أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - داود السلمان - لماذا نعيش إذا كانت الحياة بلا معنى؟














المزيد.....

لماذا نعيش إذا كانت الحياة بلا معنى؟


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 11:41
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إنّ الشعور بانعدام المعنى واحداً من أكثر الأسئلة إلحاحاً في التجربة الإنسانية، وقد شكّل محوراً لكتابات وفلسفات عديدة امتدّت من شوبنهاور إلى تولستوي وغيرهما من المفكرين الذين حاولوا مقاربة جدوى الوجود وإشكالاته. حين نقول إن: كل الذي نعمله بلا معنى لأن الحياة نفسها بلا معنى، فإننا نردّد صدى تلك الرؤية التشاؤمية التي صاغها شوبنهاور في كتابه "العالم إرادة وتمثّلاً"، حيث اعتبر أن جوهر الوجود يقوم على إرادة عمياء لا هدف لها، وأن الإنسان ليس سوى تمثّل لهذه الإرادة التي تدفعه في دوائر متكررة من الرغبة ثم الإشباع ثم الملل ثم الرغبة من جديد. في هذا النسق، يصبح كل فعلٍ نكرّره امتداداً لعدم جدوى كامن في أصل الحياة ذاتها، فيتحوّل الروتين اليومي إلى دليل على عبثية الإرادة البشرية وعجزها عن خلق معنى ثابت أو نهائي.
بمعنى، شوبنهاور يرى أن الإنسان محكوم بهذا التيه الوجودي لأنه يسعى دائماً إلى ما لا يمتلك، وما إن يحصل عليه حتى يفقد قيمته، فيعود للبحث عن رغبة أخرى. وهكذا تتكرر الدائرة بلا انقطاع، ما يجعل حياتنا سلسلة من الحركات الميكانيكية التي تفتقر إلى غاية كبرى. هذه النظرة لا تعني فقط أن أعمالنا بلا معنى، بل إنها تذهب أبعد من ذلك: إن ما نعتبره معنى هو مجرد إسقاط ذاتي يختلقه العقل ليبرر استمرارنا. فالإنسان، في نظر شوبنهاور، يهرب من حقيقة لا يريد مواجهتها: أن الوجود نفسه بلا أساس جوهري، وأننا نحيا لكي نكرر ونعيد ونستهلك ونرغب، دون أن نبلغ حالة الاكتمال التي نبحث عنها.
أما تولستوي من جانبه، وإن انطلق من سياق مختلف، فإنه وصل إلى استنتاج قريب في كتابه "عن الحياة". فبعدما كان مؤمناً بنجاحات الإنسان وبالعمل والإنتاج والمعرفة، وجد نفسه في منتصف العمر أمام سؤال قاسٍ: ما فائدة كل هذا؟ لماذا نسعى ونكدّ ونتعب إذا كان المصير في النهاية هو الفناء؟ حيث رأى تولستوي أن الإنسان، مهما توسّعت منجزاته، يقف أمام جدار الموت عاجزاً، وأن أي معنى لا يستطيع مواجهة هذا الجدار هو معنى هشّ وزائف. ولذلك وجد أن الحياة، بمفهومها الخارجي القائم على المال والنجاح والشهرة والعمل، لا تحمل قيمة حقيقية. هي مجرّد تكرار يومي لأفعال وطقوس نباشرها لأننا اعتدنا عليها، لا لأننا نمتلك يقيناً بأنها تمنح وجودنا غاية مترابطة.
ومع ذلك، فإن تولستوي لم يذهب إلى التشاؤم الوجودي المطلق؛ بل سعَى إلى تأسيس معنى مختلف، معنى ينبع من الداخل، من الروابط الإنسانية، ومن النزوع الأخلاقي، ومن الإيمان بقيمة أعمق تتجاوز حدود المادة. لكنه ظلّ مقتنعاً بأن الحياة كما يعيشها الناس عادةً - أي الحياة المحكومة بالرغبات والأعمال والمكاسب - بلا معنى حقيقي. وما لم يبحث الإنسان عن مستوى آخر من الوعي، فإنه سيبقى حبيس هذا التكرار الذي يجعل وجوده مجرد حركة بلا روح.
وعليه، إذا جمعنا بين شوبنهاور وتولستوي، نجد أن كليهما يشير إلى أن الإنسان يعيش داخل دائرة وُضعت له قبل أن يعيها. فهو يولد، يتعلم، يعمل، يلهث وراء أهداف محددة سلفاً، ثم يشيب ويرحل، فيما تستمر الحياة بذات الإيقاع، غير معنية بما إذا كان وجوده قد أحدث فرقاً أم لا. التكرار، في جوهره، هو ما يجعل الحياة تبدو بلا معنى؛ لأن الوعي الإنساني يتطلّع إلى غاية تتجاوز الحدود، بينما الواقع يعيدنا دائماً إلى نمط ثابت يدور حول ذاته.
