|
خلاصة كتابي (اعترافات) قيد النشر
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 18:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حين يقتل الإنسان باسم الرب، سيُعاد تشكيل الحدود بين الخير والشر، لا وفقًا لقيمٍ أخلاقيةٍ إنسانيةٍ تتشاركها البشرية، بل وفق تأويلاتٍ دينيةٍ ضيقة تُحوِّل الإله إلى طرفٍ في صراعٍ دنيوي، وتُلبسه زيًّا فصاميًّا: ربٌّ للرحمة والسلام من جهة، وإلهٌ للانتقام والإقصاء من جهةٍ أخرى. في هذا المشهد القاتم، يصبح الدين - المعتمد ليس وسيلة خلاص، بل أداة سلطة، وسيفًا مشرّعًا بوجه المختلف، أو حتى المتمايز ضمن الدائرة ذاتها. حينها تنقلب المفاهيم حيث يتحوّل الإيمان من علاقة وجدانية بين الإنسان والمقدّس إلى آلية لفرز الناس وتصنيفهم: "إذا لم تكن معي، فأنت ضدي"، لا تُقال بوصفها جملة عابرة، بل كقاعدة وجودية تؤسس لشرعية إلغاء الآخر، وربما سفك دمه. وهذا ما وقع بالفعل، كما سنوضح في هذه الأسطر التالية. في الوطن العربي، حيث الدين لم ينفصل عن المجال العام، وحيث التاريخ مثقلٌ بالأسطرة والتقديس، يظهر الصراع الديني - السياسي كأحد أعنف تجليات التوتر بين الهويّة والسلطة، وأنا اعزوه لثلاثة عقود من الزمن، وربما غيري يغزوه لعقود طويلة. لم يكن صعود الأحزاب المتطرفة صدفة عشوائية ولا فقط نتاجًا لتأويلات دينية مغلوطة، بل هو أيضًا نتاج بيئة مهيّأة، تتقاطع فيها الخيبات السياسية مع الحاجات الروحية، وينهار فيها مشروع الدولة الحديثة لصالح مشاريع الطائفة والقبيلة والعشيرة. هذا الانهيار سمح للأحزاب المتطرفة أن تملأ الفراغ، لا كبديل سياسي، بل كمنقذ ديني، أو كـ"وكيل الله" في الأرض. والبعض يتهم الغرب بالتعامل مع المتطرفين، لإنتاج هذه المنظومة. العراق، في هذا السياق، كان مسرحًا مركزيًّا لصعود هذه الظواهر. بعد الغزو الأميركي وسقوط النظام السابق، تفكك البلد إلى هويات فرعية، وأُعيد تشكيل المشهد السياسي على أساس طائفي ومذهبي. ظهرت أحزاب تمتلك أيديولوجيات دينية متشددة، بعضها اعتمد على فتاوى فقهية قديمة أو متجددة، وبعضها تبنّى رؤية دينية حدّية تعادي الدولة وتؤمن بولاءٍ فوق وطني، وغالبًا فوق بشري، حيث الولاء الحقيقي ليس للوطن ولا حتى للمجتمع، بل لفكرة ميتافيزيقية يُراد لها أن تكون مشروعًا سياسيًا. من هنا، يصبح القتل ليس فقط مقبولًا، بل واجبًا دينيًا، وتُلغى المسؤولية الأخلاقية باسم العقيدة، ويُعاد تعريف الجريمة كعملٍ "مقدّس". ما يُثير القلق حقًا، ليس فقط في صعود هذه الحركات، بل في تبني جمهور واسع لها، جمهور يشعر بالإقصاء والخذلان، ويبحث عن معني لحياته وسط عالمٍ ينهار من حوله. هنا تلعب مشاعر الضياع واللاجدوى دورًا حاسمًا، وتصبح “العقيدة” المتطرفة بمثابة المعنى الذي يُعيد تماسك الذات المتصدعة. لا عجب أن غالبية المنضمين لهذه الجماعات هم من الشباب، الممزق بين حاضرٍ ميؤوس منه، ومستقبل غامض، حيث تنخره البطالة والعوز، وماضٍ يُعاد تخليقه كأسطورة خلاص. وهنا، يظهر أن المسألة ليست فقط فكرية أو دينية، بل وجودية بامتياز. في قلب هذه الفوضى، تقف شخصيات تتصرف كأنها مبعوثة العناية الإلهية، تبني مجدها على