|
المرأة في فلسفة شوبنهاور: نظرة دونية تشاؤمية
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 20:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
اشتهر الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور بمواقفه المتشائمة من الحياة والوجود الإنساني، وكانت آراؤه حول المرأة واحدة من أكثر الجوانب إثارة للجدل في فكره. فقد تناول موضوع المرأة بنبرة نقدية حادة، واعتبرها أدنى مرتبة من الرجل، سواء من حيث العقل أو الإرادة أو حتى القيمة الوجودية. في مؤلفاته، خصوصًا في مقاله "عن النساء"، عبّر شوبنهاور بوضوح عن رؤيته السلبية تجاه النساء، معتمدًا على منظور فلسفي يرى العالم من خلال عدسة التشاؤم والانحطاط الأخلاقي. من وجهة نظره، كانت المرأة تمثل امتدادًا للطبيعة في جانبها المخادع، الذي يخدع الرجل عبر الجاذبية الجنسية والحنان الظاهري، لتبقي النوع البشري مستمرًا رغم بؤس الوجود. رأى أن النساء أكثر سطحية وأقل عقلانية من الرجال، واعتبر أن عاطفتهن تتفوق على عقلانيتهن، ما يجعلهن غير مؤهلات للقيام بأدوار عقلية أو فكرية كبرى.(1) شوبنهاور لم يكتفِ بنقد المرأة من الناحية البيولوجية أو النفسية، بل وسّع نقده ليشمل دورها الاجتماعي والتاريخي. فقد رأى أن منح المرأة حريات أو حقوقًا مساوية للرجل خطأ جسيم، لأن طبيعتها لا تؤهلها لذلك. من وجهة نظره، النساء لا يسعين إلى الحقيقة أو الإبداع أو التفوق في الفنون أو العلوم، بل يقتصر سعيهن على الارتباط بالرجل من أجل الأمن والاستقرار، وبالتالي فإن طموحاتهن محدودة وغريزية. وقد اعتبر أن النساء يفتقرن إلى روح العدل والموضوعية، وغالبًا ما تحركهن الغيرة والخداع والمكر لتحقيق غاياتهن. وهذا ما جعله يقول إن المرأة بطبيعتها لا تصلح لأن تكون صديقة حقيقية للرجل، وإنما هي كائن يجب التعامل معه بحذر، لأنها مدفوعة بالرغبة في السيطرة والامتلاك.(2) رغم قسوة آرائه، حاول شوبنهاور تبرير موقفه بالرجوع إلى ما اعتبره الطبيعة البيولوجية للمرأة. فقد رأى أن المرأة هي الكائن الذي يمثل استمرارية النوع البشري، وليس تطوره. فهي مربية، حافظة لاستمرار الحياة، ولكنها ليست مبدعة أو مفكرة أو باحثة عن الحقيقة. ووصفها بأنها أشبه بالطفل الكبير، لأنها تفتقر إلى النضج العقلي الكامل، رغم أنها قد تتفوق أحيانًا في الحيلة والدهاء. وقد ذهب أبعد من ذلك حين وصف المرأة بأنها "الحيوان ذو الشعر الطويل والأفكار القصيرة"، وهو وصف يعكس مدى ازدرائه لدورها العقلي ومكانتها الإنسانية. في نظره، العلاقة بين الرجل والمرأة ليست تكافلية بل وظيفية؛ الرجل هو المفكر والعقلاني، والمرأة هي الأداة الحيوية لاستمرار الحياة، لكنها ليست شريكة في البحث عن الحقيقة أو الخير الأعلى.