أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - مالي: المملكة التي مشت فوق الذهب، ونامت على ضفاف النيجر، وظلّت روح الصحراء التي لا تُقهر














المزيد.....

مالي: المملكة التي مشت فوق الذهب، ونامت على ضفاف النيجر، وظلّت روح الصحراء التي لا تُقهر


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 02:57
المحور: السياحة والرحلات
    



مالي… ليست دولة عادية على خريطة الصحراء الكبرى؛ بل هي كتابٌ عظيمٌ من خمسة فصول: نهرٌ يتلو آيات الحياة، صحراء تكتب قصائد الرمل، ممالك تعبر القرون كالخيول الجامحة، مدنٌ وُلدت من التجارة والملح والذهب، وشعوبٌ صنعت موسيقى تشبه دقات القلب الأول للبشرية. إذا كانت الجزائر هي كتف الصحراء، وموريتانيا لسانها، فإن مالي هي قلبها. قلب يضخّ التاريخ في عروق إفريقيا منذ أكثر من ألف عام.
هنا، في هذا الامتداد اللامتناهي من السهول والسافانا والصحراء، وُلدت ثلاثٌ من أكبر إمبراطوريات إفريقيا: إمبراطورية غانا، إمبراطورية مالي، و إمبراطورية صنغاي. لم تكن ممالك صغيرة؛ كانت دولًا عظمى بحدود تمتدّ من المحيط الأطلسي حتى نهر النيجر، تتحكّم في تجارة الذهب والملح والعاج والعبور الصحراوي. وقد ذكرها المؤرخون العرب — من المسعودي إلى ابن خلدون — كأنهم يتحدثون عن عالم آخر، عالمٍ لا يشبه الروايات، بل يسبقها.
إن الطريق إلى مالي يبدأ غالبًا من الصحراء الجزائرية؛ من تمنراست التي تعانق هواء آدرار إيفوغاس، تلك السلسلة الجبلية الساحرة التي تتداخل بين الجزائر ومالي وتشاد، وتُعد واحدة من أغرب المشاهد الجيولوجية في إفريقيا. وعندما تعبر الحدود، تدخل عالم الطوارق — الرجال الزرق — الذين يصبغهم النيلي، ويعرفون رائحة الدروب أكثر مما يعرفون رائحة بيوتهم. إنهم الحراس غير المرئيين للصحراء، يُرشدون القوافل، ويحفظون أسرار الكثبان، ويحملون لغة التمشّق التي تحدّثت بها الرمال قرونًا قبل أن تعرف المدن الكتابة.
ثم، ما إن تواصل المسير جنوبًا حتى يتغيّر وجه البلاد. الصحراء، التي كانت ملكة المكان، تتراجع خطوة بعد خطوة، وتظهر السافانا، وتعلو أشجارٌ قصيرة تحب المطر، وتبدأ رائحة النيجر — النهر العظيم — في الاقتراب. والنهر في مالي ليس مجرد ماء؛ إنّه المحور الذي دارت حوله الحياة كلها: الزراعة، التجارة، المدن، الأساطير، الممالك، وحتى الفلسفة الشعبية. لقد بنى عليه الإنسان المالي مدينة تمبكتو التي صارت لقرون ضوءًا يسطع في قلب إفريقيا.
تمبكتو… جوهرة الصحراء، المدينة التي ظنّها الأوروبيون أسطورة، لكثرة ما سمعوا عن ذهبها ومخطوطاتها ومدارسها. مدينة عربها الطوارق، وعمّرها العلماء، وكتب فيها الفقهاء كتبًا لا تزال محفوظة: آلاف المخطوطات في الرياضيات والفلك والنحو والتصوف والطب، بعضها أقدم من الكثير من مكتبات أوروبا. كانت المدينة محطةً رئيسية في طريق القوافل بين المغرب وتمبكتو والنيجر، وكانت أحيانًا أغنى من ملوك أوروبا أنفسهم.
لكن مالي لا تُختصر في تمبكتو وحدها. هناك غاو، العاصمة السابقة لإمبراطورية صنغاي، ومنها خرج أقوى جيوش غرب إفريقيا في القرن الخامس عشر. وهناك جينيه، المدينة التي تفتخر بواحدة من أعجب بنايات العالم: الجامع الكبير المبني بالطين، وهو معجزة هندسية تقاوم المطر والحرارة منذ 700 سنة. أما سيغو، فهي مدينة الماء والقصب، موطن الفنون، مدينةٌ يتداخل فيها التاريخ مع الموسيقى، والسياسة مع الأساطير.
وفي الجنوب، تزداد البلاد خصوبةً وخضرة. تتجاور قبائل البامبارا والبول والسنغاي والمالينكي، كلٌّ بلغته ورقصاته وطبوله، لكنهم يجتمعون في حبّ الأرض ونهرها. في مهرجاناتهم، تتحوّل الموسيقى إلى شيء يشبه دقات الكون نفسه؛ صوت الطبل عندهم ليس مجرد إيقاع، إنه نبض الأرض.
ولأن مالي كانت دومًا مفترق طرقٍ للتجارة، فقد عرف أهلها العربية منذ قرون، وتواصلوا مع القيروان وفاس ودرعة وتوات وتمبكتو كأنها مدن من وطن واحد. لذلك ازدهرت الفقهية فيها، وكان علماؤها يجلسون في حلقاتٍ مع علماء الجزائر وموريتانيا. وكان الحجّ رحلةً تمتدّ من الصحراء الكبرى إلى مكة عبر القوافل، رحلة تبدأ من غاو مرورًا بتمنراست وورقلة وبسكرة ثم تونس أو طرابلس، ومن البحر إلى مصر والجزيرة.