جراح الناس، وتحتمي بالدين لتشرعن العنف. عزت إيماني، كمثال تحليلي، يُمثل نموذجًا لمن يوظّف الدين كدرعٍ أيديولوجي، لا كمرجعية روحية. تصرفاته لا يمكن قراءتها إلا ضمن هذا السياق المأزوم، حيث يُعاد إنتاج الرموز على أساس “التضاد” لا “التلاقي”، وعلى أساس “الطهر” مقابل “النجاسة”، وكل من يخرج عن الإطار المحدد مسبقًا يُعتبر تهديدًا، بل يستحق الإبادة المعنوية، وربما الفيزيائية. إنّ ما يفعله إيماني وأمثاله هو أنهم يزرعون في الوعي الجمعي فكرة وجود حرب كونية بين الحق والباطل، وكأنهم يحتكرون تعريف “الحق”، وكأن الباطل يسكن في أي اختلاف عنهم. في هذا الإطار، تتماهى الميتافيزيقا مع السياسة، ويُصبح التديّن وسيلة سيطرة لا تحرر. بل تُقلب الوظيفة الدينية نفسها: بدلاً من أن تكون الدينونة مسألة فردية مرتبطة بما بعد الموت، تُصبح وظيفة دنيوية، وشرعية تنفيذ الحكم تنتقل من الإله إلى ممثليه المزعومين. لذا حين تُصفّى المجتمعات من التعدد، وتُعاد هيكلتها على أساس عقائدي صارم، فإننا لا نتجه نحو مجتمع الإيمان، بل نحو مجتمع الطاعة العمياء. في مثل هذا النظام، لا مجال للفرد، ولا لمساحة الاختلاف، ولا حتى للتأمل الحر. يتحوّل العقل إلى خطر، والتساؤل إلى خيانة. ويصبح القتل، لا باعتباره سلوكًا منحرفًا، بل كفعل مقدس، نابع من منطق يؤمن بأن الفكرة أهم من الإنسان، وأن العقيدة تسبق الحياة. ومن منظور فلسفي، هذه الظاهرة تطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين المقدس والعنف، بين الإيمان والسيطرة. هل يمكن للدين أن يكون منزّهًا عن العنف إذا ظل مرتبطًا بالسلطة؟ وهل يمكن للإنسان أن يؤمن دون أن يحوّل إيمانه إلى سيف؟ في الحقيقة، لا مشكلة في الإيمان ذاته، بل في تحويله إلى هوية مغلقة، إلى جدار فاصل، إلى معيار للحكم على الآخرين. هنا تُولد الفاشية الدينية، لا كاختلالٍ عرضي، بل كنتاج طبيعي لمنظومة فكرية ترى المختلف تهديدًا، والاختلاف خطيئة. من هنا تأتي الحاجة إلى نقد جريء، لا فقط للدين المسيس، بل للفكر الذي يُبرّر التوحش باسم المقدّس. لأن الإيمان الحقيقي لا يحتاج إلى دماء ليثبت وجوده، ولا إلى أعداء ليبرر معناه. بل يحتاج إلى فضاء حر، يُسمح فيه للناس أن يختاروا، أن يُخطئوا، أن يُعيدوا تعريف علاقتهم بما فوق، دون وصاية، دون سيفٍ مسلط، ودون خوفٍ دائم من أن يكون “الله” قد أصبح أداة في يد من قرر أن يتكلم باسمه، ويحكم، ويقتل. في هذه الخلاصة التي أختم بها كتابي الذي أسميته “اعترافات”، لا أسعى إلى تبرير ما حدث، ولا إلى استدرار تعاطفٍ متأخر، بل أكتب بدافع الحاجة إلى مواجهة الذات مواجهة لا مجاملة فيها، ولا زيف، ولا استحضارٍ انتقائيّ للذكريات. ما جرى، بكل فوضاه، بكل وجعه، وبكل القسوة التي فرضها على الروح والعقل، لم يكن مجرد سلسلة من الأحداث التي عبرت الحياة كما تعبر الريح سطح الماء، بل كان زلزالًا بنيويًا، هزّ يقيني، وصهر مفاهيمي، وأعاد ترتيب أولوياتي على نحوٍ لا رجعة فيه. لقد أعدت النظر في كل شيء، بدءًا من الإيمان، مرورًا بالهوية، وصولًا إلى فكرة الانتماء، وأدركت في عمق هذه التجربة أن الماضي لم يعد مستودعًا للقيم أو المعاني، بل