(3) ولكن من المهم أن نلاحظ أن شوبنهاور لم يكن يوجه نقده للمرأة من منطلق ديني أو أخلاقي تقليدي، بل من منطلق فلسفي تشاؤمي يرى أن العالم كله، بما فيه الإنسان، محكوم بإرادة عمياء تدفع الكائنات للتكاثر والبقاء دون هدف عقلاني سام. من هذا المنظور، فإن المرأة ليست شريرة بذاتها، لكنها تجسيد لتلك الإرادة العمياء التي تستغل الذكورة لإنتاج مزيد من المعاناة في هذا العالم. وبالتالي، فإن ازدراء شوبنهاور للمرأة لا ينفصل عن ازدرائه للحياة والوجود عمومًا. وإذا كان الرجل في نظره قادرًا على الترفع عن تلك الإرادة من خلال التأمل والفن والزهد، فإن المرأة، بحسب رأيه، أكثر التصاقًا بتلك الإرادة، لأنها لا تسعى للفكر المجرد، بل للواقع المباشر المرتبط بالحياة والإنجاب والمصالح اليومية. كذلك فإن شوبنهاور كان يعتبر أن المرأة في مرحلة شبابها تمارس أقصى درجات التأثير على الرجل من خلال جمالها وجاذبيتها، لكنها تفقد ذلك بسرعة مع تقدم السن، ما يجعل وجودها مشروطًا ومؤقتًا في معادلة الحياة. هذا التصور يعكس رؤية مادية بحتة للمرأة، خالية من أي بعد روحي أو إنساني. بل يمكن القول إن شوبنهاور اختزل المرأة في وظيفتها الجسدية، منكرًا أو مهمشًا قدرتها على الإبداع أو التفكير أو المشاركة في بناء الحضارة. ولذلك، لم يكن غريبًا أن يعارض تعليم المرأة أو منحها دورًا سياسيًا أو ثقافيًا، لأنه يرى أن ذلك يتعارض مع طبيعتها ويقود إلى خلل في التوازن الاجتماعي.(4) ورغم كل هذا النقد الحاد، فإن هناك من يرى أن شوبنهاور لم يكن يكره النساء كأفراد، بل كان يعارض فكرة تمجيد المرأة أو وضعها في مكانة مساوية للرجل من منطلق فلسفي. بعض الباحثين يشيرون إلى أن تشاؤمه العام من الحياة انعكس على رؤيته للمرأة كجزء من آلية بقاء النوع التي تكرس المعاناة. ولذا فإن موقفه لم يكن نتيجة تجربة شخصية فاشلة مع النساء فقط، كما يذهب البعض، بل نتيجة منظومة فكرية شاملة ترى العالم مكانًا للمعاناة، وتعتبر المرأة أداة لإدامة تلك المعاناة من خلال الإنجاب والعاطفة التي تُضلّل الرجل وتدفعه إلى الانخراط في دورة الحياة مجددًا.(5) ويُلاحظ أيضًا أن شوبنهاور، رغم تطرفه، لم يكن الصوت الوحيد في هذا الاتجاه، فقد سبقه وتلاه كثير من المفكرين الذين عبّروا عن شكوكهم تجاه مكانة المرأة في المجتمع. لكن ما يميز شوبنهاور هو الأسلوب الصريح والجارح أحيانًا الذي استخدمه، مما جعل انتقاداته مادة للرفض والهجوم، ولكن أيضًا للتأمل والنقاش. فقد أجبر القارئ على مواجهة أسئلة صعبة حول طبيعة الأدوار الاجتماعية والجندرية، وفتح بابًا للنقاش الفلسفي حول علاقة الإنسان بجنسه ووظيفته في الحياة.(6) وبالتالي، فإن موقف شوبنهاور من المرأة لا يمكن فصله عن فلسفته الوجودية العامة التي ترى العالم سجنًا من الرغبات والمعاناة. المرأة، في هذا السياق، ليست إلا تمثيلاً آخر لتلك القوى الغريزية التي تسجن الإنسان في دورة لا تنتهي من الألم والرغبة والخداع. ولذلك، فإن انتقاد شوبنهاور للمرأة لم يكن انتقادًا عابرًا، بل جزءًا من نقده الجذري للوجود الإنساني نفسه. وإذا بدا هذا الموقف ظالمًا أو متطرفًا، فهو كذلك بالفعل، لكنه أيضًا نتاج رؤية فلسفية متكاملة يجب فهمها في سياقها، لا مجرد اقتباسها أو إدانتها بمعايير أخلاقية حديثة فقط.