حيدر صادق صاحب
كاتب وشاعر شعبي
(Haider Sadeq Sahib)
الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 23:19
المحور:
الفساد الإداري والمالي
ساد الصمت في القاعة المزدحمة حيث وقف الرجل العجوز يرتدي عباءة بالية تتحدث ثناياها عن سنوات طويلة من الانتظار تحت شمس لا ترحم وجهه محفور بتقاسيم الفقر والحرمان مثل خارطة جغرافية لوطن يعاني يتطلع بعينين غائرتين الى الحضور ويقول بصوت أجش نحن بلد يجلس على بحر من النفط لكن أولادنا يموتون من المرض والجوع كيف وصلنا الى هنا متى تحين لحظة الخلاص كيف ننهض من تحت ركام هذا الدمار ان العراق اليوم يعيش في قبضة معضلة اقتصادية خانقة تكاد تخنق أنفاس أبنائه وتسرق مستقبل أجياله اقتصاد يعاني من وهن عميق ومن تشوهات هيكلية مزمنة جعلته يرزح لعقود تحت وطأة الاعتماد شبه الكلي على مورد واحد متقلب هو النفط مما حول البلاد من سلة غذاء للعالم الى دولة مستوردة لكل شيء حتى حبات القمح والتمور التي كانت يوما تتوج عرش صادراتها ان هذه الازمة ليست قدرا محتوما ولا نقمة الهية بل هي نتاج تراكمات سياسية واقتصادية وادارية وسياسات خاطئة أعاقت بناء دولة مؤسسات قادرة على استغلال الثروة البشرية والمادية الهائلة التي يمتلكها العراق ويحتاج الخروج من هذه الازمة الى جرأة تاريخية وارادة سياسية حقيقية وفهما عميقا لجذور العلل وتخطيطا استراتيجيا شاملا يضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل الاعتبارات الضيقة
تشخيص الواقع الاقتصادي العراقي جذور الأزمة
ان الحديث عن الاقتصاد العراقي لا يمكن فصله عن مساره التاريخي الذي شهد تحولات جذرية وعنيفة ابتداء من حقبة الريع النفطي المبكر مرورا بحروب مدمرة وحصار اقتصادي طويل ثم احتلال وسنوات من الفوضى والعنف الطائفي ووصولا الى مرحلة ما بعد داعش حيث تعددت التحديات وتشابكت في اقتصاد يعاني من خلل بنيوي عميق يتمثل أولا في الطبيعة الاحادية لمصادر الدخل حيث تشكل عائدات النفط ما يزيد عن تسعين بالمئة من موازنة الدولة وأكثر من خمسة وتسعين بالمئة من إيراداتها من العملة الصعبة مما يجعل الاقتصاد العراقي رهينة لتقلبات سوق النفط العالمية التي تخضع لعوامل جيوسياسية معقدة وكثيرا ما تكون غير مستقرة ان هذه الاحادية حوّلت الدولة الى ما يشبه الشركة النفطية الكبرى التي توزع عائداتها عبر الرواتب والوظائف والمنافع مستندة الى اقتصاد ريعي استهلاكي وغير منتج مما أدى الى تضخم هائل في القطاع العام الذي يستوعب نسبة كبيرة من القوى العاملة بينما يبقى القطاع الخاص مشلولا ومهمشا وغير قادر على خلق فرص عمل حقيقية أو المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بشكل فاعل
وثانيا يعاني القطاع النفطي نفسه من مشاكل بنيوية حيث ان عمليات الاستخراج والتكرير لا تزال دون الطموح وبعضها يعتمد على تقنيات قديمة كما ان شبكة التصدير معرضة للخطر بسبب العوامل السياسية والأمنية اضافة الى ان العائدات النفطية تخضع لآلية محاسبية ومالية معقدة وغير شفافة في كثير من الأحيان مما يفتح الباب أمام الهدر والفساد المالي والإداري الذي أصبح سرطانا ينخر في جسد الاقتصاد الوطني حيث تشير تقديرات دولية الى هروب مليارات الدولارات من ثروات العراق الى جيوب فاسدين ومتنفذين داخل النظام السياسي وخارجه مما حرم البلاد من فرص استثمار حقيقية في البنى التحتية والخدمات.