صار عبئًا، قيدًا، سجنًا يُراد لي أن أظل سجينًا فيه إلى الأبد. الخلاص من الماضي لم يكن ترفًا فكريًا، ولا لحظة تمرّدٍ عابرة على تقاليد أو سرديات موروثة، بل كان ضرورة وجودية. ما حدث شكّل لديّ يقينًا أن ما سُمي يومًا “أصالة” أو “تراثًا” لم يكن دائمًا سوى ستار تتخفى خلفه قوى القمع، وتتكئ عليه مؤسسات الطغيان، وتستمد منه الجماعات المتطرفة شرعية وجودها. هذا الماضي الذي لطالما قيل لي إنه المجد، وإنه الجذر، وإنه الهوية، تبيّن لي أنه الحائط الأول الذي وُضِع بيني وبين حريتي، بيني وبين حقي في التفكير، في الشك، في التمرّد، في الاختلاف. حين يسقط عليك التاريخ لا كدروسٍ نتعلم منها، بل كصخرة تُلقَى فوق صدرك لتمنعك من التنفس، فإن الخلاص منه لا يصبح خيارًا، بل فعل نجاة. لقد عشت سنينًا أتنقل بين أشكال متعددة من الولاءات، وتورطت ـ أحيانًا عن قناعة، وأحيانًا بدافع الخوف ـ في الدفاع عن ماضٍ لم أكن يومًا جزءًا منه، وفي ترديد شعاراتٍ لم أفهمها، لكنها كانت جزءًا من اختبار الانتماء، ومنطق النجاة داخل القطيع. كنت أظن أنني أُدافع عن مقدّس، عن إيمان، عن تراث، عن هوية، لكنني في العمق كنت أُكرّس سجني، وأُعيد إنتاج قيودي، وأقف في صفّ من اعتبروا الشك خيانة، والتفكير جرمًا. وحين بدأت الأمور تنفلت من حولي، وحين شاهدت الموت يُرتكب باسم الإيمان، والظلم يُبرَّر باسم الهوية، والفساد يُشرعن باسم الولاء، انكسرت داخلي صورة الماضي الذي كانوا يبيعونه لنا كأنه الجواب لكل الأسئلة. ثم اكتشفت متأخرًا أن الماضي الذي أرادوه لنا، لم يكن سوى بنية سلطة، مؤسسة تُعيد إنتاج نفسها عبر العاطفة، والخوف، والشعور بالذنب. وأن الخلاص منه لا يعني فقط تجاوز أحداثه، بل كسر سلطته على وعينا. كنت أظن أنني حين أتمسك بالماضي فإنني أُحافظ على استمرارية ما، على هوية، على جذور، لكنني أدركت أنني فقط كنت أُعيد ربط نفسي بسلسلة عبودية ذهنية، تجعلني دائمًا مترددًا، خائفًا، خاضعًا لابتزاز الذاكرة. فالذاكرة ليست دائمًا وعاء حكمة، بل قد تكون فخًا مموهًا بالحنين، يعيدك إلى مواقع الضعف، ويغذي فيك عقدة الذنب تجاه من خذلوك، ثم قالوا لك إنهم كانوا يحاولون إنقاذك. من هنا، كان قراري لا بالتجاوز فقط، بل بالهدم. نعم، هدم الماضي بكل ما يحمله من أوهام مقدسة، وتصفية الحساب معه، لا بنية النسيان، بل بنية التحرر. لأن الماضي لا يموت حين نكف عن الحديث عنه، بل حين نكف عن الإيمان بسلطته. ولأني لم أعد أريد أن أعيش في ظل ذاكرة غيري، ولا أن أُعيد تمثيل أدوارٍ كُتِبَتْ لي دون أن أختارها، اخترت أن أنفصل عن هذا الإرث الذي لم يعد يمثلني. ليس كرهًا له، بل احترامًا لذاتي التي تستحق أن تبني عالمًا جديدًا، بلا وصايا، بلا أشباح، وبلا أوهام منمّقة عن “الأفضل” الذي مضى. حقيقة هذا الموقف ليس إعلان تمرّد أحمق، ولا صرخة غضب عابرة، بل موقف فكري وأخلاقي. موقف يقول إن الإنسان لا يكون حرًّا إلا إذا أعاد بناء علاقته مع الزمن، لا كمجرى محتوم، بل كمادة يعيد تشكيلها بإرادته. الماضي لا يُعطينا هويتنا، بل نحن من نمنحه معنى حين نختاره، أو نرفضه، أو نعيد تأويله. وأنا اخترت الرفض، لأنني لا أؤمن أن ما