(7) من هذه المواقف التي عبّر فيها شوبنهاور عن نظرته السلبية تجاه المرأة، يمكن استخلاص عدة أفكار ومواقف مركزية عبّر عنها بوضوح وصراحة في كتاباته، وخاصة في مقاله الشهير "عن النساء"، الذي يعد من أكثر نصوصه إثارة للجدل. فقد كان يرى أن المرأة مخلوق غير عقلاني، ضعيف الإرادة، مسيّر بالكامل بالغريزة، وعديم القدرة على التفلسف أو التأمل. من أبرز هذه المواقف ما يلي: أولًا، اعتبر شوبنهاور أن المرأة هي التجسيد الطبيعي للإرادة العمياء التي وصفها في فلسفته، وهي الإرادة التي تدفع الكائنات إلى الاستمرار في الحياة والتكاثر رغم بؤس الوجود. ومن هذا المنطلق، يرى أن المرأة بطبيعتها لا تسعى إلى السمو الروحي أو العقلاني، بل هي أسيرة لحاجات الجسد والغرائز. في نظره، تمثل المرأة حلقة الوصل بين الإنسان والطبيعة الحيوانية، فهي لم تبلغ مستوى التجريد أو التعالي الفكري الذي يميز الرجل، وبالتالي فهي أقرب إلى الطبيعة منها إلى الثقافة. ثانيًا، عبّر عن ازدرائه الشديد للمرأة من خلال تشبيهات صادمة، حيث قال صراحة: “إن المرأة حيوان ذو شعر طويل وأفكار قصيرة.” وهذا القول ليس مجرد إهانة، بل يعكس موقفًا فلسفيًا يرى في المرأة كائنًا غير مكتمل من حيث العقل أو القدرة على التفكير المجرد. إنه يحكم عليها انطلاقًا من فكرته عن العقل بوصفه الأداة التي تتيح للإنسان أن يتحرر من قبضة الإرادة، والمرأة، حسب تصوره، غير قادرة على ذلك، لأنها أكثر التصاقًا بالجسد والرغبة. ثالثًا، كان يعتقد أن النساء بطبيعتهن غير مؤهلات لتولي أي مناصب فكرية أو فنية أو سياسية. وقد قال إن النساء "يفتقرن إلى الإحساس بالنبل والعدل"، وإن اهتمامهن ينحصر غالبًا في الأمور السطحية واليومية، مثل العلاقات الشخصية والزينة والمظهر. وبهذا المعنى، فإن منحهن حرية أو مساواة مع الرجال، حسب شوبنهاور، لا يؤدي إلا إلى تدهور المجتمع. رابعًا، رفض شوبنهاور بشدة فكرة المساواة بين الجنسين، واعتبر أن الرجال خُلقوا للكدّ والعمل والإبداع، في حين أن النساء خلقن للإنجاب وتربية الأطفال. ولهذا رأى أن التربية النسوية يجب أن تركز على إعداد المرأة لهذا الدور فقط، وليس لتطوير عقلها أو مواهبها، لأن ذلك يخالف طبيعتها الأصلية. ويقول في هذا الصدد إن “المرأة لا تملك الصفات اللازمة للتأمل أو الإبداع أو القيادة، بل إن دورها الطبيعي والوحيد هو أن تكون خادمة لإرادة الحياة.” خامسًا، من المواقف التي تكشف بوضوح نظرته السلبية، قوله إن "الحب الذي تشعر به المرأة ليس حبًا حقيقيًا بل هو نوع من الخداع البيولوجي هدفه إنجاب الأطفال"، أي أن المشاعر العاطفية عند المرأة، في رأيه، ليست إلا ستارًا يخفي الوظيفة البيولوجية التي أوجدتها الطبيعة لأجلها. ويضيف أن المرأة لا تحب الرجل لشخصه أو لمواهبه، بل لما يوفره من أمن واستقرار ووسائل للعيش، وهذا يدل، من وجهة نظره، على أنها مخلوق أناني بطبعه، مدفوع بالمصلحة. سادسًا، عبّر عن كراهيته للزواج كمؤسسة اجتماعية، لأنه يرى أن الزواج ليس إلا فخًا توقع فيه المرأة الرجل، لكي تقيّد حريته وتسخره لخدمة الأسرة والأطفال. واعتبر أن المرأة