|
|
كمال الحيدري.. الفيلسوف الذي أشعل نار العقل في محراب المقدس(1)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 20:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كمال الحيدري فيلسوف ومفكر إسلامي معاصر يسعى إلى إعادة بناء الفكر الديني على أسس نقدية عقلانية، محاولاً – في الوقت ذاته - التوفيق بين المعطيات التراثية الإسلامية ومتطلبات العقل الحديث. يمثل مشروعه الفلسفي والفكري محاولة جريئة لتفكيك المنظومة التقليدية التي حكمت الفكر الإسلامي لقرون طويلة، من خلال قراءة جديدة للموروث العقدي والفقهي والفلسفي، تنطلق من رؤية منهجية تعتبر العقل معياراً أساسياً لفهم النص وتأويله، وتؤكد أن الدين لا يمكن أن يبقى أسيراً لقوالب تاريخية جامدة. ومن هذا المنطلق يقوم مشروع الحيدري على فكرة مركزية مفادها أن التجديد لا يعني القطيعة مع التراث، بل يعني إعادة قراءته في ضوء أدوات معرفية حديثة، تسمح بإبراز البعد الإنساني والعقلاني في النص الديني، وتحرره من هيمنة التقديس غير الواعي. إنّ منطلق الحيدري الأساسي هو أن الفكر الديني الإسلامي أصيب، بعد القرون الأولى، بنوع من الانغلاق الذي جعل العقل غريباً في ساحة الدين، وتحولت النصوص إلى أدوات للهيمنة والتبرير بدل أن تكون سبيلاً للهداية والمعرفة. لذلك، فأن الحيدري يدعو إلى مراجعة شاملة للمناهج الكلامية والفقهية التي تشكلت في القرون الوسطى، ويرى أن هذه المناهج، رغم دورها التاريخي، لم تعد قادرة على استيعاب الأسئلة الجديدة التي يطرحها العصر الحديث. إن مشروعه، من هذا المنطلق، ليس مجرد مشروع إصلاحي أخلاقي، بل هو مشروع نقدي معرفي يسعى إلى إعادة تأسيس العلاقة بين الإنسان والدين، على نحو يجعل الإيمان فعلاً عقلانياً حراً لا خضوعاً تقليدياً. وبذلك، يتأثر الحيدري تأثراً واضحاً بالمنهج الفلسفي العقلي في التراث الإسلامي، خصوصاً في مدرسة الحكمة المتعالية لصدر المتألهين الشيرازي، ولكنه في الوقت نفسه يتجاوزها عبر دمجها بمناهج النقد المعرفي الحديث. فهو يرى أن الفلسفة ليست علماً نخبوياً أو تأملاً تجريدياً فحسب، بل هي أداة لتحرير الإنسان من أسر الأطر الذهنية المغلقة. من هنا تأتي دعوته إلى نقد «المقدس الموروث» وليس «المقدس الإلهي»، أي نقد الفهم البشري للنصوص وليس النصوص نفسها. فالنص عنده لا يتحدث بنفسه، بل يُفهم من خلال أدوات الإنسان وإطاره المعرفي، وبالتالي لا يمكن لأي فهم أن يدّعي العصمة أو الكمال. بهذا المعنى، تتأسس فلسفته على مبدأ «تاريخية الفهم» و«نسبية المعرفة»، مع احتفاظه في الوقت ذاته بالإيمان المطلق بحقيقة الوحي ومرجعيته. ومن القضايا الجوهرية في فلسفة الحيدري نقده لمنظومة «العقائد الموروثة» في المذهبين السني والشيعي على حد سواء، حيث يرى أن هذه المنظومات قد تخلقت ضمن ظروف تاريخية وسياسية، وتمت إعادة إنتاجها بوصفها مسلمات نهائية، مما أدى إلى تعطيل العقل النقدي. ولذلك يدعو إلى التفريق بين الدين بوصفه وحياً إلهياً، والمذهب بوصفه فهماً بشرياً. وهذا التفريق، في رأيه، ضروري لتحرير الإيمان من الانتماء الطائفي، ولإعادة بناء الهوية الدينية على أساس إنساني توحيدي. يذهب الحيدري إلى أن المذاهب ليست سوى اجتهادات تاريخية، وأن التقديس المفرط لها يمثل انحرافاً عن روح