|
هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 22:47
المحور:
الادب والفن
رواية "هب الله" للكاتب العراقي علي قاسم تنتمي إلى النمط الواقعي الاجتماعي النفسي، وتحمل في طياتها سيرة شخصية موجعة لشاب عراقي تبدأ حياته بوصمة لا ذنب له فيها، فيعيش سلسلة من المآسي المتلاحقة في بيئة مضطربة، ويتنقل عبر محطات مختلفة داخل العراق وخارجه، باحثًا عن الذات، وعن الخلاص، وعن معنى للغفران. الرواية قصيرة بعدد صفحاتها، لكنها غنية على مستوى المضمون والتجربة الإنسانية المعقدة التي تسردها بلغة واضحة، مهذبة، غير متكلفة، لكنها مشحونة بالعاطفة والمواقف المؤثرة. تبدأ الرواية من ولادة وليد، وهو بطل القصة، الذي يُوصم منذ البداية بوصمة اجتماعية قاسية في المجتمع العراقي، حيث يُنعت بالـ "نغل"، وهي مفردة عامية شديدة الإهانة، تطلق على الطفل المولود خارج إطار الزواج الشرعي. هذه البداية تُرسّخ في ذهن القارئ بأن الشخصية التي سيصحبها طوال الرواية محاطة بالنبذ، والخذلان، والانكسار. وليد لا يعيش في كنف أسرة حقيقية، بل في بيت مختل المعايير، بيت رجل يُدعى مكي الأعرج، وهو شخصية سكرية عربيدة، عدوانية، لا تعرف الاستقرار، وزوجته أم الود تشاركه الفساد والانحدار الأخلاقي، بل تتعدى ذلك إلى استغلال الطفل وليد جسديًا في لحظات غاب فيها الضمير الإنساني تمامًا. هذه العلاقة الشاذة بين وليد وأم الود، والتي تتكرر تحت قناع كلمات مكررة “اغفر لي”، تكشف عن عمق الجرح الذي سيسكن روح البطل طوال حياته، والذي لن يجد له تفسيرًا كاملًا إلا في نهاية الرواية، عندما يعود إلى بغداد ويكتشف أن مكي قتل زوجته بعد أن تأكد من خيانتها له. عندها فقط، تتجلى له الحقيقة، ويستوعب مغزى كلمات “اغفر لي” التي كانت تطلبها منه وهي تنتهكه، في لحظات كان فيها طفلاً لا يملك سوى الصمت. الرواية لا تقف عند حدود المأساة الشخصية لوليد، بل تضعنا أمام مشهد اجتماعي عام، يمثل جزءًا من الواقع العراقي الذي تحكمه الذكورية العنيفة، والانهيار القيمي، وسط غياب القانون والعدالة والرحمة. هذا ما يجعل الرواية أكثر من مجرد سرد لمأساة فردية، بل سرد لمأساة جيل كامل نشأ في ظروف الحرب والقمع والفقر والفساد. وليد، الذي يكبر في هذا الجو، يتمكن رغم كل شيء من مواصلة حياته، يدخل المدرسة، ويحصل على الشهادة المتوسطة، ثم يُستدعى إلى الخدمة العسكرية في فترة الحرب العراقية - الإيرانية، وهي محطة أخرى من محطات الألم والعنف. بعد انتهاء الحرب وسقوط النظام، يجد نفسه في وضع لا يقل ضياعًا، فيقرر الهرب من البلاد بحثًا عن حياة أكثر إنسانية في مكان آخر. رحلة الهروب التي يسلكها وليد عبر التهريب من تركيا إلى اليونان تكشف عن خطورة اللجوء، والمخاطر التي يتعرض لها اللاجئون في طريقهم إلى المجهول. القارب الذي يغرق بمن فيه، ولا ينجو منه سوى وليد وشخص آخر يدعى عمار، يحمل في داخله بعدًا رمزيًا عميقًا. فاسم عمار هو نفسه الاسم الذي أطلقه وليد على ابنه من زوجته صوفيا، التي تعرف عليها لاحقًا في براغ وتزوجها وأنجب منها بعد حياة قصيرة مستقرة. قد يكون عمار الشخص الناجي معه مجرد صدفة روائية، أو انعكاسًا رمزيًا للابن الغائب الذي صار صديقًا ورفيقًا للتيه في أرض الغربة. في براغ، يتعرف وليد على العجوز أسمها ماري، وهي امرأة أوروبية كبيرة في السن، ليس لها أولاد، فتتخذ من صوفيا و وليد بمثابة “أبنائها”، وهنا نجد دلالة رمزية في الاسم ذاته “هب الله”، كأن الله قد عوض وليد بصوفيا والعجوز، وكأنها تمثل تعويضًا إلهيًا عن الحرمان الأمومي، أو احتضاناً بديلاً بعد فقدان العائلة الحقيقية، وبالتالي حين ماتت ماري أوصلت بكل أموالها لوليد وصوفيا. وجودها في الرواية يمثل لحظة ضوء وسط ظلمة الحياة التي عاشها وليد. أما صوفيا، الفتاة الجميلة التي يتزوجها وليد لاحقًا، فتمثل الحب، الاستقرار، والطمأنينة التي لطالما افتقدها. علاقته بصوفيا لم تكن فقط ارتباطًا عاطفيًا، بل كانت بمثابة محطة لتطهير داخلي من كل ما مرّ به من قسوة وانتهاك. لكن، وبرغم كل ذلك، لا يتمكن وليد من التخلي عن حنينه إلى الوطن، إلى بغداد التي تركها، بكل ما فيها من قسوة وألم. الحنين هنا يتجاوز حدود المكان، ويصل إلى الجذور، إلى محاولته فهم ذاته، ومواجهة ماضيه المؤلم. فيقرر العودة، رغم معرفته بأن العودة قد لا تكون سهلة أو مريحة. وبالفعل، حين