تستغل مشاعر الرجل وتخدعه بجمالها في شبابه، لكنها عندما تضمنه كزوج، تفقد كل تلك الصفات وتتحول إلى عبء عليه. وكتب في هذا السياق أن "الزواج هو أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الرجل، لأنه يقيده مدى الحياة بامرأة واحدة، في مقابل سنوات قليلة من الجاذبية". سابعًا، كان يرى أن الرجال العظماء والمبدعين يجب أن يبتعدوا عن النساء قدر الإمكان، لأن العلاقة مع المرأة تشتت العقل وتستهلك طاقة الرجل وتجعله عبدًا للمسؤوليات. ولهذا السبب، أشاد بالعزلة والانفصال عن النساء كوسيلة لحماية العقل والروح من الاستنزاف، وقال إن الرجل الذي يريد أن يحتفظ بعقله وفكره يجب أن يتجنب النساء كما يتجنب المرض. ثامنًا، من المواقف التي وردت عند شوبنهاور أيضًا، وصفه لصوت المرأة بأنه غير مستساغ أو مزعج، واعتبر أن نبرتها الصوتية تدل على ضعف تكوينها العقلي والجسدي. حتى على هذا المستوى، لم يوفرها من النقد، مما يبين مدى عمق استيائه منها على كافة الأصعدة. تاسعًا، لم يرَ في المرأة شريكة حقيقية في الحياة، بل “كائن يجب التعامل معه كطفل كبير”، على حد تعبيره. وقال إنها تحتاج إلى الحماية والتوجيه، لكنها لا تصلح للمشاركة في القرارات الجدية. وبهذا المعنى، اعتبر أن أفضل وضع للمرأة هو الخضوع التام للرجل، لأنه الأقدر على الفهم والتدبير والتخطيط. عاشرًا، ورغم هذه النظرة القاسية، فإن شوبنهاور لم يدعُ إلى اضطهاد النساء أو معاملتهن بعنف، بل كان يوصي الرجال بأن يتعاملوا معهن برأفة وحنو، مثلما يُعامل الأطفال أو الكائنات الضعيفة. فهو لم يكن يرى في المرأة شرًا مطلقًا، بل كائنًا محدودًا بقدراته، ويجب التعامل معه ضمن هذا الإطار، لا أكثر.(8) وتتلخص مواقف شوبنهاور من المرأة في أنها كائن أدنى من الرجل في العقل والقيمة والقدرة، وأن دورها البيولوجي والاجتماعي محكوم بالرغبة والغريزة، وليس بالعقل أو الوعي. وقد عكست هذه المواقف فلسفته التشاؤمية، التي ترى الحياة دائرة من الألم والعبث، وتعتبر أن المرأة تمثل قوة الطبيعة التي تبقي الإنسان أسيرًا لهذه الدائرة. وعلى الرغم من قسوة هذه الآراء، فإنها تمثل جزءًا من نسق فلسفي متكامل لا يمكن فصله عن نظرته الشاملة للعالم. لهذه الأسباب وغيرها، أعرض آرثر شوبنهاور عن الزواج، واعتبره أحد أكثر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الرجل خلال حياته. فمن خلال منظومته الفلسفية التشاؤمية، كان يرى أن الزواج ليس رباطًا مقدسًا ولا تعبيرًا عن الحب، بل فخ بيولوجي واجتماعي، تنصبه الطبيعة للرجال من خلال النساء، من أجل استمرار النوع البشري على حساب سعادة الفرد وراحته. لقد فهم شوبنهاور الزواج على أنه تضحية دائمة من طرف الرجل، يُسلب فيها حريته، ويُحمّل أعباء لا تنتهي من المسؤوليات، في مقابل فترة قصيرة من الجاذبية الجسدية والمتعة العاطفية التي لا تلبث أن تزول سريعًا.