الدين التي تقوم على البحث عن الحقيقة لا على الدفاع عن الانتماء. لذا فإن الفيلسوف في رؤيته يجب أن يكون «حراً أمام النص»، قادراً على مساءلته وتفكيك بنياته اللغوية والمعرفية دون خوف من سلطة التراث. إن الملمح الفلسفي الأبرز في فكر كمال الحيدري هو تبنيه لمنهج نقدي شامل ينطلق من مبدأ أن كل معرفة إنسانية نسبية، وأن الحقيقة المطلقة لا يملكها أحد. هذا المبدأ يجعله قريباً من الاتجاهات "الهرمنيوطيقية" الحديثة التي تؤكد أن الفهم يتأثر بالسياق التاريخي والثقافي للإنسان. لكنه لا يقع في النسبية المطلقة التي تنكر الحقيقة، بل يوازن بين الإيمان بالعقل والإيمان بالوحي، في محاولة لتأسيس «عقل مؤمن» لا يكتفي بالاتباع، بل يمارس التأمل والتساؤل المستمر. ومن هنا تأتي عبارته الشهيرة بأن «العقل هو الحاكم لا المحكوم»، إذ لا يمكن فهم النص إلا عبر العقل، ولا يمكن للعقل أن يُلغى بحجة التسليم الديني. وبالتالي يتجه الحيدري كذلك إلى نقد البنية السلطوية في الفكر الديني، سواء تمثلت في المؤسسة الفقهية أو المرجعية التقليدية. فهو يرى أن السلطة الدينية حين تتحول إلى احتكار للفهم، فإنها تقتل روح الدين وتحول المعرفة إلى أداة هيمنة. لذلك يدعو إلى تحرير الحوزة العلمية من الجمود وإعادة صياغة مناهجها، بحيث تدمج بين التراث والمعرفة الحديثة، وتفتح الباب أمام قراءة فلسفية وعقلانية للنصوص. إن هذا الطرح يجعله في صدام مع الاتجاهات المحافظة التي ترى في فكره خروجاً عن الإجماع أو تشكيكاً في الثوابت، لكنه يؤكد أن النقد ليس هدماً بل بناء، وأن الإصلاح الحقيقي لا يتم إلا عبر الجرأة على مساءلة المسلمات. أما على الصعيد الفلسفي الخالص، فإن الحيدري يتبنى تصوراً وجودياً ومعرفياً متكاملاً يستند إلى وحدة الحقيقة وتعدد تجلياتها. فالحقيقة في نظره لا تُختزل في مذهب أو طائفة، بل هي واحدة تتجلى في صور متعددة بحسب استعداد العقول ومراتبها. وهذه الفكرة، التي تستلهم روح الفلسفة العرفانية، تمنحه أفقاً إنسانياً شاملاً يجعل الحوار مع الآخر جزءاً من طريق الحقيقة لا نقيضاً لها. لذلك يرفض النزعات الإقصائية التي تفرّق بين البشر على أساس العقيدة أو المذهب، ويرى أن جوهر الدين هو المعرفة والمحبة والعدل، لا الصراع والانغلاق. ومن هنا يركز الحيدري أيضاً على مفهوم «التحول المعرفي» في الفكر الديني، إذ يرى أن المسلمين اليوم يعيشون أزمة في البنية التحتية للمعرفة نفسها، وليست الأزمة مجرد خطأ في الفهم أو التطبيق. فالمناهج القديمة، التي صيغت في سياقات ما قبل الحداثة، لم تعد قادرة على التعامل مع أسئلة العلم والفلسفة الحديثة. لذلك يدعو إلى بناء «منهج معرفي إسلامي جديد» يجمع بين النقد الفلسفي والعلوم الإنسانية الحديثة، دون أن يفقد جذوره الإيمانية. هذا المنهج، في رؤيته، يجب أن ينطلق من الإنسان لا من السلطة، ومن السؤال لا من الجواب المسبق، لأن الدين الذي لا يجيب على أسئلة الإنسان المعاصر يفقد قدرته على التأثير. ومن زاوية أخرى، يتعامل الحيدري مع الفلسفة بوصفها مشروعاً أخلاقياً أيضاً، لا مجرد تنظير معرفي. فهو يرى أن تحرر الفكر لا يكتمل إلا بتحرر الإنسان من الخوف، وأن النقد بلا أخلاق يتحول إلى عبث. لذلك يربط بين «التنوير العقلي» و«التزكية الروحية»، ويؤكد أن الإصلاح لا