|
|
صعاليك العراق: شعرٌ يُكتب على حافة الخراب/ مقدمة
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 21:53
المحور:
الادب والفن
مقدمة في تاريخ الأدب العراقي، تظلّ الصعلكة ظاهرةً متجددة الحضور، تتخذ أشكالًا مختلفة تبعًا لتحولات المجتمع وضغط الواقع، لكنها تحتفظ بروحها الأولى: روح التمرّد، والبحث عن معنى خارج الأسوار التقليدية، والإصرار على الإقامة في الهامش باعتباره فضاءً للحرية لا مجرد موقع للعزلة. ولعلّ الكتابة عن الصعلكة في العراق تعني في أحد وجوهها محاولة الاقتراب من جوهر الإنسان العراقي وهو يقاوم القهر، ويحاول صوغ ذاته بمواجهة الخسارات المتراكمة والانكسارات التي لا تنتهي. فالصعلكة ليست مجرد سلوك اجتماعي أو انحراف عن منظومات السلوك السائدة، بل هي موقف فكري وجمالي، بل أحيانًا وجودي، يعلن فيه الفرد رفضه للدور المرسوم له، وإصراره على الاختيار ولو كان الاختيار مكلفًا حدّ الإقصاء. هذا المفهوم، الذي بدأ في تراث العرب إشارةً إلى أولئك الخارجين على القبيلة العائشين في البراري، تحوّل في العراق المعاصر إلى موقف ثقافي وأدبي ووجودي حمله شعراء وكُتّاب رأوا في الشارع وفي الهامش وفي المساحات المنسيّة مادةً للقصيدة، وسببًا للكتابة، وملاذًا من صرامة السلطة الاجتماعية والسياسية. كان هؤلاء الشعراء يعيشون خارج المنظومات الرسمية للثقافة، لا يعترفون بغير قانونهم الخاص، فيكرّسون مفرداتهم للحديث عن الفقر، والوحدة، والقلق، والشرود، والليل الطويل الذي لا يرافقه سوى الخمرة أو الشارع أو القصيدة. ومن هنا صار مفهوم الصعلكة في العراق معادلًا للكتابة من موقع الجرح، وللشعر بوصفه سلوكًا يوميًا قبل أن يكون نصًا منسقًا على الورق. وعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، ظهر عدد من الأصوات الشعرية التي حملت هذا المزاج، أو انحازت إليه، أو لامست تخومه في تجربتها الفنية والشخصية. بعضهم عاش الصعلكة نمطًا حياتيًا، وبعضهم حملها كهوية جمالية داخل نصّه، بينما اكتفى آخرون بتجسيد روحها في لغتهم حتى لو عاشوا حياة أكثر استقرارًا. من بين الأسماء التي تُستعاد عادةً عند الحديث عن هذا المسار يبرز جان دمو، وحسين مردان، وصباح العزاوي، وعقيل علي، وهادي السيد، وجبار محيبس، وغيرهم من الشعراء والفنانين الذين أسهمت تجاربهم في ترسيخ صورة الشاعر العراقي الهائم، المتمرّد، الساكن في الحانات والطرقات أكثر من المكاتب الرسمية والمؤسسات الثقافية، والمفتون بالقصيدة حتى حدّ التضحية بكل شيء في سبيلها. إن ذكر هذه الأسماء هنا لا يهدف إلى تقديم قراءة تفصيلية لتجاربهم، بل الإشارة إلى النمط الذي شكّلته حضورًا وسلوكًا ورؤيةً يمكن أن تُعدّ جزءًا من فهمنا للصعلكة كظاهرة ثقافية في العراق. فجان دمو، على سبيل المثال، يمثل في الذاكرة الثقافية العراقية صورةً للشاعر الذي عاش على حافة العالم، مسكونًا بهاجس العبث والحرية، بينما حمل حسين مردان منذ وقت مبكر روح التمرّد وكسر التقاليد الجمالية والاجتماعية، وهو ما جعله من أول وأبرز الأصوات التي كسرت سياقات الشعر التقليدية ومهدت لجرأة لاحقة اتسعت بين شعراء السبعينيات والثمانينيات. أمّا عقيل علي، فكان نموذجًا للشاعر الذي يجد في الفقر والحرمان مادةً رؤيوية تجعل القصيدة امتدادًا للحياة اليومية بكل تناقضاتها وقسوتها، في حين برز صباح العزاوي وهادي السيد وجبار محيبس ضمن طيف من الشعراء والفنانين الذين تعاملوا مع الهامش بوصفه مركزًا