(9) ومن منظوره، كان يعتقد أن المرأة، بدافع من طبيعتها الغريزية، لا تبحث عن الحب الحقيقي أو الشراكة الفكرية، بل عن الأمان والدعم والاستقرار. ولأنها لا تملك القدرة على الإنتاج العقلي أو العملي، فهي تستهدف الرجل الذي يملك القوة أو المال أو المكانة، لتتعلق به وتسعى إلى الزواج منه، ليس حبًا له كشخص، بل كوسيلة لضمان مستقبلها ومستقبل أطفالها. وهذا، في نظر شوبنهاور، يضع الزواج في خانة تبادل المصلحة، لا المشاعر الصادقة، ويجرده من أي قيمة إنسانية أو روحية. ولذلك كان يصف الزواج بأنه "صفقة تُبرم بين طرفين، أحدهما يخدع، والآخر يُخدع".(10) وقد ذهب إلى أبعد من ذلك عندما رأى أن الزواج يقود الرجل إلى فقدان استقلاله الفكري والعملي، لأنه يُرغمه على العمل والكدح لإعالة زوجته وأطفاله، ويمنعه من التفرغ للتأمل أو الفلسفة أو الفن، وهي الغايات التي اعتبرها سامية وتستحق أن يُكرّس لها العمر. في المقابل، لا يرى أن المرأة تضحي بشيء في الزواج، لأنها، كما يرى، تُحقق غاياتها الطبيعية وتبقى ضمن نطاق وظائفها البيولوجية، بينما يُطلب من الرجل أن يتحمل العبء المادي والنفسي والأخلاقي للبيت والأسرة. وهكذا يتحول الزواج، حسب تعبيره، إلى "فقدان للحرية مقابل وهم السعادة".(11) ومن أبرز أسباب نفوره من الزواج أيضًا، اعتقاده بأن المرأة تتغير تمامًا بعد الزواج، فهي في فترة الخطوبة تُظهر أجمل ما فيها من لطف وحنان وأنوثة وجاذبية، ولكن بعد الزواج – وحين تضمن الرجل – تنكشف طبيعتها الحقيقية، وتصبح مزاجية، متطلبة، مسيطرة، تسعى للهيمنة على الرجل وتقييده. ولأنه رأى أن طبيعة المرأة تميل إلى الخداع والمراوغة والتمثيل، فقد اعتبر أن الزواج يكشف هذا القناع، ويُرغم الرجل على العيش مع امرأة مختلفة تمامًا عن تلك التي ظن أنه اختارها في البداية. ولهذا كان يرى أن الزواج ليس فقط خطرًا على راحة الرجل، بل على كرامته وعقله أيضًا.(13) ولم يكن شوبنهاور يؤمن بفكرة الحب الرومانسي بوصفه دافعًا للزواج، بل كان يرى الحب نوعًا من "الخداع البيولوجي" الذي تُمارسه الإرادة – تلك القوة العمياء التي تحكم الحياة – لتدفع الرجل والمرأة إلى التناسل. فالحب، من وجهة نظره، ليس إلا وسيلة لإغراء الرجل بالوقوع في شرك الزواج والإنجاب، حتى يستمر النوع البشري. وكل ما يُبنى على هذا الحب، من زواج وأسرة، ليس إلا وسائل الطبيعة لتمرير إرادتها العمياء. ولهذا، فإن الزواج في جوهره ليس قرارًا واعيًا أو أخلاقيًا، بل نتيجة حتمية لهيمنة الإرادة، وهو ما يجعل نتائجه مليئة بالبؤس والمعاناة، لأن الإنسان فيه لا يكون حرًا، بل مسيرًا بقوة خارجة عن وعيه.(14) وقد وصف شوبنهاور الرجل الذي يتزوج بأنه “يضع مصيره الكامل بين يدي مخلوق غير ناضج، سطحي، متقلب، تقوده الغريزة وتخدعه العاطفة.” فكيف، في نظره، يمكن لعاقل أن يسلم حياته لشخص لا يرى فيه تكافؤًا في العقل أو الرؤية أو المصير؟ كان يرى أن الزواج لا يُناسب الفلاسفة والمفكرين، لأنهم بحاجة إلى العزلة والحرية والتركيز، بينما الزواج يُدخلهم في دوامة من الانشغالات والمسؤوليات والتوترات اليومية، تُفقدهم القدرة على التأمل والنقاء الفكري. ولهذا، كان من أبرز دعاة العزوف عن الزواج كخيار فلسفي، لا فقط شخصي.