يكون فكرياً فقط بل يجب أن يكون وجودياً يطال القلب والسلوك. في هذا السياق، تتجلى رؤيته الصوفية المتنورة التي تستلهم البعد العرفاني في التراث الإسلامي، لكنها تعيد قراءته بطريقة عقلانية حديثة تبتعد عن الخرافة والتسليم الأعمى. وخلاصة القول إن فلسفة كمال الحيدري تمثل مشروعاً لإعادة التوازن بين العقل والإيمان، بين النص والواقع، وبين التراث والمعاصرة. إنه يسعى إلى بناء "لاهوت عقلاني" جديد يجعل الدين فضاءً للبحث والحوار لا أداة للصراع والهيمنة. مشروعه يقوم على الجرأة في النقد، وعلى الإيمان العميق بأن الحقيقة لا تُحتكر، وأن الطريق إليها مفتوح لكل من يمتلك الشجاعة للسؤال. بهذا المعنى، يمكن القول إن الحيدري يمثل أحد أهم المفكرين الذين يحاولون نقل الفكر الإسلامي من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الإبداع، ومن الانغلاق المذهبي إلى الأفق الإنساني الكوني. ورغم الجدل الذي يثيره فكره بين مؤيد ومعارض، فإن قيمته تكمن في كونه يفتح الأبواب المغلقة، ويعيد للخطاب الديني حيويته العقلية التي افتقدها طويلاً، مؤكداً أن الدين والعقل ليسا خصمين بل شريكين في البحث عن الحقيقة التي هي أسمى غايات الإنسان. ملاحظة// لمن يرغب بالمزيد فليذهب إلى محاضراته على "اليوتيوت"، وهي كثيرة، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهاية الإنسان تبدأ حين ينتمي إلى القطيع
-
تزوير وجهي الرّسمي
-
عبرتُ لأنكِ لم تمسكي بيدي
-
مَن رجل الدين؟
-
المرأة في فلسفة شوبنهاور: نظرة دونية تشاؤمية
-
سقوط النجمة في جيب الزورق
-
خلاصة كتابي (اعترافات) قيد النشر
-
حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمك
...
-
إلى أين يمضي الفساد في العراق
-
ليس دفاعًا عن ترامب
-
احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
-
هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
-
أياد الطائي… ضحية وطن
-
من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
-
حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
-
نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
-
حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
-
في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
-
(المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
-
دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
المزيد.....
-
بابا الفاتيكان يزور موقع انفجار مرفأ بيروت في أول رحلة خارجي
...
-
طلاق غيّر التاريخ: كيف انفصلت كنيسة إنجلترا عن الفاتيكان؟
-
مفتي القاعدة السابق يروي قصة هروب ابنة ابن لادن من طهران
-
إسطنبول تحفظ ذاكرة الحضارة الإسلامية في أكثر من 750 ألف مخطو
...
-
قوات عربية وإسلامية لتأمين غزة وإسرائيل تعارض انضمام تركيا ل
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال
...
-
الاحتلال يعتقل 5 مواطنين من دير بلوط ويعتدي على عائلة في بدي
...
-
السريان أقدم الطوائف المسيحية في القدس
-
وزيرا الأوقاف في قطر وسوريا يبحثان في الدوحة تعزيز التعاون ف
...
-
الموساد يتّهم الحرس الثوري الإيراني بالوقوف وراء شبكة دولية
...
المزيد.....
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
المزيد.....
|