الحاضر، ونكهات الحياة
- الجزائر: الطبيعة الصامتة، الصحراء الذهبية، وواحات الحياة
- الجزائر: أنفاس الإبداع وروح الجمال
- الجزائر: وجه البحر، ذاكرة الجبال، وأنفاس المدن التي لا تنام
- – الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى
- الطلاق كدرس… الرحلة نحو الوعي والحكمة
- بعد الانفصال… أثر الطلاق على قلب الإنسان ومستقبله
- العائلة والمجتمع بين الانفصال والوحدة
- الأطفال بين شظايا الحب
- حين يتحول الحب إلى صمت
- غويانا الفرنسية – نهاية الحوض وبداية الرحلة الجديدة
- : فنزويلا – الأنهار المتقاطعة ومرتفعات غويانا
- : الإكوادور – نقطة التقاء خط الاستواء مع الغابة
- بوليفيا – حيث تتصارع الهضاب والمناخات
- كولومبيا – الغابة التي تحرس أسرارها
- البرازيل – قلب الحوض، عندما يصبح الوطن نهراً
- حين يبدأ النهر بالهمس… وتستيقظ الأرض من الماء
- «حين يُصغي القلب إلى حكمة الكون»
- علمني حبك سيدتي أن أحزن وأنا محتاج منذ عصور لامرأة تجعلني أح ...
- رحلة النفس الإنسانية بين الصراع والسلام الداخلي: من النفس ال ...


المزيد.....




- مقتل شخصين وإصابة آخرين في إطلاق نار بجامعة براون الأمريكية، ...
- الداخلية السورية تكشف معلومات عن منفذ هجوم تدمر الدامي
- سقوط قتيلين وجرحى في إطلاق نار بجامعة أميركية
- من هو رائد سعد القيادي في -حماس- الذي أعلنت إسرائيل اغتياله؟ ...
- ألمانيا تحبط مخططا -إرهابيا- لمهاجمة سوق لعيد الميلاد
- قتيلان و8 مصابين في إطلاق نار جامعة براون الأمريكية.. وترامب ...
- ما قصة -الشموسة- التي أدت إلى سلسلة وفيات اختناق داخل منازل ...
- سوريا.. تفاصيل تتكشف عن هجوم تدمر والقوات الأميركية تعزز انت ...
- إطلاق نار في جامعة أميركية.. وأنباء عن سقوط جرحى وقتيلين
- الأردن: تحركات رسمية بعد ارتفاع الوفيات بمدافىء محليّة وإغلا ...


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - موريتانيا: بلاد البيضان والمحيط والرمل الذي يتكلّم