(15) ولم تكن هذه النظرة نابعة فقط من فلسفته النظرية، بل من تجاربه الشخصية أيضًا. فقد عاش شوبنهاور حياته كلها عازبًا، ولم يرتبط بعلاقة طويلة أو مستقرة مع أي امرأة. ويُقال إنه مر بتجارب عاطفية سطحية ومتوترة، زادت من قناعته بأن المرأة كائن لا يُمكن الوثوق به أو الاعتماد عليه في حياة عقلية أو روحية. ومع تقدمه في السن، ازداد اقتناعه بأن الزواج فخٌّ كبير، وأن الرجل الذكي هو من يكتفي بالحب المؤقت – إن احتاج – أو يتفرغ لحياته الفكرية دون أن يورط نفسه في مؤسسة وصفها بأنها “عبودية اجتماعية مقنعة.” ورغم أن كثيرين يعتبرون هذه الآراء تحاملًا قاسيًا على النساء، أو نتيجة لمشاكل نفسية وشخصية، إلا أن شوبنهاور كان يراها امتدادًا منطقيًا لفلسفته الكبرى عن الوجود. ففي عالمٍ تحكمه الإرادة العمياء، ويتسم بالبؤس والمعاناة، لا يمكن لمؤسسة مثل الزواج – القائم على الاستمرار والإنجاب – أن تكون أمرًا إيجابيًا أو مبهجًا، بل هي، في نظره، تأكيد إضافي على مأساوية الحياة. ولهذا، كان يُشيد بالرهبنة والعزوبة والفكر التأملي كسبيل للخلاص، ويرى أن الرجل الذي ينجو من فخ الزواج إنما ينجو من سلسلة طويلة من الألم والندم والانحدار. بعد انتحار والده في عام 1805، اتخذت والدته مسارًا مختلفًا في حياتها، حيث انتقلت إلى فايمار وأصبحت واحدة من الوجوه البارزة في الوسط الأدبي والثقافي، مديرة صالون أدبي يضم كبار المثقفين والفنانين في ألمانيا، مثل غوته وآخرين. غير أن هذا التحول في حياتها لم يكن محط إعجاب أو احترام لدى آرثر، بل كان بداية لانهيار العلاقة بينه وبينها. فقد رأى في تصرفاتها بعد وفاة والده نوعًا من البرود العاطفي والأنانية، إذ بدت وكأنها تخلت عن الحزن والأسى بسرعة، وهرعت إلى تحقيق طموحاتها الشخصية.(16) بدأ التوتر يتصاعد بين الأم والابن تدريجيًا، خاصة عندما لاحظ شوبنهاور أنها لم تكن تقدّر طموحاته الفكرية، بل كانت تنتقده على مزاجه الحاد وتشاؤمه، وتراه شخصًا يصعب التعامل معه. كان كلاهما يتمتع بشخصية قوية وعنيدة، ما جعل الخلافات بينهما حتمية. وقد وصفت يوهانا ابنها في إحدى رسائلها بأنه “غير قابل للتحمّل”، بينما اتهمها هو بالسطحية وافتقاد العمق الإنساني، بل واعتبر أنها لا تكتب بدافع البحث عن الحقيقة بل من أجل نيل الشهرة والتقدير الاجتماعي. وتُروى حكايات كثيرة عن مشاجرات حادة بينهما، انتهت بانفصال تام لم يُصلح أبدًا، حيث لم يلتقيا مرة أخرى بعد أن بلغ شوبنهاور سن الرابعة والعشرين. تلك العلاقة المضطربة مع والدته أثّرت عميقًا في نظرته للمرأة، فغالبًا ما يُلاحظ أن كتاباته عن النساء تنبع من تجربة شخصية سلبية أكثر مما هي نتيجة تحليل فلسفي محايد. ففي مقالته الشهيرة “عن النساء”، كتب بحدة أن النساء بطبيعتهن سطحيات، وأنهن يفتقرن إلى القدرة العقلية الكاملة، وذهب إلى أبعد من ذلك حين قال إن المرأة خُلقت لتكون تابعة للرجل، وأنها تشبه الطفل الكبير الذي لا ينبغي الوثوق به في الأمور الجدية. هذه الآراء المتطرفة لم تكن شائعة حتى في