|
دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 13:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي من أقوال وآراء لعدد من رجال اللاهوت، وهم يتحدثون عن الغيبيات بتفاصيل لا سند لها من نص صريح أو دليل عقلي، يشكل مشهدًا واضحًا لتسطيح العقل ونشر الجهل. فحين تُعرض هذه الطروحات على أنها حقائق يقينية غير قابلة للنقاش، فإنها تُغلق باب التفكير النقدي، وتُروج لفهم جامد للدين، منفصل عن الواقع ولا ينسجم مع المنطق أو العقل. وقد يتم تداول هذه الآراء على نطاق واسع، ويُقدّم أصحابها كرموز للعلم والمعرفة الدينية، رغم أن ما يطرحونه في كثير من الأحيان يفتقر إلى التأصيل العلمي والموضوعية. هذا التوجه يُعزز في الجمهور العادي ثقافة الاستسلام والتلقي، ويُهمش دور العقل في فهم النصوص ومقاصد الشريعة، بل ويجعل الدين نفسه يبدو وكأنه معادٍ للعلم ومناقض للفهم السليم. وتكمن خطورة هذا الخطاب هي أنه يخلق حالة من الغيبوبة الفكرية، ويجعل من الجهل فضيلة، ومن التفكير تهمة. ولذلك، فإن التصدي لهذا النمط من الخطاب لا يكون بالتجريح، بل بدعوة جادة إلى إحياء التفكير العقلاني في الخطاب الديني، وربط الدين بواقع الإنسان، لا بعالم خيالي لا صلة له بالحياة. وهذا يتطلب من العقول النيرة، أن تتصدى لهذا الواقع المرير، حتى يتم بناء واقع ملموس ينقل الحال المريضة إلى حال سليمة، يكون واجب العقل فيها المرشد والدليل. ولو عدنا إلى مراحل التاريخ، سنرى كان رجال اللاهوت في موقع مركزي من تشكيل وعي المجتمعات، وكان يفترض أن يكون دورهم إرشاديًا، توعويًا، يدفع الإنسان إلى التفكر والتأمل والتعمق في فهم وجوده وعلاقته بالخالق والكون. غير أن هذا الدور النبيل كثيرًا ما انحرف عن مساره، فتحول من منارة للهداية إلى أداة للتسلط، ومن وسيلة لتحرير الإنسان روحيًا إلى وسيلة لتقييده فكريًا. وما أسهم في ترسيخ هذا الانحراف هو تواطؤ بعض رجال اللاهوت مع السلطة، وخضوعهم لمنطق الهيمنة بدل أن يكونوا صوتًا للحق والحرية. حيث أصبح بعضهم، لا جميعهم، فاعلين رئيسيين في مشروع تسطيح العقول وصناعة الجهل. فحين يتصدر رجل اللاهوت المشهد الثقافي والسياسي، ويتحول من مرشد روحي إلى ناطق رسمي باسم الحقيقة المطلقة، يبدأ العقل في التراجع، ويبدأ النقل في الحلول محل التفكير. يتحول الإيمان من علاقة وجدانية شخصية بين الإنسان وربه، إلى منظومة طقوسية جافة لا روح فيها، يتحكم بها رجل اللاهوت، يوزع من خلالها صكوك النجاة والغفران، ويحدد للناس ما يجوز وما لا يجوز، لا وفق فهم عميق للنصوص، بل وفق مصالح آنية ومزاجات شخصية. وتُفرَض على الناس قوالب فكرية مغلقة، لا مجال فيها للاجتهاد أو النقاش، تحت ذريعة الحفاظ على الثوابت أو مواجهة الفتن. هذا النوع من التدين المؤسسي يسعى إلى قتل التساؤل، وإسكات الشك، وشيطنة الفكر. فيتحوّل السؤال إلى معصية، والتأمل إلى خروج عن الجماعة، والاجتهاد إلى بدعة. وتُبنى هيبة رجل اللاهوت على قدرته في إخافة العقول لا في إقناعها، في فرض الطاعة لا في إلهام المحبة. وهكذا يصبح العقل البشري أسيرًا لسلطة لا تقبل النقد، وتقدم نفسها على أنها مالكة للحقيقة الإلهية، بينما هي في الواقع تُكرّس واقعًا من الجهل والخضوع، تُلبسه ثوب الدين زورًا. ولعلّ الأخطر من ذلك أن بعض رجال اللاهوت لا يكتفون بمنع التفكير الحر، بل يزرعون الخوف في النفوس، الخوف من السؤال، الخوف من المختلف، الخوف من العقاب الأخروي في حال الشك أو التأمل أو مجرد الرغبة في الفهم. وهذا الخوف يتسلل إلى تفاصيل الحياة، فيجعل الإنسان يعيش باستمرار تحت وطأة الرهبة، لا الرحمة. وتتحول العلاقة مع الله من حب وسعي للمعرفة، إلى طقوس آلية تهدف فقط لتجنب العقاب. وهنا يُفقد الدين معناه الحقيقي كقوة تحرير للإنسان، ويُختزل في مجموعة من التعليمات التي يُفترض الالتزام بها بلا نقاش، لأن رجل اللاهوت قد قال بها، وهو في نظر الناس لا يُسأل ولا يُناقش. لقد ساهم كثير من رجال اللاهوت، عن وعي أو جهل، في تكريس صورة مشوهة للدين، فأصبح الدين في أذهان الكثيرين مرادفًا للقمع الفكري، لا للرحمة والعدل. وتم تشويه صورة العالم المتدين الحقيقي، ذلك الذي يحث على التفكير ويشجع على السؤال، ويُقدّر العلم ويوقر العقل. بل تمت محاصرة هؤلاء المفكرين والتشكيك في نواياهم، لأنهم هددوا سلطة الاحتكار التي اعتادها المتصدرون للمشهد الديني. ومن خلال سيطرتهم على منابر المساجد، ووسائل الإعلام، والمناهج التعليمية، قام بعض رجال اللاهوت بتكريس أنماط فكرية