وجوديًا للقصيدة، لا مجرد انعزال أو اعتراض. والصعلكة في معناها العراقي الحديث ليست مجرّد حياةٍ مضطربة أو علاقة خاصة بالخمر أو الشارع كما تُصوَّر أحيانًا، بل هي أيضًا احتجاج صامت على أبنية الواقع. إنها نوع من الرفض الهادئ الذي يتخذ من اللغة سلاحًا، ومن القصيدة ملاذًا، ومن الهشاشة قوة. فهؤلاء الشعراء، مهما اختلفت تجاربهم، يشتركون في قناعة أن العالم أضيق من أن يستوعب حساسياتهم، وأن المؤسسة الثقافية في أشكالها الرسمية عاجزة عن فهم الصوت الخارج عن السيطرة. لذلك اختاروا الطريق الصعب، طريق العيش على الهامش الذي صار بالنسبة لهم مركزًا رمزيًا، مكانًا تُعاد فيه صياغة القيم والمعاني. إن الصعلكة بهذا المعنى ليست نقيضًا للحياة الاجتماعية فحسب، بل هي أيضًا تحدٍّ للغة. القصيدة الصعلوكية تميل إلى الاقتصاد اللغوي، إلى الرماديات، إلى البساطة المضللة، إلى المكاشفة التي تبدو قاسية لكنها شفافة. لم يكن الشاعر الصعلوك يبحث عن الجمال المصقول أو البحر العروضي المنتظم، بل عن تلك الشرارة التي تلامس حقيقة ذاتية مهما كانت صادمة. وهنا تضخّم دور اليوميّ والعابر، وصارت مفردات الشارع والفقر والعتمة مكونات جوهرية في القصيدة. بدا الشعر كأنه امتداد لجلسة طويلة في مقهى، أو لتسكّع متواصل في شوارع الخراب، أو لانكسار نفسي لم يجد مكانًا في أيّ نظام اجتماعي. ولعلّ التحولات السياسية في العراق، وما مرّ به البلد من حروب واقتتال وحصار، أسهمت في تكريس هذه الروح. فالصعلكة لم تعد مجرد خيار فردي بقدر ما غدت أحيانًا قدرًا جمعيًا يفرض نفسه على المبدع. الشاعر الذي اتسعت أمامه مساحة الفقر والضياع والقلق، لم يعد قادرًا على الوقوف في الطرف الآمن من الحياة، فاختار لغة توائم هذا القلق وتفصح عنه. ومع ذلك، يجب التمييز بين الصعلكة بوصفها موقفًا وجوديًا وبين تحويلها إلى أسطورة جاهزة. فالحياة المضطربة لا تصنع شاعرًا بالضرورة، كما أن الشاعر الصعلوك ليس بالضرورة إنسانًا بائسًا. الصعلكة موقف، والموقف يمكن أن يُصاغ عبر نصوص مشتعلة حتى لو عاش الشاعر حياة مستقرة، كما يمكن أن تبقى مجرد اضطراب شخصي لا ينتج عنه نص شعري مؤثر. إن دراسة الصعلكة في العراق تستدعي أيضًا النظر إلى علاقتها بالجماعات الشعرية. فالكثير من الشعراء الذين ذُكروا سابقًا كانوا يتحركون ضمن شبكات صداقة، لا ضمن تيارات منظّمة. كانوا يلتقون في المقاهي والحانات، في الشوارع وفي الأمكنة الضيقة التي تتحول إلى منصات قراءة ومسامرة. هذا التجمع غير المنظم أسهم في خلق ما يشبه البيئة الشعرية الحرّة، التي لا تخضع لمركز أو سلطة، ولا تعترف إلا بالرغبة في كتابة نص مختلف. لقد انبثقت من تلك البيئات قصائد تحمل توقيع الحياة اليومية، وتعكس شخصيات شعرائها الذين عاشوا بلا ادّعاء، وبلا رغبة في التبرير، مكتفين بأن يكونوا كما هم. وبالرغم من ذلك، تبقى الصعلكة موضوعًا إشكاليًا في النقد العراقي. فهناك من يرى فيها تجسيدًا لحالة اجتماعية واقعية، بينما ينظر آخرون إليها كجزء من أسطرة الشاعر، أو كواجهة استخدمت لاحقًا لتبرير الضعف الفني أو الفوضى البنيوية. بين هذين الطرفين تتشكل مساحة مهمة للبحث: كيف يمكن فهم الصعلكة بعيدًا عن التقديس والتهشيم؟ كيف يمكن النظر إليها كتجربة إنسانية وشعرية دون الوقوع في فخ الصورة النمطية؟ هذه الأسئلة تجعل بحث الصعلكة ليس مجرد رصد لحياة شعراء بل دراسة لطبقة كاملة من الثقافة العراقية التي تنازعت بين التمرد الرسمي والتمرد العفوي. وإذا كان لكل مرحلة من مراحل الشعر العراقي سماتها، فإن الصعلكة بدت واحدة من الظواهر التي صمدت أمام تغيّر الزمن. ظهرت في الستينيات، واشتد حضورها في السبعينيات، وارتدت أشكالًا جديدة في الثمانينيات والتسعينيات، ثم أخذت منحى آخر بعد 2003 مع انتقال الشعراء الشباب إلى فضاءات جديدة من التعبير. ومع ذلك ظلّ الجوهر واحدًا: الشاعر الذي يتخذ من القصيدة شرفةً يطل منها على عالم لا يحتمله، فيسعى إلى تشكيل عالم آخر داخل اللغة. وفي نهاية المطاف، فإن الحديث عن الصعلكة في العراق هو حديث عن الإنسان الذي يرفض أن يكون رقمًا في منظومة قاسية، ويبحث عن خلاصه عبر الكلمات، وعبر المساحات الصغيرة التي تمنحها الحياة في لحظات الكسر. الصعلكة ليست ترفًا ولا موضة، بل صرخة طويلة حملها شعراء مثل جان دمو وحسين مردان وصباح العزاوي وعقيل علي وهادي السيد وجبار محيبس وغيرهم، وأسهموا من خلالها في تشكيل ملامح شعر عراقي ظلّ وفيًّا للهامش، ولليل، وللصوت المتعب الذي لا يملك سوى القصيدة وحرية أن يقول: لا. وهذه المقدّمة ليست إلّا محاولة لرسم الخطوط العريضة لبحثٍ يسعى إلى دراسة الظاهرة بعمق، وتحليل جذورها وتحولاتها، والاقتراب من سياقاتها التاريخية والجمالية، ومن التجارب التي أسهمت في تشكيلها، بوصفها من أهم الظواهر التي طبعت الشعر العراقي بطابعها الإنساني والوجودي الخاص. مصادر المقدمة _____ 1. منال الشيخ - صعاليك العراق https://alantologia.com/blogs/18340/ 2. صعاليك الشعر في العراق/ https://www.azzaman.com/ 3. رصيف / 22 https://raseef22.net/article/1093641 4- الشعراء الصعاليك من منظور سايكولوجي/ https://alsabaah.iq/77017-.html
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منحة المبدعين بين الاستحقاق والمنّة
-
معارض الكتب.. جعجعة بلا طحين
-
أدباء مرضى نفسيين: ما هو التعالي الفارغ؟
-
لماذا نعيش إذا كانت الحياة بلا معنى؟
-
فصول الحزن الدفين قراءة في نص(رياح) لـ عبد الإله الفهد
-
تجربتي الأدبية وزيف البشر
-
المتاهة التي نسكنها
-
بلدٌ غنيّ وفنانٌ جائع لماذا انهار رضا الخياط؟
-
من هم أدباء الدمج؟
-
السفر الى الماضي والى الحاضر - كتاب يضلّ الفكر باسم المعرفة
-
فضيحة من العيار الثقيل تهز المشهد الثقافي
-
ما عاد لي وطنٌ
-
صوتي ليس للبيع…لهذا لن أنتخب
-
رؤية الحيدري.. التشيع كاجتهاد مفتوح نحو الحقيقة
-
كمال الحيدري كما أراه
-
الحيدري: هل الله موجود أم وجود؟*
-
كمال الحيدري: آدم أول نبي لا أول مخلوق
-
رؤية كمال الحيدري في شمولية الحقيقة الدينية وتعدد طرق الوصول
...
-
اعترافات المطر الخجول قراءة في نص لرنا جمال
-
وجع مؤجل
المزيد.....
-
من فلسطين الى العراق..أفلام لعربية تطرق أبواب الأوسكار بقوة
...
-
فيلم -صوت هند رجب- يستعد للعرض في 167 دار سينما بالوطن العرب
...
-
شوقي عبد الأمير: اللغة العربية هي الحصن الأخير لحماية الوجود
...
-
ماذا يعني انتقال بث حفل الأوسكار إلى يوتيوب؟
-
جليل إبراهيم المندلاوي: بقايا اعتذار
-
مهرجان الرياض للمسرح يقدّم «اللوحة الثالثة» ويقيم أمسية لمحم
...
-
-العربية- منذ الصغر، مبادرة إماراتية ورحلة هوية وانتماء
-
اللغة العربية.. هل هي في خطر أم تتطور؟
-
بعد أكثر من 70 عاما.. الأوسكار يغادر التلفزيون إلى يوتيوب
-
رأي.. سامية عايش تكتب لـCNN: بين الأمس واليوم.. عن فيلم -الس
...
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|