عصره، بل أثارت استياء العديد من المفكرين والقراء، لكنها تعكس مدى تأثره بتجربته مع والدته، التي مثّلت لديه نموذجًا للمرأة المتسلطة، غير العاطفية، والبعيدة عن الصورة التقليدية للأم الحنون. لا يمكن فصل فلسفة شوبنهاور عن سيرته الذاتية، خاصة حين يتعلق الأمر بموقفه من المرأة. فالحقد الذي أبداه تجاه النساء لم يكن موقفًا فلسفيًا مجردًا بقدر ما كان رد فعل نفسي عميق الجذور، تشكل في طفولته وشبابه نتيجة الإحباط العاطفي الذي عاناه في علاقته مع والدته. لقد عانى من غياب الحنان والرعاية، وشعر بالخذلان من أقرب إنسانة إليه، فتحولت تلك المشاعر إلى موقف عدائي عام من النساء، تم تغليفه لاحقًا بغلاف فلسفي يبرره ويعطيه مشروعية فكرية. ومن هنا، فإن شوبنهاور، رغم عبقريته، وقع في فخ التعميم، وحوّل جرحًا شخصيًا إلى موقف فلسفي، لا يزال مثار نقد واسع حتى اليوم.(17) شوبنهاور أعرض عن الزواج لأنه رآه تضحية لا مبرر لها، وفقدانًا للحرية، واستسلامًا لإرادة الحياة التي يجب – حسب فلسفته – مقاومتها والتعالي عليها، لا الخضوع لها. ولأنه رأى في المرأة تجسيدًا لتلك الإرادة، فقد اعتبر أن الارتباط بها، وخاصة من خلال الزواج، يُبقي الرجل في دائرة المعاناة ويحرمه من التحرر الذي يجب أن يسعى إليه كل فيلسوف أو مفكر. ومن هنا، لم يكن رفضه للزواج مجرد خيار شخصي، بل موقف فلسفي جذري من طبيعة الإنسان والعلاقات والحياة ذاتها. الهوامش 1_ قيس هادي أحمد، الدكتور، دراسات في الفلسفة العلمية والانسانية، ص152 وما بعدها، الطبعة الأولى بغداد لسنة 2000. 2_ ماري لومونييه، الفلسفة والحب، ص 131، وما بعدها، دار التنوير الطبعة الثانية 2019، بيروت – لبنان بترجمة دينا منصور. 3_ وول ديورنت، قصة الفلسفة، ص249، منشورات المكتبة الفلسفية، العراق – بغداد الطبعة الأولى لسنة 2017 بترجمة فتح الله محمد المشعشع. 4_ برتراند رسل، حكمة الغرب الجزء/ الثاني ص 171، منشورات عالم المعرفة بالرقم 2009 الطبعة الثانية، ترجمة د. فؤاد زكريا. 5_زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة، ص 208- 209، نشورات دار النخيل بغد العراق، الطبعة الأولى لسنة 2019. 6_ ديوجين لايرتيوس، مشاهير الفلاسفة ص 287، منشورات مكتبة النافذة، ترجمة عبد الله حسين، مصر الطبعة 2011، بالجيزة. 7_ يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 293، دار القلم بيروت، من دون ذكر سنة الطبع، وتاريخ النشر. 8_ ماري لومونييه و أود لانسولان، الفلسفة والحب، ص 121، وما بعدها، منشورات التنوير ترجمة: دينا مندور، بيروت لبنان، الطبعة الثانية 2919. وراجع: وليم كيلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 350، وما بعدها. منشورات دار التنوير الطبعة الرابعة ترجمة محمود سيد أجمد، ومراجعة امام عبد الفتاح امام، سنة الطبع 2023. وراجع: د. قيس هادي أحمد، الدكتور، دراسات في الفلسفة العلمية والانسانية، ص152 وما بعدها، الطبعة الأولى بغداد لسنة 2000. 