وثالثا ان الصناعة والزراعة وهما عماد أي اقتصاد متنوع قد تكاد تكونان غائبتين عن المشهد الاقتصادي الفعلي فالصناعات العراقية التي كانت مزدهرة في سبعينيات القرن الماضي دمرت بسبب الحروب والعقوبات والإهمال وفتح الحدود أمام السلع المستوردة الرخيصة دون ضوابط مما أفقد المنتج المحلي قدرته على المنافسة وتحول العراق الى سوق استهلاكية لمنتجات الدول المجاورة والعالم بينما تحولت الأراضي الزراعية الخصبة الى صحارى جرداء بسبب شح المياه وسوء إدارتها وتغير المناخ وهجرة الفلاحين الى المدن وانهيار مشاريع الري والتجهيز الزراعي وغياب الدعم والرعاية الحكومية الحقيقية.
ورابعا ان البطالة وخاصة بين الشباب الخريجين تصل الى نسب مخيفة تقترب في بعض المحافظات من ثلاثين بالمئة أو تزيد مما يخلق حالة من الاحباط واليأس ويغذي ظواهر اجتماعية خطيرة مثل الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية والتطرف كما ان الفقر متعدد الأبعاد ينتشر في أوساط المجتمع حيث تعاني شريحة كبيرة من العراقيين من نقص في الدخل والخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه الصالحة للشرب والصرف الصحي والتعليم الجيد والرعاية الصحية المتكاملة حتى في المدن الكبرى ناهيك عن الأرياف والمناطق النائية
وخامسا ان النظام المصرفي العراقي يعاني من ضعف وهشاشة شديدة حيث لا يزال يعتمد بشكل كبير على التعامل النقدي ويواجه صعوبات في الاندماج مع النظام المصرفي العالمي بسبب مشاكل تتعلق بالامتثال والشفافية كما ان القروض الممنوحة للقطاع الخاص محدودة للغاية وشروطها قاسية مما يحد من قدرة رجال الأعمال والمستثمرين على تنفيذ مشاريع منتجة وتنموية
وسادسا ان البنى التحتية من طرق وجسور وموانئ ومطارات وشبكات اتصالات ومحطات لتوليد الطاقة الكهربائية تعاني من تدمير كبير وتدهور حاد نتيجة السنوات الطويلة من الحرب والإهمال وعدم الاستثمار الكافي مما يشكل عقبة كأداء أمام أي تنمية اقتصادية حقيقية ويرفع تكاليف الإنتاج ويحد من جاذبية العراق كوجهة استثمارية
وسابعا ان البيئة التشريعية والمؤسسية مليئة بالتعقيدات والروتين والفساد مما يعرقل انشاء المشاريع ويطرد رأس المال المحلي والأجنبي حيث تحتل العراق مرتبة متدنية في مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال والتنافسية العالمية
وثامنا ان التأثيرات السلبية للتغير المناخي تهدد القطاعات الحيوية مثل الزراعة والمياه وتزيد من حدة التصحر والجفاف مما يفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
رؤية نحو الخروج مقترحات عملية وشاملة
ان معالجة هذه الإشكاليات الهيكلية تتطلب إرادة جماعية وبرنامجا وطنيا طموحا متعدد الأبعاد يتحول فيه النفط من لعنة إلى نعمة حقيقية ومن محرك وحيد للاقتصاد إلى محفز لبناء قاعدة اقتصادية متنوعة ومستدامة قادرة على توفير حياة كريمة للعراقيين وضمان مستقبل الأجيال القادمة انه مشروع نهضة حقيقي يتطلب خطوات جادة ومتتالية على عدة مستويات
أولا على مستوى السياسات الاقتصادية الكلية
تنويع مصادر الدخل القومي وهو الهدف الاستراتيجي الأهم وذلك من خلال خطة عشرية أو خمس عشرية طموحة تهدف إلى تقليل اعتماد الموازنة على النفط بشكل تدريجي إلى نسبة لا تزيد عن خمسين بالمئة خلال عشر سنوات وذلك عبر تنمية القطاعات الإنتاجية الأخرى الزراعة الصناعة السياحة التكنولوجيا
إصلاح نظام إدارة العائدات النفطية بإنشاء صندوق سيادي عراقي على غرار الصناديق السيادية الناجحة في العالم يتم تمويله بنسبة محددة من العائدات النفطية وتوظيف مدخراته باستثمارات آمنة ومتنوعة عالميا بحيث يكون درعا واقيا للاقتصاد من تقلبات أسعار النفط وموردا لتمويل المشاريع التنموية الكبرى للأجيال القادمة مع ضمان الشفافية المطلقة في إدارته وخضوعه للمساءلة البرلمانية والمجتمعية