ثم هناك شخصية لا يمكن المرور دون ذكرها: مانسا موسى، أعظم ملوك مالي، الرجل الذي غيّر اقتصاد العالم في رحلته إلى الحج سنة 1324. خرج من البلاد بموكب ضخم، يوزّع الذهب في طريقه بسخاءٍ لم تكن له سابقة، حتى انهارت أسعار الذهب في القاهرة لسنوات بسبب كرمه. وقد ترك آثارًا معمارية وتعليمية في العودة، فبنَى مساجد ومدارس، وموّل العلماء، وجعل من مالي قوةً عالمية.
ورغم التاريخ العظيم، لم تكن مالي محصّنة من التقلبات. الاستعمار الفرنسي دخلها بعد سقوط ممالكها الكبرى، وربطها إداريًا بجيرانها في غرب إفريقيا. وحين نالت استقلالها سنة 1960، حاولت بناء دولة حديثة، لكن جغرافيتها الواسعة — التي تشكل الصحراء ثلثيها — جعلتها بلدًا شديد الحساسية للأزمات.
ومع ذلك، ظلّ التراث المالي أقوى من كل شيء. فالموسيقى فيها اليوم عالمية: من البلوز المالي الذي يُقال إنه أصل البلوز الأمريكي، إلى صوت علي فاركا توري، وساليف كيتا، وأمادو ومريم، وتيناروين. هذه البلاد أنتجت موسيقى تشبه سحر الرمال حين تهبّ عليها الرياح الشرقية.
والطبيعة فيها تتغيّر كل طبقة: صحراء شمالية بلا نهاية، سلاسل آدرار الشاهقة، سهول النيجر الخصبة، غابات شبة استوائية في الجنوب. كما تضم مواقع تراثية عالمية مثل بندغارا، "منحدر الكلاب" الذي يضم ثقافة الدوغون العجيبة، شعبٌ بنى بيوتًا معلّقة على الجبال، واحتفظ بأساطيرٍ مرتبطة بالكون والنجوم ما زالت تُدهش علماء الأنثروبولوجيا.
مالي… ذلك البلد الذي يستطيع أن يكون صحراويًا مئة بالمئة، وفي اللحظة نفسها نهرًا، وغابة، ومملكة، وأغنية. بلدٌ يبدو كأنه وُضع في مكانه ليقول إن إفريقيا ليست فقيرة ولا ضعيفة؛ بل غنية إلى حدّ يجعل التاريخ عاجزًا عن اللحاق بها.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موريتانيا: بلاد البيضان والمحيط والرمل الذي يتكلّم
- الجزائر: أنغام الماضي، إبداعات الحاضر، ونكهات الحياة
- الجزائر: الطبيعة الصامتة، الصحراء الذهبية، وواحات الحياة
- الجزائر: أنفاس الإبداع وروح الجمال
- الجزائر: وجه البحر، ذاكرة الجبال، وأنفاس المدن التي لا تنام
- – الجزائر: القلب العميق للصحراء الكبرى
- الطلاق كدرس… الرحلة نحو الوعي والحكمة
- بعد الانفصال… أثر الطلاق على قلب الإنسان ومستقبله
- العائلة والمجتمع بين الانفصال والوحدة
- الأطفال بين شظايا الحب
- حين يتحول الحب إلى صمت
- غويانا الفرنسية – نهاية الحوض وبداية الرحلة الجديدة
- : فنزويلا – الأنهار المتقاطعة ومرتفعات غويانا
- : الإكوادور – نقطة التقاء خط الاستواء مع الغابة
- بوليفيا – حيث تتصارع الهضاب والمناخات
- كولومبيا – الغابة التي تحرس أسرارها
- البرازيل – قلب الحوض، عندما يصبح الوطن نهراً
- حين يبدأ النهر بالهمس… وتستيقظ الأرض من الماء
- «حين يُصغي القلب إلى حكمة الكون»
- علمني حبك سيدتي أن أحزن وأنا محتاج منذ عصور لامرأة تجعلني أح ...


المزيد.....




- انتحار العسكريين الأوكرانيين يحرمهم من كل أشكال التكريم والح ...
- هجوم روسي على زابوريجيا يسفر عن إصابة 29 شخصًا بينهم أطفال
- -عدالة أم تصفية حسابات؟-: موالٍ لحركة -ماغا- يوسّع تحقيقًا ي ...
- عبارة ترامب الشهيرة: ماذا تعني وما دلالاتها؟
- تقرير: -الدعم السريع- دمرت وأخفت أدلة على عمليات قتل جماعي و ...
- -رجل في مواجهة طفل-: مستر -بين- يعود في دور لا يجيده أحد غير ...
- فرنسا: ترجيح فرضية التدخل الأجنبي إثر العثور على نظام للتحكم ...
- نشر طائرات -غراولر- يعزز الخيار العسكري الأميركي ضد فنزويلا ...
- حكم بالإقامة الجبرية لطبيب متورط بوفاة نجم -فريندز- ماثيو بي ...
- المنخفض الجوي في غزة يسقط 15 منزلا خلال أيام قليلة


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - مالي: المملكة التي مشت فوق الذهب، ونامت على ضفاف النيجر، وظلّت روح الصحراء التي لا تُقهر