مضى يمكن أن يكون نموذجًا لما يجب أن يكون. فكلما زاد تمسكي به، كلما شعرت بأنني أُقلّص مستقبلي، وأُقزّم حاضري، وأُرضي ماضينًا لم يعطني سوى الخوف والخذلان. وأعترف على بينة، بأني لست وحدي من يشعر بذلك، فأنا أعلم أن كثيرين حولي يعانون من التمزق ذاته، من الحنين الممزوج بالمرارة، من الرغبة في القطيعة والخوف منها في آنٍ معًا. لكنني وجدت أن الاستمرار في الخوف لا يعني سوى البقاء في الدائرة نفسها. وما دامت النتيجة واحدة، فالهدم أرحم من التكلّس، والقطيعة أصدق من التواطؤ مع كذبة كبرى اسمها “الاستمرارية”. الهدم هنا ليس دمارًا، بل بداية. بداية حقيقية، لا تبدأ من مرجعية الخارج، ولا من قداسة الماضي، بل من سؤال الذات: من أنا، وماذا أريد أن أكون، وكيف أعيش من دون قوالب جاهزة، ومن دون أن يُملي عليّ أحد شكل حياتي أو شكل موتي. في “اعترافات”، هذه لم أرد أن أُخبر أحدًا بحقيقة نهائية، ولا أن أُقدّم نموذجًا يحتذى. أردت فقط أن أقول إنني عشت تجربة، تألمت، خُدِعت، وتورّطت، ثم قررت أن لا أكون أسيرًا لما مضى. أردت أن أقول إن الخلاص لا يأتي من الأعلى، ولا من الماضي، بل من الداخل، من القرار الفردي في أن تقول: كفى. كفى خوفًا من السؤال، وكفى إدمانًا على الحنين، وكفى خضوعًا لما لم أعد أؤمن به. لقد كان الماضي نهرًا ملوثًا، غصت فيه كثيرًا، لكنني الآن أخرج منه، عاريًا ربما، مُرهقًا حتمًا، لكنني حرّ. **** العراق، في هذا السياق، كان مسرحًا مركزيًّا لصعود هذه الظواهر. بعد الغزو الأميركي وسقوط النظام السابق، تفكك البلد إلى هويات فرعية، وأُعيد تشكيل المشهد السياسي على أساس طائفي ومذهبي. ظهرت أحزاب تمتلك أيديولوجيات دينية متشددة، بعضها اعتمد على فتاوى فقهية قديمة أو متجددة، وبعضها تبنّى رؤية دينية حدّية تعادي الدولة وتؤمن بولاءٍ فوق وطني، وغالبًا فوق بشري، حيث الولاء الحقيقي ليس للوطن ولا حتى للمجتمع، بل لفكرة ميتافيزيقية يُراد لها أن تكون مشروعًا سياسيًا. من هنا، يصبح القتل ليس فقط مقبولًا، بل واجبًا دينيًا، وتُلغى المسؤولية الأخلاقية باسم العقيدة، ويُعاد تعريف الجريمة كعملٍ “مقدّس”. في هذه المعمعة، ما يُثير القلق حقًا، ليس فقط في صعود هذه الحركات، بل في تبني جمهور واسع لها، جمهور يشعر بالإقصاء والخذلان، ويبحث عن معني لحياته وسط عالمٍ ينهار من حوله. هنا تلعب مشاعر الضياع واللاجدوى دورًا حاسمًا، وتصبح “العقيدة” المتطرفة بمثابة المعنى الذي يُعيد تماسك الذات المتصدعة. لا عجب أن غالبية المنضمين لهذه الجماعات هم من الشباب، الممزق بين حاضرٍ ميؤوس منه، ومستقبل غامض، وماضٍ يُعاد تخليقه كأسطورة خلاص. وهنا، يظهر أن المسألة ليست فقط فكرية أو دينية، بل وجودية بامتياز. في قلب هذه الفوضى، تقف شخصيات تتصرف كأنها مبعوثة العناية الإلهية، تبني مجدها على جراح الناس، وتحتمي بالدين لتشرعن العنف. عزت إيماني، كمثال تحليلي، يُمثل نموذجًا لمن يوظّف الدين كدرعٍ أيديولوجي، لا كمرجعية روحية. تصرفاته لا يمكن قراءتها إلا ضمن هذا السياق المأزوم، حيث يُعاد إنتاج الرموز على أساس “التضاد” لا “التلاقي”، وعلى أساس “الطهر” مقابل “النجاسة”، وكل من يخرج عن