ومع ذلك، قد يكون هذا الشعور بانعدام المعنى جزءاً من طبيعة الوعي نفسه. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسأل عن معنى وجوده، بينما لا تكفّ بقية المخلوقات عن العيش دون حاجة إلى تفسير. ربما لهذا السبب تتضخم فكرة العبث لدينا: لأن وعينا أكبر من قدرتنا على تبرير العالم، ولأن حاجتنا للمعنى تفوق ما يقدمه الواقع من أجوبة. إن القول بأن “الحياة بلا معنى” قد لا يكون حكماً على العالم بقدر ما هو اعتراف بحدود العقل البشري الذي يتوق إلى فهمٍ لا يملكه، وإلى اكتمالٍ لا يجده.
لكن هذا الحكم نفسه يمكن أن يُقرأ بطريقة مغايرة: فإذا كانت الحياة بلا معنى مُسبق، فإنها تصبح مفتوحة لخلق معنى خاص. هنا يختلف الفلاسفة المعاصرون عن شوبنهاور، إذ يرون أن انعدام المعنى ليس مأساة بل فرصة، وأن الإنسان، بوعيه وقدرته على الاختيار، يستطيع أن يصنع معنى من خلال الفعل لا من خلال الانتظار. غير أن هذا الاتجاه لا ينفي ما قاله شوبنهاور وتولستوي، بل يعيد تأويله: فالتكرار والروتين والدوائر والعبث هي المادة الخام التي يبدأ منها الإنسان، لا التي يتوقف عند حدودها.
وبالتالي، يبقى السؤال معلقاً: هل الحياة بلا معنى فعلاً، أم أن المعنى هو ما نخلقه نحن كل يوم؟؛ قد يكون ما أكده شوبنهاور وأشار إليه تولستوي أقرب إلى وصف حالة إنسانية عامة: الشعور بأن ما نفعله لا يضيف شيئاً إلى الكون، وأن تكرار الأيام يبتلع محاولاتنا الصغيرة لصنع فرق. غير أن هذا الشعور ذاته هو الدافع للبحث عن معنى، ولو كان هشّاً وموقتاً. وربما في هذا البحث بالتحديد يكمن ما يميّز الوجود الإنساني: القدرة على التساؤل، وعلى الشك، وعلى الإصرار على إيجاد قيمة ما، حتى لو كانت الحياة نفسها صامتة أمام سؤالها الأقدم والأصعب: لماذا نحن هنا؟.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فصول الحزن الدفين قراءة في نص(رياح) لـ عبد الإله الفهد
- تجربتي الأدبية وزيف البشر
- المتاهة التي نسكنها
- بلدٌ غنيّ وفنانٌ جائع لماذا انهار رضا الخياط؟
- من هم أدباء الدمج؟
- السفر الى الماضي والى الحاضر - كتاب يضلّ الفكر باسم المعرفة
- فضيحة من العيار الثقيل تهز المشهد الثقافي
- ما عاد لي وطنٌ
- صوتي ليس للبيع…لهذا لن أنتخب
- رؤية الحيدري.. التشيع كاجتهاد مفتوح نحو الحقيقة
- كمال الحيدري كما أراه
- الحيدري: هل الله موجود أم وجود؟*
- كمال الحيدري: آدم أول نبي لا أول مخلوق
- رؤية كمال الحيدري في شمولية الحقيقة الدينية وتعدد طرق الوصول ...
- اعترافات المطر الخجول قراءة في نص لرنا جمال
- وجع مؤجل
- مفهوم العقل الفقهي عند كمال الحيدري
- كمال الحيدري وخصومه
- كمال الحيدري.. الفيلسوف الذي أشعل نار العقل في محراب المقدس( ...
- نهاية الإنسان تبدأ حين ينتمي إلى القطيع


المزيد.....




- السودان.. الجنائية الدولية تصدر حكما على القيادي بـ-الجنجاوي ...
- المقاتلات الأميركية تقترب من فنزويلا.. ومادورو يشتكي مازحًا ...
- برلين تعزز حماية الصحفيين من الدعاوى التعسفية العابرة للحدود ...
- وكالة المغرب العربي للأنباء: مقتل 19 شخصا جراء انهيار بنايتي ...
- مقتل 12 شخصا بحريق في مبنى سكني جنوبي الصين
- كندا تطلق خطة بمليار دولار لاستقطاب كبار الباحثين
- تايلند وكمبوديا تجليان نصف مليون مدني بسبب الاشتباكات الحدود ...
- الأيوبي.. قصة دبلوماسي سوري عائد إلى دمشق بعد انشقاقه عن الأ ...
- رمزي صالح يكشف للجزيرة مفاجآت عن مسيرته في النادي الأهلي
- المعارضة الفنزويلية ماتشادو تغيب عن حفل تسلم جائزة نوبل للسل ...


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - داود السلمان - لماذا نعيش إذا كانت الحياة بلا معنى؟