إصلاح السياسة المالية والنقدية وذلك بمراجعة هيكل الإنفاق الحكومي للحد من الهدر وترشيد دعم المواد غير الأساسية وتوجيه الدعم نحو الفئات الفقيرة والحقيقية المحتاجة مع تبني سياسة ضريبية عادلة تحفز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية وتعزز العدالة الاجتماعية كذلك استقلالية البنك المركزي ودعم سياسات مالية تحافظ على استقرار سعر الصرف وتكافح التضخم
تفعيل دور القطاع الخاص وجعله محورا رئيسيا في عملية التنمية من خلال تقديم حزمة من الحوافز والتسهيلات تشمل إقراضا ميسرا وإعفاءات ضريبية مؤقتة للمشاريع الجديدة في القطاعات الإنتاجية وتبسيط إجراءات منح التراخيص وتأمين البنى التحتية اللازمة وحماية المستثمر من المنافسة غير العادلة للواردات
ثانيا على مستوى القطاعات الإنتاجية
إطلاق برنامج وطني لإحياء القطاع الزراعي باعتباره قضية أمن قومي وذلك بمعالجة أزمة المياه عبر التفاوض الجاد مع الدول المتشاطئة وبناء السدود الاستراتيجية وتحديث نظم الري وتشجيع الزراعة الحديثة والتقنيات التي توفر في استهلاك المياه وتقديم دعم حقيقي للمزارع من خلال توفير البذور المحسنة والأسمدة والآليات بأسعار مدعومة وضمان شراء المحاصيل الاستراتيجية بأسعار تشجيعية وإنشاء معامل التصنيع الغذائي المرتبطة بالمناطق الزراعية
إعادة بناء القطاع الصناعي وذلك بالتركيز أولاً على الصناعات الاستخراجية المرتبطة بالنفط والغاز مثل البتروكيماويات والأسمدة التي تمتلك لها العراق مقومات هائلة وإقامة مناطق صناعية متكاملة بالقرب من مصادر الطاقة وتوفيرها بأسعار تشجيعية للصناع الوطنيين كذلك إحياء الصناعات الخفيفة والمتوسطة التي تلبّي حاجة السوق المحلية وتحد من الاستيراد مثل صناعة المواد الغذائية والإنشائية والملابس
تطوير قطاع السياحة والآثار وهو قطاع واعد جداً نظراً لامتلاك العراق لإرث حضاري هائل من أقدم الحضارات في العالم وذلك بترميم المواقع الأثرية وتأمينها وتطوير البنى التحتية السياحية من فنادق ومواصلات وخدمات وتسهيل إجراءات منح التأشيرات وتنظيم رحلات سياحية منظمة وآمنة
الاستثمار في الاقتصاد الرقمي واقتصاد المعرفة وذلك بتطوير البنى التحتية للاتصالات وتوفير الإنترنت السريع بأسعار معقولة في كل أنحاء العراق ودعم تعليم التكنولوجيا والبرمجة والذكاء الاصطناعي وإنشاء حاضنات للأعمال الابتكارية وتشجيع الشباب على إنشاء مشاريعهم التقنية
ثالثا على مستوى الحكم والإدارة ومكافحة الفساد
إصلاح الإدارة العامة وتعزيز الحكم الرشيد من خلال تبسيط الإجراءات البيروقراطية وتقليص الروتين وتحويل الخدمات الحكومية إلى المنصات الإلكترونية لتقليل التعامل المباشر والقضاء على بيئة الرشوة كما تعزيز مبدأ الاستحقاق والكفاءة في التعيينات الإدارية العليا
تفعيل مؤسسات مكافحة الفساد ومنحها الصلاحيات الحقيقية والاستقلالية الكافية لمحاسبة الفاسدين مهما علت مناصبهم واسترداد الأموال المنهوبة وإلغاء الامتيازات والرواتب والتقاعدات الخاصة غير المبررة لكبار المسؤولين
إصلاح النظام القضائي ودعم استقلاليته وكفاءته ليكون سندا للحق والعدالة وضمانا لحقوق المستثمرين والمواطنين على حد سواء
تعزيز اللامركزية الإدارية والمالية ومنح المحافظات صلاحيات أوسع في إدارة شؤونها التنموية وفق خطط تتناسب مع إمكاناتها وخصوصياتها مع ضمان عدالة توزيع الموارد الوطنية
رابعا على المستوى الاجتماعي والبشري
إطلاق برنامج وطني للتعليم والتدريب المهني والتقني يتلاءم مع متطلبات سوق العمل المستقبلية ويتصدى لظاهرة البطالة بين الشباب من خلال تأهيلهم لمهن وحرف منتجة وتشجيع ثقافة العمل الحرّ والمبادرة
إصلاح نظام الضمان الاجتماعي والشبكة الاجتماعية لتوفير حماية حقيقية للفقراء والفئات الهشة .