الإطار المحدد مسبقًا يُعتبر تهديدًا، بل يستحق الإبادة المعنوية، وربما الفيزيائية. ما يفعله إيماني وأمثاله هو أنهم يزرعون في الوعي الجمعي فكرة وجود حرب كونية بين الحق والباطل، وكأنهم يحتكرون تعريف “الحق”، وكأن الباطل يسكن في أي اختلاف عنهم. في هذا الإطار، تتماهى الميتافيزيقا مع السياسة، ويُصبح التديّن وسيلة سيطرة لا تحرر. بل تُقلب الوظيفة الدينية نفسها: بدلاً من أن تكون الدينونة مسألة فردية مرتبطة بما بعد الموت، تُصبح وظيفة دنيوية، وشرعية تنفيذ الحكم تنتقل من الإله إلى ممثليه المزعومين. حين تُصفّى المجتمعات من التعدد، وتُعاد هيكلتها على أساس عقائدي صارم، فإننا لا نتجه نحو مجتمع الإيمان، بل نحو مجتمع الطاعة العمياء. في مثل هذا النظام، لا مجال للفرد، ولا لمساحة الاختلاف، ولا حتى للتأمل الحر. يتحوّل العقل إلى خطر، والتساؤل إلى خيانة. ويصبح القتل، لا باعتباره سلوكًا منحرفًا، بل كفعل مقدس، نابع من منطق يؤمن بأن الفكرة أهم من الإنسان، وأن العقيدة تسبق الحياة. أما من منظور فلسفي، فأن هذه الظاهرة تطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين المقدس والعنف، بين الإيمان والسيطرة. هل يمكن للدين أن يكون منزّهًا عن العنف إذا ظل مرتبطًا بالسلطة؟، وهل يمكن للإنسان أن يؤمن دون أن يحوّل إيمانه إلى سيف؟، في الحقيقة، لا مشكلة في الإيمان ذاته، إلى حدٍ ما بل في تحويله إلى هوية مغلقة، إلى جدار فاصل، إلى معيار للحكم على الآخرين. هنا تُولد الفاشية الدينية، لا كاختلالٍ عرضي، بل كنتاج طبيعي لمنظومة فكرية ترى المختلف تهديدًا، والاختلاف خطيئة. ومن هذا الإدراك بالذات، نشأ في داخلي موقف لم يعد قابلًا للمساومة. فقد كان ما جرى، وما رأيته ولمسته من عنفٍ مُشرعن، وكراهيةٍ مغلّفة بآيات، (على اعتباري أعمل في الصحافة، ومحسوب على المفكرين، المثقفين، ولدي مجموعة من الكتب الأدبية والنقدية) هو ما عزز قراري النهائي: لا بد من هدم الماضي، والخلاص منه إلى الأبد. لم يعد هذا الماضي بالنسبة لي مستودع حكمة أو أصلًا يجب الرجوع إليه، بل تحول إلى عبء وجودي يمنعني من التنفس، من التفكير، من أن أكون إنسانًا حرًا. اكتشفت متأخرًا أن الماضي، كما يُقدَّم لنا، ليس إلا اختراعًا سلطويًا يُعاد إنتاجه لخدمة الواقع السائد، ولقمع أي إمكانية لتحوّل جذري في البنية الفكرية والروحية للإنسان. ومن هنا لم يكن قراري ترفًا فلسفيًا، ولا نزوة ثائرٍ مرهق، بل ضرورة وجودية. لا يمكن أن أولد من جديد وأنا محاط بأشلاء سرديات عفا عليها الزمن، وسلاسل من الشعور بالذنب، وحنينٍ مسموم إلى عالم لم يكن يومًا عادلًا ولا رحيمًا. الخلاص لا يكون بالنسيان، بل بالقطيعة الواعية، الواعية جدًا، مع كل ما يُعاد إنتاجه كقدر لا فكاك منه. لا أريد أن أُعيد اجترار الماضي، بل أن أُعيد كتابة علاقتي بالزمن، أن أعيش الحاضر بلا قيود الذاكرة الملوّثة، وأن أستقبل المستقبل بلا خوذة أيديولوجية تُملي عليّ أين أضع قدمي. إن "اعترافات" هو خلاصة هذا التمزق، وهذا التحوّل. ليست مجرد قصة ذاتية، بل مواجهة فكرية مع الأسئلة التي فرّ منها الجميع: ماذا لو كان الماضي عدونا؟