يصل إلى بغداد، يكتشف أنها لم تعد كما كانت، والناس لم يعودوا كما تركهم، والذكريات باتت عبئًا أكثر منها ملاذًا. وهنا تبدأ مرحلة المكاشفة الحقيقية، إذ يعود إليه صوت أم الود وهي تردد "اغفر لي يا وليد"، وتبدأ الصورة بالاكتمال. يدرك وليد أن ما كان يراه مجرّد كلمات تائهة، كانت في الواقع اعترافًا بأن ما فعلته به ليس فقط جريمة، بل أيضًا علامة دائمة في حياته، ربما ساهمت في تشويش فهمه للحب، للثقة، وللأمان. الرواية، رغم قصرها(105) صفحات، تمضي بسرد متدفق لا يتوقف، سلس لكنه مليء بالمآسي، وتطرح تساؤلات عميقة حول الذنب والغفران، حول الجريمة والعقاب، حول الهوية والانتماء، وعن إمكانية النجاة بعد كل هذا السقوط. وليد هو الإنسان المقهور الذي لم يمنحه المجتمع فرصة عادلة، لكنه رغم ذلك لم يستسلم، بل واصل الحياة، وبحث عن الحب، وعن المعنى، وعن العائلة، حتى لو كانت هذه العائلة مختلقة أو بالتبني أو في المنفى. كما تطرح الرواية إشكالية الطفولة المغتصبة، والعنف الأسري، والخذلان العاطفي، وتربط بين كل هذه القضايا وبين تدهور القيم المجتمعية في ظل الفقر والحروب والانهيارات السياسية. أما على مستوى اللغة، فقد اختار الكاتب لغة بسيطة، غير معقدة، لكنها تحمل طاقة شعورية عالية، خاصة في لحظات الألم والمواجهة. لم ينشغل بالزخرفة اللغوية، بل ركز على المعنى، وعلى العمق النفسي للشخصيات. حتى الشخصيات الثانوية، مثل مكي الأعرج، وأم الود، وهب الله، وعمار، جميعها لم تكن مجرد أسماء، بل تمثل نماذج نفسية واجتماعية واضحة، تدعم بناء الرواية وتمنحها غناها الداخلي. وبالتالي، رواية “هب الله” لا تنتهي بنهاية مغلقة، بل تترك القارئ أمام شعور بالحزن والتأمل، وكأنها تقول: ليس كل شيء قابل للإصلاح، لكن يمكن مواجهته وفهمه، وربما في ذلك نوع من النجاة. الغفران لا يكون دائمًا للآخر، بل أحيانًا لأنفسنا، كي نستطيع أن نستمر في الحياة. هكذا تنتهي الرواية، بعد سيل من الأحداث القاسية، لتفتح بابًا للتفكير في مصير الإنسان الذي يُولد مرفوضًا، ويعيش غريبًا، ويظل يبحث عن من يمنحه اسماً، وانتماء، ووجهًا يمكن أن يبتسم له دون أن يُحاسبه على ماضيه.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أياد الطائي… ضحية وطن
-
من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
-
حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
-
نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
-
حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
-
في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
-
(المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
-
دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
-
دلالة الزمن في السرد
-
المثقف المقولب: السلطة بصوت ناعم(36)
-
المثقف في مواجهة القوالب الأيديولوجية(35)
-
النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)
-
المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)
-
نبيّ الخمرة ونقّاد الوهم: تفكيك قصة (دمية راقصة) للكاتب عبد
...
-
تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)
-
المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)
-
جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي
-
المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
-
المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
-
القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
المزيد.....
-
هل يقترب أدونيس أخيرا من جائزة نوبل؟
-
النزوح في الأدب الغزّي.. صرخة إنسانية في زمن الإبادة
-
النزوح في الأدب الغزّي.. صرخة إنسانية في زمن الإبادة
-
منتدى الفحيص يحتفي بأم كلثوم في أمسية أرواح في المدينة بمناس
...
-
الطاهر بن عاشور ومشروع النظام الاجتماعي في الإسلام
-
سينما الجائحة.. كيف عكست الأفلام تجربة كورونا على الشاشة؟
-
فتح مقبرة أمنحتب الثالث إحدى أكبر مقابر وادي الملوك أمام الز
...
-
الفنان فضل شاكر يُسلم نفسه للسلطات اللبنانية بعد 13 عاما من
...
-
ابنة أوروك: قراءة أسلوبية في قصيدة جواد غلوم
-
الطيب بوعزة مناقشا فلسفة التاريخ: هل يمكن استخراج معنى كلي م
...
المزيد.....
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
المزيد.....
|