محددة تخدم مصالحهم وتعيد إنتاج مواقعهم في المجتمع. لم يعودوا مجرد ناقلين للمعرفة الدينية، بل تحولوا إلى مهندسي وعي، يشكلونه وفق ما يرونه مناسبًا، ويُقصون كل من يخالفهم أو يعارض رؤيتهم. لقد أصبحت مؤسساتهم جزءًا من البنية العميقة التي تدير الجهل، لا تقاومه، وتغذيه لا تفضحه. إن تسطيح العقول باسم اللاهوت هو أخطر أنواع التسطيح، لأنه يرتدي ثوب القداسة، ويُعطى سلطة مطلقة لا يجرؤ كثير من الناس على مساءلتها. فحين يُطلب من الفرد أن يوقف عقله احترامًا للدين، يُصبح سجينًا بلا سلاسل، لا يشعر حتى بأنه مقيد. بل قد يُدافع عن قيده، ويهاجم من يريد تحريره، لأنه أُقنع بأن استخدام العقل هو تمرد على الله، مع أن أول ما نزل في الوحي كان دعوة للقراءة والتأمل. ومن المفارقة أن الأديان الكبرى كلها، وفي مقدمتها الإسلام، جاءت لتحرر الإنسان من الخوف والجهل، لا لتعززهما كما يدّعون. جاءت لتفتح أفق الفكر، لا لتغلقه، واليوم نرى العكس- العكس تماما. لكن حين يُختزل اللاهوت في مجموعة فتاوى، ويتحوّل إلى خطاب سلطوي، يفقد جوهره وتتحوّل رسالته إلى أداة هيمنة، وهو الذي يجري اليوم في واقعنا. وهنا لا يعود الخطر في الدين نفسه، بل في من يُحرفه عن مقاصده، ويوظفه لتكريس الجهل والوصاية على العقول. وتبقى المواجهة، كيف تحصل؟، حيث نرى إن مواجهة هذا الواقع لا تكون بعداء الدين، بل بإعادة الدين إلى مكانه الطبيعي كقوة أخلاقية وإنسانية وروحية، لا كسلطة تُحاصر العقل. ولا بد من إعادة الاعتبار للعقل في فهم النصوص، وللسؤال في مسيرة الإيمان، وللاجتهاد في استنباط الأحكام. يجب أن نعيد تعريف رجل اللاهوت الحقيقي، لا بوصفه حارسًا على العقول، بل بوصفه موجهًا وميسرًا، لا محتكرًا للمعرفة، بل شريكًا في البحث عنها. لأن المجتمعات التي تُصادر عقول أفرادها باسم المقدّس، إنما تُهلك نفسها، حتى وإن ظنت أنها تسير على الطريق الصحيح. ــــــــــــــــــ *إحالات: 1. في نقد الحاجة إلى الإصلاح – حسن حنفي، منشورات دار الفكر المعاصر، لسنة 1999. 2. علي حرب. نقد النص. دار الطليعة، بيروت، 1993. 3. دفاعا عن العقل والحداثة، د. محمد سبيلا، منشورات مركز أساس فلسفة الدين – بغداد، سنة الطبع 2004. 4.أوليفييه روا، الجهل المقدس، نسخة بي دي أف، مكتبة النور.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دلالة الزمن في السرد
-
المثقف المقولب: السلطة بصوت ناعم(36)
-
المثقف في مواجهة القوالب الأيديولوجية(35)
-
النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)
-
المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)
-
نبيّ الخمرة ونقّاد الوهم: تفكيك قصة (دمية راقصة) للكاتب عبد
...
-
تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)
-
المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)
-
جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي
-
المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
-
المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
-
القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
-
المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
-
أوجاع غير قابلة للغفراف
-
الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
-
هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
-
المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
-
تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
-
المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
-
تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
المزيد.....
-
مؤتمر الوحدة الإسلامية الـ 39 يعقد في طهران اعتبارا من 8 ايل
...
-
الهباش أمام مؤتمر جماهيري في باكستان: فلسطين خندق الدفاع الأ
...
-
رغم تضييقات الاحتلال.. عشرات الآلاف يصلون بالمسجد الأقصى
-
بابا الفاتيكان يطالب رئيس الاحتلال بوقف دائم لإطلاق النار ف
...
-
مشروع الكنيسة الرئاسية يثير جدلا دستوريا في كينيا
-
السويداء: الشيخ موفق طريف يدعو أوروبا للتدخل ويقول لولا تدخل
...
-
مصر.. الإفتاء ترد على سؤال -اذكر 3 خلفاء راشدين أو تابعين اح
...
-
الاحتلال يشن حملة اعتقالات واسعة في حارس غرب سلفيت
-
بابا الفاتيكان يناقش -الوضع في غزة- مع الرئيس الإسرائيلي
-
الهباش خلال ندوة في الباكستان: فلسطين أمانة وحماية الأقصى مس
...
المزيد.....
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
المزيد.....
|