9_ وليم كيلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 350، وما بعدها. منشورات دار التنوير الطبعة الرابعة ترجمة محمود سيد أجمد، ومراجعة امام عبد الفتاح امام، سنة الطبع 2023. مصدر سبق ذكره. 10_ ماري لومونييه و أود لانسولان، الفلسفة والحب، ص 121، وما بعدها، منشورات التنوير ترجمة: دينا مندور، بيروت لبنان، الطبعة الثانية 2919. مصدر سبق ذكره. 11_ المصدر السابق. 12_ نفس المصدر. 13_ قيس هادي مصدر سابق. 14_ قيس هادي المصدر نفسه. 15_ وليم كيلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 350، وما بعدها. منشورات دار التنوير الطبعة الرابعة ترجمة محمود سيد أجمد، ومراجعة امام عبد الفتاح امام، سنة الطبع 2023. مصدر سبق ذكره. مصدر سابق. 16_ برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية جـ 3، ص 383، ترجمة الدكتور محمد فتحي الشنيطي، في مصر لسنة 177. 17_ يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 293، دار القلم بيروت، من دون ذكر سنة الطبع، وتاريخ النشر. مصدر سبق ذكره.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سقوط النجمة في جيب الزورق
-
خلاصة كتابي (اعترافات) قيد النشر
-
حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمك
...
-
إلى أين يمضي الفساد في العراق
-
ليس دفاعًا عن ترامب
-
احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
-
هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
-
أياد الطائي… ضحية وطن
-
من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
-
حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
-
نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
-
حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
-
في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
-
(المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
-
دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
-
دلالة الزمن في السرد
-
المثقف المقولب: السلطة بصوت ناعم(36)
-
المثقف في مواجهة القوالب الأيديولوجية(35)
-
النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)
-
المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)
المزيد.....
-
السعودية في معرض فرانكفورت: تحد لصورة نمطية لكن بأي شكل ومحت
...
-
بايرن يلحق الهزيمة الأولى بدورتموند.. ولايبزغ يرتقي للوصافة
...
-
-خسرنا ثقة القطريين-...ويتكوف يشعر بـ-الخيانة- حيال هجوم إسر
...
-
فايننشال تايمز: بهذا رد البرغوثي على بن غفير في فيديو المواج
...
-
البرهان: مستعدون للتفاوض بما يصلح السودان ويبعد أي تمرد
-
الداخلية السورية تفكك خلية لتنظيم الدولة في ريف دمشق
-
نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة
...
-
فيديو منسوب للبرهان بشأن مفاوضات تسوية النزاع بالسودان.. هذه
...
-
الصليب الأحمر يسلم جثامين 15 فلسطينيًا من إسرائيل إلى غزة
-
كيف يمكن للهرمونات أن تتحكّم بعقولنا؟
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|