، ماذا لو كان الفكاك منه هو الطريق الوحيد للحقيقة؟، ماذا لو كان الصمت عنه تواطؤًا؟. لقد اخترت أن لا أتواطأ، وأن لا أصمت، وأن لا أُزيّن القيود. اخترت الهدم، لا بدافع الكراهية، بل بدافع الحب للحياة كما يجب أن تكون: حرّة، نقيّة، بلا أصنام. اخترت أن أقول ما لم أقدر على قوله سابقًا، لأنني لم أكن أملك حريتي. أما الآن، فإنني أكتب لا كضحية، بل كشاهدٍ نجى من الطوفان، وأقسم ألا يعود إليه، ولا إلى رموزه، ولا إلى وهمه الجميل. هكذا فقط يبدأ المعنى الحقيقي. وأخيرًا... أنا أكتب هذا للأجيال القادمة، اليوم لا يقرأ أحد ما نكتب، إلّا القليل، القليل جدّا، لعله يأخذ عبرة، أو درسًا من الدروس التي تعلمناها، نحن هذا الجيل الذي اكتوى بنار التطرف، والايديولوجيات. وأتعزى بالفيلسوف الالماني آرثر شوبنهاور، إذ حين أصدر كتابه الكبير "العالم ارادة وتمثلا" لم يقرأه إلّا بضعة أشخاص معدودين على أصابع اليد الواحدة، فأصيب بردة فعل معاكسة. وبالتالي فإن هذا الفيلسوف أستاذ التشاؤم، صار علمًا من أعلام الفكري الإنساني، لكن بعد حين.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمك
...
-
إلى أين يمضي الفساد في العراق
-
ليس دفاعًا عن ترامب
-
احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
-
هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
-
أياد الطائي… ضحية وطن
-
من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
-
حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
-
نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
-
حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
-
في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
-
(المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
-
دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
-
دلالة الزمن في السرد
-
المثقف المقولب: السلطة بصوت ناعم(36)
-
المثقف في مواجهة القوالب الأيديولوجية(35)
-
النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)
-
المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)
-
نبيّ الخمرة ونقّاد الوهم: تفكيك قصة (دمية راقصة) للكاتب عبد
...
-
تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)
المزيد.....
-
الإخوان المسلمون ما بعد غزة بين عبء التاريخ واستحقاقات المرا
...
-
مصدر قياديّ في -فتح-: شعبنا سيتصدّى للشرذمة التكفيريّة ونطال
...
-
بزشكيان: على الدول الإسلامية أن تخطو كجسد واحد على طريق السل
...
-
الكوتا المسيحية في دوامة صراع .. خلافات وإتهامات بالاختطاف ا
...
-
عراقيون يحمّلون الطائفية مسؤولية اغتيال المرشح البرلماني صفا
...
-
من 5 بيوت إلى 200 ألف مسلم.. حكاية الجالية الإسلامية في كالغ
...
-
لمسة أمل من الفاتيكان: 5 آلاف جرعة دواء في طريقها لأطفال غزة
...
-
الملكة رانيا تختار الأناقة الكلاسيكية في لقاء بابا الفاتيكان
...
-
كيف نجا الإسلام في البوسنة والهرسك؟
-
الملك عبدالله يلتقي بابا الفاتيكان ويدعوه إلى زيارة الأردن
المزيد.....
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
المزيد.....
|