الاستثمار في الصحة العامة والخدمات الاجتماعية الأساسية كالماء والكهرباء ليس كخدمات استهلاكية فقط بل كشرط أساسي لجذب الاستثمارات ولتحسين إنتاجية الفرد والمجتمع
تمكين المرأة اقتصادياً والمشاركة الكاملة للقوى العاملة النسوية في بناء الاقتصاد لما يمثله ذلك من طاقة هائلة معطلة
خامسا على مستوى البيئة والاستدامة
تبني استراتيجية وطنية لمواجهة التغير المناخي وحماية الموارد المائية وتبني مشاريع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية التي يمتلك العراق إمكانات هائلة فيها لتقليل الاعتماد على النفط في توليد الكهرباء وتوفيرها للمواطن والصناعة
معالجة التصحر بزراعة الأحزمة الخضراء وإعادة تأهيل الأراضي المتدهورة .
سادسا على مستوى السياسة الخارجية والاقتصادية
تنويع الشراكات الاقتصادية الدولية وعدم الربط باقتصاد أو سياسة دولة واحدة والانفتاح على الأسواق العالمية والاستفادة من اتفاقيات التجارة والاستثمار
العمل على تحسين البيئة الجيوسياسية المحيطة وحل النزاعات مع الجوار بالحوار بما يخدم المصالح الاقتصادية العراقية
الانضمام إلى المنظمات الاقتصادية الدولية الفاعلة والاستفادة من برامج الدعم الفني والتمويلي التي تقدمها
ان تنفيذ هذه الرؤية الشاملة ليس بالأمر السهل فهو يتطلب إجماعا وطنيا واستقرارا سياسيا وأمنيا والتزاما من النخب الحاكمة بمشروع الوطن فوق كل الاعتبارات الأخرى كما يحتاج إلى مشاركة فاعلة من المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات الأكاديمية في الرقابة والتوعية والمتابعة ان الخروج من النفق الاقتصادي المظلم يحتاج إلى شعلة أمل وإرادة وصبر طويل لكن التاريخ يعلمنا أن العراق ذا الحضارات العريقة والقادر على اختراع الكتابة ووضع أول الشرائع لا يمكن أن يبقى أسير اقتصاد ريعي هش ان الموارد البشرية الشابة والطاقات الكامنة في هذا الشعب إذا ما أُطلق سراحها من قيود الفساد والبيروقراطية والتخلف يمكن أن تعيد بناء عراق جديد قائم على التنوع والإنتاج والإبداع ان اللحظة حرجة والوقت ليس في صالح العراق لكن الأبواب ليست مغلقة تماما فما يزال هناك متسع من الأمل ما دام هناك عراقيون يؤمنون بإمكانية غد أفضل ويصرون على السعي نحوه بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة فالطريق واضح والمعرفة موجودة والتجارب الدولية تقدم نماذج ناجحة للتحول من الاقتصاد الأحادي إلى الاقتصاد المتنوع المطلوب فقط هو بدء المسير بخطوات ثابتة وجادة بعيدا عن المزايدات والشعارات نحو بناء وطن اقتصاده قوي ومستقر يحفظ كرامة أبنائه ويضمن لهم حياة آمنة وكريمة
#حيدر_صادق_صاحب (هاشتاغ)
Haider_Sadeq_Sahib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